استراتيجية أوباما: تعزيز الوسائل والتمسك بالأهداف!
ميشيل كيلو
بعد عام على خطاب القاهرة، الذي بدا وكأنه يفتح منافذ ومسارات جديدة للسياسة الأمريكية في العالم عامة والإسلامي منه خاصة، صدر ما سمي إستراتيجية أوباما، أو ‘مبدأ اوباما’، جريا على عادة رئاسية قديمة، تجعل لكل رئيس أمريكي مبدأ تسير عليه إدارته، تستخلصه من قراءتها لسياسات ما سبقها من إدارات، تصحيحا وتدقيقا لمسار السياسة الخارجية الأمريكية، القائمة أصلا على الإمساك بالعالم، وتسييره في الوجهة التي تناسب واشنطن وتخدم مصالحها.
هناك أمور أقرت إستراتيجية الرئيس الأمريكي بضرورة التخلي عنها أو باستحالة تحقيقها، منها نظام القطب الواحد، الذي أضعف أمريكا، وتبين أن تطبيقه وإدامته يتجاوز قدراتها، وهو ما تأكد خلال العقدين الماضيين، التاليين لإعلان جورج بوش الأب عام 1990/1991 عن قيام هذا النظام، في حربي العراق وأفغانستان، حيث يظهر جليا عجز واشنطن عن خوض حربين محدودتي الشدة، تشن ضد بلدين فقيرين ومتأخرين، يفتقران إلى نظم سلاح حديثة يمكن مقارنتها ولو من بعيد بما لدى الجيش الأمريكي. هاتان الحربان أكدتا أن أمريكا أصيبت بضعف جعلها أسيرة عجز عسكري وسياسي في مناطق حساسة من العالم، تواجه فيها مشكلات مستعصية مع قوى محلية (إيران) ستؤثر نتائج صراعها معها تأثيرا حاسما على مكانتها وهيبتها الدوليتين، بينما ثبت عقم ما اعتادت ممارسته في حالات مماثلة من سياسات احتواء وتخويف، وضغط وعزل وعقوبات. بسبب ضعفها العسكري وعجزها السياسي، صار من الضروري أن تتخلى واشنطن عن إستراتيجية بوش الابن، التي قامت على توجيه ضربات عسكرية إستباقية إلى الخصم المفترض، وأولت أهمية أولى لدور الحرب في تحقيق أهداف السياسة الخارجية والمصالح القومية الأمريكية، وأخضعت جزءا رئيسيا من منظومتها الديبلوماسية وأساليبها لأنشطة وقرارات جنرالاتها، الأمر الذي ربط علاقاتها الدولية ومصالحها العالمية بقدرات جيشها، وجعلها تتأثر بمناحي ضعفه وقوته، نجاحه وفشله، على غرار ما سبق أن فعلته إمبراطوريات عديدة (روما على سبيل المثال)، وانتهى بانهيارها.
ثمة تصحيحان مهمان أدخلهما أوباما على سياسة الولايات المتحدة، هما:
– ضرورة زج جميع مكونات القوة الأمريكية موحدة في حلبة علاقاتها الخارجية، للنجاح في إبقاء العالم على الصورة التي تريدها واشنطن، وإن تطلب الأمر أن لا تمارس في كل مكان منه سياسات القطب الأوحد. ستستخدم أمريكا من الآن فصاعدا قوتها الاقتصادية وتفوقها العلمي / التقني وأيديولوجيتها، وثقافتها الشعبية، وستدخلها مودة إلى ساحة العلاقات الدولية باعتبارها عناصر سياساتها الخارجية، التي ستدعم حضورها العسكري في أرجاء العالم، وستسهم في تحقيق أهدافها وإن لم تلجأ الى قوتها المسلحة، التي ستبقى حاضرة وتحت الطلب، ولكن في النسق الثاني من وسائلها. إنها عملية تعديل تبطل جوانب من سياسة بوش، التي كانت تضع وسائل وعناصر قوة أمريكا تحت تصرف جيشها، أكثر الوسائل المتاحة لها قدرة على حسم معاركها. ستنوع أمريكا وسائلها، وستستخدمها كوسائل مستقلة عن القوة العسكرية، التي ستصير وسيلة تخويف وإرعاب لا غنى عن التلويح دوما باستخدامها. من الآن فصاعدا، ستسخر أمريكا وسائلها المتنوعة لتحقيق مصالحها، على أن تمدها قوتها العسكرية بالردع المعنوي الكافي، إن فشلت الوسائل الأخرى في بلوغ الهدف المعين لها، ووجدت نفسها مجبرة على إنضاج ظروف تكفل استخدام القوة بنجاح، أو عندما لا تبقى عندها وسيلة أخرى غير القوة لمواجهة وضع أو أزمة ما. ستكون الأولية للوسائل غير العنيفة، عند تحقيق أهداف السياسة الخارجية، فإن فشلت، كانت القوة العسكرية جاهزة، على أن تستخدم في إطار السياسة ولا تستعمل منفردة أو كقاطرة تجر وراءها ديبلوماسية ومصالح أمريكا أو تحل محلها، مثلما حدث زمن بوش.
