الدولة لا يمكنها الإفلاس
سمير العيطة
الدولة ليست شركة. الدولة كائنٌ ذو سيادة. والدولة لا يُمكِن أن تُفلِس. فعدا أنّها تملك أصولاً ثابتة تتفوّق بأشواط على حجم اقتراضها، يبرز السؤال انطلاقاً من هذا البعد الأساسيّ عن كلّ الهرج في الخطاب عن إفلاس دولٍ أوروبيّة وعن السياسات الذي يجب اعتمادها في المرحلة القادمة.
لنأخذ قصّة ديون اليونان مثلاً. فبعيد أن استلم حزبٌ “اشتراكيّ” سدّة الحكم في هذا البلد، ظهرت تباعاً ديونٌ سياديّة خبّأتها الحكومات اليمينيّة المتعاقبة السابقة، والتي اتفق الجميع على فسادها الشديد؛ وكانت في ذلك متواطئة مع كُبريات المصارف الأمريكيّة والأوروبيّة. وبدأت حملة ضغوط رهيبة على هذه الحكومة، من قبل المصارف نفسها ومن قبل القائمين على الأسواق ومن الحكومات الأوروبيّة (اليمينيّة في أغلبها)، كي تترك البرنامج “الاشتراكي” الذي وعدت به انتخابياً، وتنطلق في برنامجٍ تقشفيّ للنفقات لم يسبق له مثيل؛ مع تهديدات بترك العملة الأوروبيّة الموحّدة (اليورو، وهو تهديدٌ ليس له أيّ معنى عمليّ على المدى القصير) وخطابٍ شبه عنصريّ نما في الدول الأوروبيّة الكبرى وفي الأسواق حول الكسل “الطبيعيّ” لليونانيين.
الأنكى من ذلك، أنّه كلّما قامت الحكومة بخطوةٍ في اتجاه التقشّف المطلوب، متواجهةً مع جماهيرها الذين “خانتهم”، كلّما ازدادت معدّلات الفائدة على ديونها، لتزيل أيّ أثرٍ من الوفر المالي الذي يمكن تحقيقه؛ وكلّما تدلّلت السيدة أنجيلا ميركل، عن القيام بخطوات إنقاذيّة أو ضدّ مضاربات الأسواق باسم التضامن الأوروبي.
ما ليس مفهوماً هو لماذا لم تشرَع الحكومة على العكس، كما فعلته حكومة دبي أمام استحقاقٍ قادمٍ لدينٍ لا يمكن سداده، إلى إعلان أنّها “تريد إعادة جدولة دينها” (دون أن تطرح مسألة الخروج من منطقة اليورو الذي لا معنى له). حتماً كان لمثل هذا الخيار وقع الصاعقة في الأسواق حينها، مع إحراج السيّدة ميركل والسيّد ساركوزي والاتحاد الأوروبي على السواء؛ إذ معناه أنّ على المصارف التي تحمل الدين اليوناني، وهي أصلاً مصارف ألمانية وفرنسيّة، أن تعيد تقييم أصولها المالية؛ أي سيكون على حكومات بلدانها أن تهبّ لإنقاذ مصارفها مرّة جديدة خلال عامين، وهذا ما لا تستطيع احتماله سياسيّاً. في النهاية، لا منّة لألمانيا وفرنسا في ضمان قروضٍ جديدة بأسعار فائدةٍ مخفّضة لليونان، فهي في كلّ الأحوال ستدفع… تبعات ما فعلته مصارفها والمصارف الأمريكيّة.
وكان مثل ذلك الخيار سيضع الأمور على طاولةٍ مختلفة، قاسية النتائج بالنسبة لليونان، ولكنّ الأمور قاسية أصلاً بالنسبة لها، ولكنّه كان سيهزّ البيت الأوروبي بما فيه الكفاية لإعادة تقييم سياسات المصرف المركزي الأوروبي ومنهج المفوضيّة، والمسار العام للعلاقة “السيّئة” بين الحكومات الأوروبيّة وعالم المال.
