ديكتاتوريون عرب تحت مقصلة الانترنت
وليد خليفة
إذا كان بإمكاننا أن نمحو كل إنجازات الجيش الأمريكي وقيادته في البنتاغون ونقول عنها ما نشاء ، وأياً كان موقفنا من هذه الإمبراطورية التي تمتد أجنحتها في كل أرجاء الكون ، فأننا لا ولن نستطيع أن نتجاهل ذلك الانجاز المذهل الذي غير ويغير وجه البشرية وعلى كل الأصعدة، أنه الإنجاز الذي بدأ في العام 1969 نتيجة لمشروع أربانت الذي أطلقته وزارة الدفاع الأمريكية ليسهل عليها التواصل مع جيوشها الموزعين في بقاع العالم بالصوت والصورة ، ومنذ ذلك اليوم دخل الانترنت في كل المجالات ، حتى غدا ضرورة حياتية في كل المجالات، وبات إنجاز البنتاغون سلاحا للتحرير مثلما هو سلاح للتدمير ، لكن المحصلة العامة أنه أحد مفردات التنوير في العالم أو على أقله في الدول المصابة بعاهات الاستبداد والمستبدين.
لم يكن يخطر في بال أحد من أبناء الشرق المتخم بمواجعه ، بأنه سيأتي يوم على عباد الله الموغلين في صمتهم و خوفهم من السلطات الأرضية والسماوية ، يتحررون فيه قليلا من كل هذا الصمت والخوف ، ويكسرون رحلة الألف عام من الخوف والانكسار والهزائم والصمت المريب بخطوة تحررية ، والكلام أهم الخطوات والقول هو ما يفرق الكائن البشري عن الكائنات الأخرى.
ما كان أشبه بالمستحيل حتى الأمس القريب بات ممكنا هذه الأيام ، ولعل أكثر تلك الشبيهات بالمستحيل، هي عملية سبر الآراء في المجتمعات المصابة بعاهات الاستبداد ومصادرة الرأي، حيث بات من السهولة جدا وعبر الانتقال بين عدة مواقع الكترونية مختلفة من حيث مصادر التمويل واتجاه الشحن العقائدي ، الوصول إلى تحليل تقريبي للآراء والأحوال في هذه المجتمعات ، التي كانت حتى وقت قريب يستحيل للمتتبع لشئونها ، التي هي في الغالب الأعم شجون ، أن يدرك ولو إيماءً آراء الغالبية العظمى من كائنات تلك الجغرافيات الكئيبة.
تتصدر المجتمعات العربية ، تلك التجمعات التي كانت حتى الأمس القريب معزولة عن كل شيء له علاقة بالتعدد والتعبير عن الرأي ، وكان مجرد توجيه سؤال : ما رأيك ؟ يثير حساسية مفرطة للسائل ويصييبه بحالات غير طبيعية ، أقلها الذعر والارتباك وليس آخرها الزيف والمهادنة وترديد الكليشيهات الجاهزة للإشادة بالزعيم الأبدي ، هذا أن استطاع السائل التسلل عبر ثقوب ضيقة ، ما أشيع تحت مسمى هامش الحرية في تلك المجتمعات ، وهنا تحضرني الطرفة التي تتكرر في مستوطنات كثيرة من مستوطنات العقاب الجماعي عن الرأي ، والتي مفادها أنه وبعد طرح السؤال لأكثر من شخص ، مختلفون في الانتماء المكاني بين الشمال والجنوب ، حول رأيهم عن ظاهرة معينة ، يجاوبهم ابن المستوطنة وببلاهة : ماذا يعني رأي ؟ ولكننا واليوم وبعد ثورة الاتصالات ، بتنا أمام ثورة لم تحقق انجازات كافية على أرض الواقع حتى الآن ، ولكنها توحي بأنها في طريقها لأن تتحول إلى إعصار تأتي على المستبدين وجحافل حرسهم وتبّعهم ، وخاصة حين نلاحظ كم الرعب الذي أصاب الأجهزة الأمنية السرطانية في مستعمرات العقاب الجماعي تلك ، أمام حالة الظهور الفجائي للآراء المختلفة ، أيا كان درجة عمقها وتأثيرها على تلك المستوطنات الراكدة والمستقرة بحكم الخوف المعمم ، لقد بدأ الخوف في الاندحار ، وما نراه اليوم ليس أكثر من بداية.
وصل الأمر بزعيم من زعماء مستوطنة من تلك المستوطنات ، أن يرافع عن نفسه ، ويكتب وينشر مقالات وتعليقات في مواقع عدة ومنها مواقع معارضة لحكمه وبأسماء وهمية ، يتهجم فيها على المختلفين معه ، ويبرئ ساحته من تهم كثيرة ، تؤكدها تلك المواقع وتقارير المنظمات الحقوقية والإنسانية العابرة للقارات ، و عبر أقلام المعارضين وبعض المتبعين لشئون مستوطنته العقابية ، وتساعدهم على ذلك وقائع الأرض طيلة حكمه الممتد منذ عقود، وعلاوة على ذلك يطالب الزعيم نفسه ، ضحاياه من رعايا مستعمرته بتعويضه عن الأذى والضرر الذي لحق به بسبب انشغاله بقمعهم طوال العقود الماضية بدون جدوى ، فيما يذهب زعماء آخرون ومن خلفهم رموز دينية وكهنة وتجار كلام من تلك الجغرافيات إلى إدانة الانترنت ، بوصفه منتجا غربيا غايته حرف المجتمعات العربية والإسلامية عن قيمها الأصيلة ومحو هويتها ، ولا يخلو مكتب أي زعيم من هؤلاء المتحكمين بأقدار الجماعات الأسيرة في معاقلها من أسماء المواقع المنتقدة والكتاب الذين يكتبون فيها ، وحتى التعليقات الواردة من مستوطناتهم ومحاولة الوصول إلى أحدث التقنيات التي تتيح للزعيم حجب تلك المواقع أو وضعها تحت الرقابة لاعتقال هؤلاء الكتاب والمعلقين وحتى قراء تلك المواقع أحيانا.
بالإمكان القول في يومنا هذا ، أن جميع المؤسسات والأقلام المجندة لخدمة الزعيم المستبد ، لتبييض صفحاته السوداء ، والكلام عن إنجازاته الوهمية والفارغة من أي مصداقية حولها ، قد فقدت ورقة التوت التي كانت تستر عريها ، ولم يبق لها من قيمة حتى في عيون المستبد نفسه ، أمام موجة الحرية التي أطلقتها شبكة الانترنت في العالم ، وأصبح للمواطن رأياً حتى إن لم يؤخذ به ولم ينتقل بعد إلى المأمول منه ، لذا اتجهت الحكومات الاستبدادية إلى تجييش أكبرعدد ممكن من كتاب وأنصاف وأرباع أميين وكتبة للدفاع عن كراسيها ، مستخدمين شتى الطرق لجذب الشباب ، وليس غريبا على أحد ، أن نسبة كبيرة من المواقع والمنتديات والفضائيات الإباحية والتي تروج للدعارة مدعومة ماليا من أركان الحكومات الاستبدادية في العالم العربي وأبناء جنرالاتهم وخدمهم ، ناهيك عن بعض الفضائيات الإخبارية التي لا تختلف عن سابقاتها سوى في شكل الاتجار بالبشر ، وبالامكان الرجوع إلى إحصائية عالمية في ذلك ، حيث احتلت بعض الجمهوريات العربية مراتب متقدمة في استثمار المال في المواقع والفضائيات الإباحية ، وفي نفس الوقت تقوم تلك السلطات المستبدة بجلب أحدث التقنيات والتقنيين لمراقبة الانترنت والمواقع المقروءة في بلادها والبريد الصادر من داخل أوطانها لمواصلة نهجها في الرقابة ، إلا أن التطور السريع للانترنت ومواقع التواصل تبقى أقوى من محاولات العاهات الاستبدادية ، كسر الإقدام ودفن الخوف لدى الجيل الجديد من مواطني مستعمرات العقاب الجماعي.
اتجه المستبدون في محاولة منهم لركوب الموجة إلى الالتفاف حول موجة الحرية بصرف أموال طائلة على مواقع ألكترونية ، تتمتع بنصف حرية ، ظنا منهم أن الحرية يمكن تقسيمها، وأن ديمقراطية مجتزأة يمكنها أن تقضي على ديمقراطية لا تتجزأ وفرتها شبكة الانترنت وبكل اللغات ، فلم يعد منع أو إنكار وجود تعدد أثني أو ديني أو سياسي وأشياء أخرى داخل أي بلد بذي معنى ، شبكة الانترنت تستطيع أن تكذب أي إحصائية تفبركها الأجهزة الأمنية المستفردة بعمل الاحصائيات في مستوطنات العقاب ، ولا يستطيع أي حاكم من أصحاب نسبة ال99% سابقا و85% حاليا للتخفيف ، أن يواجه أي عقل مهما صغر اشتغاله بمحبة الناس له ، ولا يمكن ستر أي فضيحة من تلك التي يواظب المستبد يوميا على ارتكابها بحق مواطنيه ، فقد شرقت الشمس من خلف ثورة التكنولوجيا والاتصال ، وما على الحاكم إلا أن يسلّم ، وأن لم يكن اليوم فأن الغد لناظره قريب.
وأخيرا، لا بد من إشارة مخجلة بحق المستبدين ، وما أكثرها وما أقل حياء المستبدين، وهي أن جل رؤساء أوروبا لهم مواقع على شبكة الفيسبوك ، على الأقل ،عداك عن مواقع شخصية لهم ولزوجاتهم ، والوزراء على الحال نفسه ،و الرئيس الأقل شعبية في أوروبا ، نيكولا ساركوزي ، رد على أحد الأصدقاء المهاجرين بجملة اعتبرها الأخير مهينة ، سرعان ما قام بمحوها من موقعه بعد يومين بسبب حملة الردود عليه ومن نفس العيار المهين وأثقل ، فما كان من الصديق إلا اللجوء إلى القضاء الفرنسي الذي سيفصل بينهما في شهر سبتمبر القادم ، والتساؤلات التي تطرح نفسها هنا ، هل من زعيم عربي له موقع على الفيسبوك ؟ وإن وجد ، هل يقوم الزعيم العربي بالرد على التعليقات التي تأتيه على الموقع ؟ وإن رد الزعيم ، هل يستطيع أي رعية من رعايا دول الاستبداد من انتقاد رئيسه وبأسمه الصريح وهو مقيم هناك ؟ وأن تجرأ أحد الجريئين وانتقد الرئيس ، ماذا سيكون مصيره ؟ كلنا يعلم مصير الكثير من رعايا جمهوريات الخوف ، بسبب مقال أو تعليق أو اتصال هاتفي مع فضائية ، حتى أنه لم يسلم من ذلك المجندين أنفسهم لخدمة الحاكم.
ايلاف