مصلحة قومية أم تحسين العالم؟
ميشيل كيلو
هناك مثل أمريكي شائع يقول: ما يناسب أمريكا يناسب العالم . اعتقد من قال هذا المثل أن مصلحة أمريكا القومية ومصالح العالم شيء واحد، وأن من يعترض على الأولى أو يعمل ضدها يضر بالثانية . إذاً، من غير الجائز أن يكون لدى الآخرين مصالح مغايرة لمصلحة أمريكا القومية، وإلا اعتبرت ذلك موقفاً عدائياً منها، وذكرتهم بطرقها العنيفة بأن في مصلحتها القومية مصلحة العالم كله .
وهناك قاعدة في السياسة الأمريكية ترى أن انتشار أمريكا العالمي يجعل مصلحتها القومية عالمية الطابع، فلا يحق لأحد تقييدها بحدود وطنية أو قومية أو بأي تدابير من أي نوع إجرائي، فإن تداخلت مع مصالح الغير داخل نطاقه الوطني الخاص، كان من المحتم أن تكون لها أولية عليها، وإلا خرج على منطق الأشياء والضرورات وناله أذى شديد . لا حاجة إلى القول إن مصلحة أمريكا القومية هي حقاً مصلحة عالمية، وقد أظهرت الأزمة المالية الأخيرة، التي بدأت فيها وانتقلت بسرعة إلى بقية العالم، كم أمريكا عالمية، وكم العالم أمريكي، وأبرزت مرة أخرى حساسية ما تفعله أمريكا بالنسبة إلى العالم، وعظم المسؤوليات الملقاة على عاتقها تجاهه، وحجم استهتارها بحاجاته وأوضاعه .
تقليدياً، انقسمت السياسات الأمريكية، في المسائل المتصلة بالمصلحة القومية، إلى تيارين يتفقان على أوليتها من الناحية الاستراتيجية، ويتباينان حول سبل تغليبها على غيرها من المصالح:
تيار يرى في المصلحة القومية الأمريكية بعدها الخارجي، فهي شبكة مصالح تتخطى حدودها وتصطبغ بصبغة عالمية كما تصبغ العالم بصبغتها، فلا بد أن يعد تجاوزها خطاً أحمر يحق لأمريكا معاقبة من ينتهكه .
وآخر يرى في تحسين الحاضنة العالمية لمصالح أمريكا القومية هدفاً يجب متابعته بكل دأب وتصميم، وإعطاؤه الاهتمام الكافي، حتى في الأزمنة التي تخلو من تحديات وتهديدات تستهدفها، وتنخرط أمريكا خلالها بعلاقات متبادلة متنوعة الأشكال مع مناطق الكون المختلفة، للحصول على حصة الأسد من أي شيء وفي جميع الأحوال . يقول أنصار هذا التيار: من أجل تحسين وضع المصلحة القومية الأمريكية لا بد من إقناع، أو اقتناع، الآخرين بأنها مصلحتهم أيضاً، وأن في خدمتها نفعاً لهم، وإلا ضيعوا فرصاً مجزية ودخلوا في مشكلات مع الولايات المتحدة تلحق بهم ضرراً شديداً .
