سقوط البطل الوهم
د. علي محمد فخرو
الكتاب والمتحدثون من الإعلاميين العرب ينغمسون يومياً في عبثية تذكير الرئيس الامريكي بالوعود التي قطعها على نفسه منذ أكثر من سنة بشأن قضايا العرب والمسلمين، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. دعنا نذكرُ هؤلاء بقول للكاتب البريطاني سايرل كونولي من أن ذاكرتنا هي مثل بطاقات الفهرسة التي ما إن يستفاد بها كمراجع حتى تعاد إلى أمكنتها السابقة في صورة فوضوية غير مرتًّبة، وذلك من قبل سلطات خفيًّة لا نملك السيطرة عليها. وفي حالة ذاكرة الرئيس أوباما فان تلك القوى الخفيًّة التي تشوش ذاكرته وتنسيه ما قاله منذ حوالي سنة في اسطنبول والقاهرة هي ثالوث المال والصناعة والمؤسسة العسكرية في أمريكا، وبمساعدة انتهازية نفعية من قبل وسائل الإعلام الامريكية.
ولقد كتبنا مع غيرنا حال استلام أوباما لمركز الرئاسة بأن ذلك الثالوث الامريكي، المخترق من قبل الصهيونية والأصولية المسيحية الامريكية، لن يسمح قط لأحد من الرؤساء بالخروج على أوامره أو بتهديد مصالحه أو بتغيير المسار الإيديولوجي الذي وضعه قادة ذلك الثالوث لنظام الحكم الامريكي. وها أننا نرى الأيام تثبت بأن مخاوفنا من أن ينهزم الرئيس الامريكي أمام الثالوث كانت في محلٍّها. ولم ينهزم الرئيس فقط في ساحات العرب والمسلمين بل أيضاً في السًّاحة الامريكية الداخلية. ولقد أثبت الرئيس أوباما صحًّة النصيحة التي قدمها يوماً ما أحد مستشاري الرئيس الامريكي الراحل فرانكلين روزفلت للنًّاخب الامريكي: ‘إعط صوتك للرُّجل الذي يعدك بأقلٍّ الوعود، إذ أنه سيكون أقلُّ الناس مخيٍّباً لآمالك ‘ كان علينا، نحن العرب والمسلمين، أن نتذكر تلك النصًّيحة يوم صفًّقنا، وقوفاً وطويلاً، لوعود الزًّائر المحتفى به وصوًّتنا له كبطل إنساني ثائر تقدُّمي.
بل كان علينا أن نتعلم من تجاربنا المحليًّة في طول أرض العرب وعرضها، تجارب تصديق الوعود الكاذبة الفاجرة من قبل هذا المسؤول أو ذاك القائد، ذاك الحزب وأولئك العسكر، حتى اذا مرًّت الأيام تبيًّن أنها كانت وعوداً مخادعة مكتوبة على رمال الشاطئ لتمحوها أمواج البحر عند المدٍّ والجزر، وتغطٍّيها الأتربة والقاذورات عند هبوب الرٍّياح.
ما الذي بقي إذن من أوباما البطل الوهم على سبيل المثال بالنسبة للحق الفلسطيني، والأوجاع العراقية، والتدمير اليومي لباكستان والجنون العبثي فـــي أفغانستان، والتهديد الصهيوني الأمبريالي لإيران، وازدياد الفقر والجوع في العالم، ورجوع العادات الرأسمالية المتوحٍّشة، وحقوق الإنسان العربي والمسلم في ديار الغرب، وغيرها كثير؟ هل نحن إذن أمام ما قاله بحسرة المفجوع ادموند ولسون: أرني بطلاً وسأكتب لك مأساة ‘؟ أبدأنا نكتب صفحات المآسي والانكسارات في دفتر ذاك الذي ألبسناه، نحن العرب والمسلمين، ثياب البطولة حال انتخابه، لنراها شيئاً فشيئاً تتمزًق وتتًّسخ بفعل موت البطولة وانبعاث الإنتهازية السياسية والأخلاقية؟
هذا الإعلان لموت البطل ليس مرثاة لسياسي امريكي أيقظ الآمال في قلوب مواطنيه ثمُّ دفنها شيئاً فشيئاً، فهذا ليس من اهتماماتنا، لكنه إعادة تذكير للمرًّة الألف للكثير من كتاب ومتحدًّثي هذه الأمة بأن يتوقًّفوا عن تشتيت ذهن هذه الأمة وذلك من خلال دفعها، بقصد أو بغير قصد، ببلاهة أو بذكاء شيطاني، للتعلق بوهم يتردًّد عبر تاريخنا.. وهم التعويل على الخارج لحمل مسؤوليًّة حلًّ مشاكلنا في الداخل. السًّاحات التي أخفق فيها أوباما هي السًّاحات التي أخفقت فيها قياداتنا ومؤسسات مجتمعاتنا العربية أيضاً. والذين انتظروا مجيء البطل الأسمر عليهم أن يتوقًّفوا عن العيش في أحلام اليقظة.
يقال بأن السياسي الفرنسي كليمنصو كان يردٍّد بأن الحرب هي أكثر جديًّة من أن تترك للعساكر، وأن السياسي البريطاني أتلي كان يردًّد بأن السياسة هي أكثر جديُّة من أن تترك للسياسٍّيين. لكن الشعب العربي، عبر أكثر من ستًّين سنة ترك أموره السياسية والعسكرية والثقافية والإقتصادية والتنموية إمًّا في يد العساكر أو في يد السياسيين. أما آن لهذا الشعب العربي إذن أن يدرك بأن مصيره وحياته وكرامته ومستقبل وطنه هم أكثر جديُّة من أن يتركوا في يد أحد، سواء من الخارج أو الداخل؟ وأن يقتنع بالمبدأ الديمقراطي القائل بأن الشعب هو السيًّد وبان الحاكم في كل المستويات هو الخادم، وبالتالي أن يتصرًّف ضمن هذه المعطيات ليخرج من جحيم عذاباته وهوائه على نفسه؟
القدس العربي