– ضرورة الاستعانة بالقوى العالمية الأخرى، وتحميلها جزءا من أعباء سياسات أمريكا، في زحمة سعيها لإبقاء العالم على الصورة التي تريدها له، بالتوافق مع دوله الكبرى والعظمى. تتطلب هذه الضرورة الإقرار بوجود مصالح واجبة الاحترام تخص الدول الكبرى، وتحتم إقامة هيئة مشتركة معها تحدد أهدافا عامة ملزمة للجميع، وحصصا لكل دولة منها، وطرق تساند وتعاضد تتكفل بمواجهة المخاطر والتحديات، وخاصة العسكرية والاقتصادية منها. ترى أمريكا اوباما أن الإرهاب الدولي مترابط الأجزاء، وتقول بحتمية ترابط وتكامل الردود الدولية عليه، في كل مكان من العالم. وتؤكد كذلك ترابط اقتصاد العالم، الذي ظهر بصورة واضحة خلال الأزمة المالية الأخيرة، التي بدأت أمريكية ثم انتشرت بسرعة إلى اقتصاد الدول المختلفة، بما في ذلك أكثرها تأخرا وبعدا عن مراكز التقدم التقني والمالي. يبدو وكأن أوباما يرتب هذه الهيئة الدولية مع الروس والصينيين والأوروبيين، ويدخل إليها ممثلي دول تحتل موقعا مهما، أو تنجز تقدما اقتصاديا وازنا (الهند والبرازيل)، أو تمتلك إمكانات مالية كبيرة وثروات هامة (السعودية)، ضمن ما صار يعرف بمجموعة العشرين، وهي هيئة ذات مستويين قياديين تشكل أمريكا مركزا يدوران كلاهما حوله، وقوة تنسق علاقاتهما ومواقفهما. هذان المستويان هما: مستوى الدول السبع الأكثر تطورا، التي تقود الاقتصاد العالمي وتقرر نمط العلاقات الدولية، ومستوى الدول الأخرى، التي يجب أن تساندها فيما تفعل وتختار. وللعلم، فإن دور أمريكا في الهيئة لا يجعلها مساوية لأية دولة من دولها، وإنما يضعها في موقع ‘أول بين متساوين’، ويحولها إلى قوة مبادرة تنفرد بتقديم المقترحات ووضع خطط الهيئة.