بالنسبة للتيار الأول: تعلو المصلحة القومية الأمريكية على أية مصلحة أخرى، فإن وجدت مصالح قومية منافسة، وجب على أمريكا استنفار قدراتها المختلفة والعمل ضدها . حين يعلن الرئيس الأمريكي أن النفط مصلحة قومية أمريكية، فإن إعلانه يعادل فرض حظر يمنع أية جهة دولية من الاقتراب منه، وإلا واجهت خطر الدخول في صراع مفتوح مع أمريكا . ثمة استثناء من هذه السياسة، ترتبت عليه نتيجة مقلقة كانت تستدعي تدخلاً عربياً حازماً، إلا أنه لم يحدث، فقد أعلن الرئيس باراك أوباما أن السلام بين العرب و”إسرائيل” مصلحة قومية أمريكية، لكنه امتنع، للمرة الأولى ربما في تاريخ السياسة الأمريكية الحديثة والمعاصرة، عن اتخاذ أي إجراء ضد “إسرائيل”، التي رفضت التجاوب مع إعلانه وواصلت سياسات اعتبرها ضارة بمصلحة أمريكا القومية . السؤال هو: هل مصالح “إسرائيل” فوق مصلحة أمريكا القومية، أم أن أوباما لم يتحرك، لأن طبخة التسوية لم تنضج، ولأنه سيتحرك في الوقت المناسب، حين يتأكد فعلاً أن موقف “إسرائيل” النهائي أخذ يضر حقاً بالمصلحة القومية الأمريكية؟ في الحالات المماثلة، كان إعلان رئيس أمريكا يعتبر إلزاماً للآخرين بانتهاج سلوك محدد في مسائل معينة . ومن المعروف، مثلاً، أن اقتراب السوفييت، بجبروتهم وقوتهم، من مناطق النفط العربية كان يعد، طيلة حقبة الحرب الباردة، سبباً للصدام مع أمريكا، التي أعلنت انفراد أمريكا بثرواتها، مصلحة قومية، فأحجم الجبار السوفييتي عن الاقتراب منها، وعندما دخلت جيوشه أفغانستان، بدا كأنه دمر التوازن الدولي، وتلقى تهديدات غاضبة توعدته بعقاب لا يرحم، مع أن البيت الأبيض كان في يد إدارة معتدلة قادها جيمي كارتر، غالباً ما اتهمها الأمريكيون بالضعف الشديد . مرة أخرى: المصلحة القومية الأمريكية هي، في نظر هذا التيار، خط أحمر لا يجوز لأحد الاقتراب منه، ناهيك عن تجاوزه، وعلى العالم الانصياع لها واحترامها، كي تبقى مصلحة أمريكية صرفاً، لا شريك لأمريكا فيها، فإن حاول أحد التعرض لها تعرّض هو لردود أفعال قاسية، تتضمن ضربات عسكرية وأعمالاً مسلحة وتخريبية منظمة . يفسر هذا، لماذا كانت الأزمات التي نجمت عن انتهاك ما اعتبرته أمريكا مصلحتها القومية هي الأعقد والأطوال والأصعب والأكثر عنفاً خلال التاريخ الحديث . بقي أن أضيف أن المصلحة القومية الأمريكية ليست دوماً من طبيعة اقتصادية، وأنها تتصل عموماً باعتبارات ومواقع من طبيعة استراتيجية، أو بنظم سياسية وتطورات إقليمية ودولية، وبظواهر عسكرية وتقنية، وثروات دفينة وأموال مخزونة . . . الخ .
مثّل التيار الثاني وجهة نظر أكثر هدوءاً وسلمية في العلاقات الدولية، وقال بإمكانية التفاهم مع الآخرين على سبل تضمن مصالح أمريكا القومية، وإنه يجب أن تكون لهم مصلحة في خدمتها، إما لأن أمريكا تحميهم عسكرياً، أو تساندهم سياسياً، أو تقدم لهم مزايا اقتصادية وتقنية وخدمات تنفرد بالقدرة على تقديمها، فلا بأس إن هي أشركتهم في خدمة مصلحتها القومية، أو اعتبرت مصالح بعضهم جزءاً منها . يقول أنصار هذا التيار: إن لدى أمريكا دوماً ما يكفي من الوقت لحماية مصلحتها القومية، فإن لم تنفع الوسائل العادية، كان بوسعها الذهاب دوماً إلى الوسائل العسكرية . في مقابل هذا الرأي، يقول أنصار التيار الأول: من الضروري أن يعرف أعداؤنا مسبقاً ما سنفعله ضدهم، إن انتهكوا مصلحة قومية أمريكية، ويجب ألا يكون لديهم أي هامش مناورة في أي شيء يخص هذه المصلحة، وألا نعطيهم حرية حركة قد توهمهم بأنهم غدوا أنداداً لنا .
تتوزع مصالح الولايات المتحدة القومية على أربع جهات الأرض، وبما أنها متناقضة غالباً مع مصالح الآخرين، فإن سياسات واشنطن الخارجية تتخذ طابعاً عدائياً تجاههم، يجعل من الصعب تحويلها من سياسات تفرض مصلحة قومية خاصة بأي ثمن وحيثما كان، إلى سياسات تحسن أوضاع العالم، ليكون في تحسينها التوفيق المطلوب بين مصالحها ومصالح بقية البشرية . هذا التحول من التركيز على الأنانية القومية إلى الاهتمام بالعالم، يعد أمنية عالمية، لكن تحقيقها يتطلب قيام قوى عالمية بوسعها فرضه على واشنطن، أو قيامها هي بإعادة تعريف مصلحتها القومية وما يوضع في خدمتها من سياسات خارجية وعسكرية، بحيث تتخلى عن نزعتها إلى التدخل خارج مجالها السيادي، كي لا تفسد العلاقات الدولية، وتهدر ثروات العالم، وتكلف البشرية الكثير من الدماء والدموع . بما أن العالم يفتقر إلى هذه القوى، فإن الاحتمال الأول صعب أو مستحيل الوقوع في زمن منظور . يبقى الاحتمال الثاني: قيام أمريكا بتحسين أحوال العالم . وكان أوباما قد تعهد في خطب متكررة بالعمل في سبيله، ثم تراجع عن تعهده، ربما لأنه اطلع عن كثب على حقائق وأسرار المصلحة القومية الأمريكية، أو لمس استحالة التوفيق بينها وبين مصالح العالم، فقرر، كمعظم من سبقه من رؤساء، اعتبار مصلحة بلاده القومية مصلحة كونية يجب إعطاؤها أولية مطلقة على أية مصلحة أخرى، ولا بد من فرضها بالقوة على الآخرين .
هناك تعارض شديد بين مصلحة أمريكا القومية ومصالح بقية العالم، يسمم العلاقات الدولية ويقوض توازناتها، ويجعلها علاقات سيد/ عبد، تقيم وتحمي نظاماً من التفاوت تجلس واشنطن على قمته، وتسهر على استمراره بما لديها من قدرات وخبرات تدخلية فريدة، وقوة لا قيد عليها . بهذا الواقع، تحبط أمريكا محاولات الآخرين لتحسين العلاقات الدولية وأحوال العالم، وتجبرهم على التصرف كأنهم وحوش في غابة يفترس فيها القوي الضعيف .
ليس صحيحاً أن ما يناسب أمريكا يناسب العالم . وليس صحيحاً أيضاً أن تحسين أحواله رهن بانتهاج أمريكا سياسات مثالية، وبالحد من سياساتها البراغماتية أو الواقعية . الصحيح أن أمريكا ليست العالم، والعالم ليس أمريكا، ومن غير الممكن أن ترقى مصلحتها القومية إلى مرتبة مصلحة عالمية كونية، هي مصلحة البشر في كل مكان، إلا إذا نتجت هذه المصلحة عن تفاهم كوني ملزم، يشارك الجميع في بلورته وتعيين سماته، موضوعه حاضر العالم ومستقبله . وإلى أن يحدث هذا، ستسقط قنابل أمريكية كثيرة على العالم، وسيضحى بثروات ومصالح عالمية كثيرة على مذبح مصلحة قومية خاصة تضع بلداً بعينه هو أمريكا فوق العالم، وتعطيه أولية مطلقة عليه، في حين تجعل ثرواته لها، وإرادته خاضعة لرغباتها، ومصيره رهن تعسفها وعنفها .
الخليج