تتضح تداعيات هذا الأمر، في النقاش الصاخب الذي اعترى قمّة مجموعة الثمانية G8 الأخيرة، بين سياسة أمريكيّة تريد الذهاب على المدى المتوسّط إلى توزانٍ في موازنتها العامّة، ولكنّها لا تريد التضحية على المدى القصير ببرامج “التحفيز الاقتصادي”، الذي يتطلّب زيادةً في الإنفاق العام لإعادة وتائر النموّ، وبين حكومات أوروبيّة (ألمانيا وفرنسا أصلاً) تضع الأولويّة لخفض النفقات وإطالة سنّ الخروج إلى التقاعد، وخصخصة أنظمة الضمان الصحيّ وتأمين الشيخوخة، وخفض أجور الموظّفين الحكوميين. والمفارقة أنّ الدول التي خفّفت أنظمتها الاجتماعية من آثار الأزمة عليها، تودّ التخلّي عنها للّحاق بركب الأخرى التي تأتي عليها الدورات الاقتصادية بآثارٍ كبيرة، هبوطاً… ولكن أيضاً صعوداً.
وبيت القصيد هو أنّ فرصة ترهيب المواطنين من أوضاع موازنات بعض الدول الأوروبيّة سانِحة، لكي يتقبّلوا أيّ شيء، وخاصّةً العودة عن العقد الاجتماعي الذي خصّ أوروبا بنموذجه بعد نضالات أوائل القرن العشرين وبعد الخروج من الحرب العالميّة الثانية. وهكذا بدل فرض القيود على النظام المالي، الذي اعترف الجميع بأنّه “مجنون”، تأتي المحاولة – الناجحة حتّى الآن – لكبح دور الدولة أكثر. والمضحك في الأمر أنّ من يقود هذا التحوّل، هو مدير صندوق النقد الدولي، “الاشتراكي” الذي ما زال مرشّحاً ممكناً عن هذا التياّر للانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة القادمة، والذي لم يطرده الحزب الاشتراكي عندما تبنّى مواقفه الأخيرة.
اليابان ولبنان، المديونان بنسبٍ إلى ناتجهما تفوق اليونان وإسبانيا والبرتغال، ليسا في هذا الصدد. فمن يحمل دينهما العام هي مصارفهما الوطنيّة، التي لا تستطيع – الدولة ذات سيادة، على الأقلّ على أراضيها – أن تتلاعب بالدين العام كما فعلته المصارف الغربيّة بديون بعض الدول.
لكنّ اليمين الأوروبيّ لم يقُل كلمته الأخيرة، فها هو التقرير الذي سيصدر قريباً حول مشروع “مصرف الاستثمار المتوسطيّ” العزيز على قلب “الاتحاد من أجل المتوسّط” الساركوزيّ يعدنا أنّ إحدى مهمّاته الأساسيّة ستكون تسهيل إمكانيّة طرح الديون السياديّة للبلدان العربيّة المتوسطيّة… في الأسواق العالميّة. فعلاً، لم يتعلّموا شيئاً. وكيف يمكن توقّع العكس من أناسٍ يأتون للبنان بمشروعٍ: أنّه سيكون مركزاً للأبحاث العلميّة المتوسطيّة وسيترأسه، مقابل أن يقبل أن تكون نيابة الرئاسة… لإسرائيل.
الدين العام ليس نهاية التاريخ والدولة. بل هو في الحقيقة وسيلةً لها، يجب إدارتها بحكمة، لإطلاق سياسات مضّادة للدورات الاقتصاديّة ولتحفيز النموّ وتفعيل التشغيل خالقةّ الثروة. وفي الوقت الذي تنطلق فيه معظم الحكومات العربيّة في الهرج والمرج حوله، يجب تذكيرها أنّ المشكلة لديها لا تكمن في الإنفاق بقدر ما هي في الإيرادات (الضرائبيّة)، الذي يمكن أن تكون لها شرعيّتها الشعبيّة إذا ما قدّمت مقابلها خدمات وسياسات فعّالة؛ وأنّ سياسات “الإصلاح الهيكليّ” والتقشّف في الموازنات وخصخصة الخدمات العامّة لا تعني شيئاً سوى التخلّي… عن سيادة الدولة.
سمير العيطة: اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم A Concept mafhoum, www.mafhoum.com