من دولة هي القطب الأوحد في العالم، الذي لا رأي لغيره في أي أمر، والقادر على فرض ما يريده بما يمتلكه من إمكانات عسكرية متفوقة، إلى دولة تستشير غيرها وتستعين بقدراته وتتعاون معه لتحقيق أهدافهما المشتركة، إن كانت لا تتعارض مع مصالحها. هذه هي النقلة، التي يريد أوباما تحقيقها، والتي تعد في حكم المنتهية في مجالات، وفي طور أولى في مجالات أخرى، وتعتبر منجزة مع دول وفي مراحلها الأولية مع أخرى. ومع أن كثيرين يركزون على فشل أمريكا في فرض نفسها كقطب أوحد، ويرون فيه دليلا على إخفاق سياساتها، فإنهم يتجاهلون حقيقة أن أوباما يريد للقط الأمريكي اصطياد الفئران (باستعارة صورة دينغ سياو بنغ عن النظام) وأنه لا يهتم كثيرا للونه، وسيكون مستعدا دوما لتغيير أساليبه، إن فشل. يبقي أوباما سياساته وتدابيره العملية تحت رقابة تتسم بقدر من الواقعية يقر معه بالفشل ويبحث عن بدائل له تراعي تنوع العالم، وتسلك بصعوبة تحكم دولة واحدة في مصيره وضبط حركته، وتنطلق من أن تباين أوضاعه يلزمها باعتماد سياسات متباينة حياله، وبمتابعة تطوراته بدقة تمكنها من معرفة أوضاعه، لتطوير سياسات وخطط عملية تفيد منها، تعينها على جعل العالم قريبا قدر الإمكان من الوضع الذي تريده له، باستخدام مفاتيح إستراتيجية تبقيها قدر الإمكان في يدها، أهمها الإمساك بالعناصر الحاكمة للاقتصاد العالمي، وإدامة انتشار قوتها الإستراتيجية في نقاط تسيطر من خلالها على الأجواء والبحار والقارات، وفرض نمط ثقافتها الشعبية وأيديولوجيتها الاستهلاكية على الآخرين، والمحافظة على تفوقها التقني والعلمي، والسيطرة على وسائل الإعلام والترفيه ومصادر الأخبار والمعلوماتية على نطاق الكون … الخ، والهدف: جعلها مؤهلة للتحكم بحدود دنيا من التدخل في تطور العالم، الذي سيجد نفسه ملتزما بالإطار العام الذي تفرضه عليه، في معظم أصعدة وجوده وأنشطته.
تتمسك إستراتيجية أوباما بالأهداف الأمريكية، وتعمل على توطيد حاضنتها في كافة بلدان العالم . لكنها توسع وتنوع وسائل سيطرتها وطرق تصديها للمشكلات، بالاستعانة بالدول الأخرى، التي تصير شريكا من الباطن في أهدافها وسياساتها، وطرفا يتبنى خصوماتها ومعاركها، تمارس تأثيرها عليه دون أن يؤثر هو بالقدر نفسه عليها. ولعل سياسات واشنطن في ظل أوباما، وطرق عملها الجديدة، تظهر اليوم على خير وجه في مواقفها من إيران، التي تنازلت عن مبادلة اليورانيوم القليل التخصيب داخل أراضيها، واتفقت مع تركيا والبرازيل على تخصيبه خارجها، رغم أمر من آية الله خامنئي يمنع ذلك. لكن أمريكا لم ترحب بالحدث، الذي كانت قد وافقت عليه في رسالة رسمية بعث أوباما بها إلى رئيس وزراء تركيا السيد أردوغان، واندفعت إلى تكثيف جهودها لإفشال ما طلبته مستعينة بشركائها الدوليين، الذين تربطهم معها مصالح متشعبة تبدو أكثر أهمية بالنسبة لهم من مصالحهم الإيرانية.
خلال العام الأول من رئاسته، ركز أوباما جهوده على إخراج بلاده من حالة الضعف، التي اعترتها بسبب حربها على العراق وأفغانستان. واليوم، يريد استكمال سعيه إلى إخراجها من سياسات جورج بوش الابن وما سببته من أزمات داخلية وخارجية، ويبدو عازما على الذهاب إلى زمن مختلف، تحذرنا خبراتنا معه في فلسطين والعراق واليمن والصومال والسودان ولبنان … الخ من الثقة بما سيأتي به، وتنصحنا بإبداء الشك في ما سيحمله من نوايا وخطط، وبالتخوف من مراميه وأهدافه، التي سيكون وطننا العربي أحد أهم ساحاتها، فلا مفر من مقاومتها واتقاء شرورها، بكل ما لديه من قوة، وإلا كان أول ضحاياها، على غرار ما حدث في مرات كثيرة سابقة!.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي