الوطنية التخوينية والتدين التكفيري
ياسين الحاج صالح
أصل التخوين والتكفير التنازع على الوطنية والدين، أي تسييسهما. وهذا بدوره مؤشر على أزمة الهيمنة في مجتمعاتنا، نعني افتقارها إلى أطر إجماع مستقرة. فإذا كانت الوطنية بالذات- ما يفترض أنها أساس مساواة أساسية وإجماع متعال على السياسة- موضع تنازع وتسييس، فإن ذلك مؤشر على وضع صراعي منفلت، لا تضبطه قواعد عامة مقبولة.
لماذا يبدو أن كثيرين منا، المواطنين المفترضين في دولنا المعاصرة، خونة؟ وأن كثيرين آخرين من المسلمين المعاصرين كفار؟ هذا إن كان صحيحا ما تقوله سلطات سياسية وإيديولوجية ودينية نافذة الكلمة. ليس ثمة غير إجابة واحدة من اثنتين: إما أننا مادة بشرية بخسة استمرأت خيانة أوطانها واستطابت الكفر بدين آبائها، أو أن هناك مشكلة ما في وطنيات لا يستقيم أمرها إن لم تخوّن، وتديّن لا تطيب نفسه دون تكفير. والحال، إذا كنا بالفعل مادة بشرية منحطة، فإن الدين الإسلامي والثقافة العربية لا يمكن أن يكونا مبرأين من انحطاطنا. وهذا ما يرفضه أكثر من غيرهم التخوينيون والتكفيريون، المصنوعون حتما من المادة البشرية نفسها، والذين يستندون تفضيليا إلى الإسلام والثقافة العربية لإطلاق أحكام التخوين والتكفير. المشكلة إذن في وطنية تشعر أنها تخون نفسها إن كفت عن التخوين، وفي تديّن يخشى أن يفقد صفاءه إن لم يكفِّر.
ينبثق التخوين من امتلاك الوطنية أو احتكارها، وإقصاء من يجادل في هذا التملك أو ينازع فيه. لذلك نجد الممارسة التخوينية ناشطة عند سلطات مستبدة حيال معارضيها، أو عند إيديولوجيين يستمدون شرعيتهم من محاربة الخصوم المفترضين لوطنية متمركزة حول ذاتها. والتكفير آلية نبذ مماثلة، تقصي من يجادل في تملّك الدين من قبل القائمين عليه، سواء من عامة المسلمين أو من إسلاميين مخالفين، أو من باب أولى من علمانيين وغير مؤمنين.
والتدين التكفيري ليس ممارسة دينية تنبذ كافرين محتملين، إلا لأنها لا تتماسك هي ذاتها دون تكفير نسقي لكل من لا يوافق مفهومها للدين. فالتكفير ليس آلية تطهير وطرد فقط، إنما هو مبدأ تماسك نمط التدين هذا. وبالمثل، ليست الوطنية التخوينية وطنية يعرض لها أن تخوّن، بل إن التخوين ينبثق من جوهرها، فلا تتماسك من دونه. لذلك فلا مجال للتفاوض أو التسوية مع التدين التفكيري والوطنية التخوينية. لذلك أيضا لا مجال لإصلاحهما.
ونرجح أن الأصل في إرادة تملك الوطنية والدين وطرد الخصوم منهما هو الصراع الحاد على السلطة، سياسية كانت أم دينية أم اجتماعية. أو بالأحرى هو الصراع المطلق الذي يراهن على إبادة الخصم بإخراجه من الوطنية مرة وإباحة دمه بإخراجه من الدين مرة أخرى. ولعل أعنف الصراع وأشده إطلاقا هو الصراع بين التخوينيين من أهل السلطة والتكفيريين من أهل الدين. أي بين من يجعلون الوطنية دينا على قياسهم، ومن يجعلون الدين وطنا حصريا لهم. أو لنقل بين من يجعلون امتلاكهم للوطنية أساسا شرعيا للمطالبة بضم الدين إلى أملاكهم (أطقم سلطة استبدادية…)، وبين من يطمعون في إضافة الدولة إلى أملاكهم بعد أن ضمنوا ملكية الدين (جماعات إسلامية متطرفة…). على أن تخوين معارضين سياسيين من قبل السلطات السياسية، وتكفير «معارضين دينيين» (أو علمانيين) من قبل السلطات الدينية هو الأكثر شيوعا، وإن لم يأخذ دوما شكلا عنيفا.
ويشترك التدين التكفيري والوطنية التخوينية في اعتبار الوطنية والإيمان الديني نادرين، بينما الخيانة والكفر مبذولان وفيران. فالنادر يمنح سلطة ورفعة لا يمنح مثلها الوفير السهل المبتذل.
أصل التخوين والتكفير التنازع على الوطنية والدين، أي تسييسهما. وهذا بدوره مؤشر على أزمة الهيمنة في مجتمعاتنا، نعني افتقارها إلى أطر إجماع مستقرة. فإذا كانت الوطنية بالذات، ما يفترض أنها أساس مساواة أساسية وإجماع متعال على السياسة، موضع تنازع وتسييس، فإن ذلك مؤشر على وضع صراعي منفلت، لا تضبطه قواعد عامة مقبولة. وبالمثل، يعكس تسييس الدين فقدان مرجعية عليا موحدة، تستوعب الاختلاف في الدين أو مع الدين، وتضبط التنازع المحتمل بين الرابطة الدينية والرابطة الوطنية.
والكلام عن أزمة هيمنة يعني أيضا أزمة إجماع، تتظاهر في افتقار بلداننا إلى أي أكثرية وطنية. ثمة أقليات متصارعة لدينا من كل نوع، اجتماعية وثقافية وسياسية ودينية، وليس هناك أكثريات عامة، مهما يكن رأي الإحصاءات الساكنة. وليست «خيانة» بعضنا أو «كفر» بعض آخر منا غير حصائل لافتقار بلداننا إلى عملية صنع إجماع يتجاوز انقساماتنا الموروثة. فالتخوين والتكفير آليات تطهير، تُحجب بها وطنية وتديّن عاجزان عن الهيمنة على أزمتهما. وهي بعد آليات تتوسلها سلطات سياسية ودينية لتوليد الوهم بأن الإجماع أو «الأمة» إلى جانبها، وأن الخونة والكفار أقليات هامشية تعوق تطابق «الأمة» مع ذاتها ومع أولي أمرها.
تجاوز التخوين والتكفير ينفتح على معالجة أزمة الهيمنة، إذن. أي كذلك إعادة تأسيس السياسة في مجتمعاتنا، أو تجديد أسسها الفكرية والثقافية والأخلاقية. وتعطي المقاربة هذه تعريفا جديدا للسياسة في بلداننا. فهي أولا وأساسا فن صنع إجماعات وأكثريات جديدة، وفي مقام ثان إدارة اختلافات وتمايزات جديدة عن الإجماع. فإذا انعقد الإجماع على الوطنية كانت لها السيادة، وصارت الخيانة هي الشكل الوحيد للكفر، بينما نزعت الدلالة السياسية عن الاختلاف الديني. ولما كان انعقاد الإجماع على الوطنية يقتضي أن يمسي «الوطن» إطارا للمساواة السياسية بين السكان، فإنها ستقترن بانسحاب الممارسة التخوينية من التداول السياسي والإيديولوجي. هذا لأن التخوين نتاج احتكار الوطنية كما قلنا.
وغير متصور في ما نرى أن تدين الهيمنة للدين، فتمسي الوطنية دينية، ويغدو الكفر الشكل الوحيد للخيانة، على نحو ما قد يفضل الإسلاميون. فالهيمنة مشروطة بالمساواة، والدين ليس عارضا للمساواة في مجتمعاتنا المعاصرة، أو في أي مجتمعات.
أما دون هيمنة وإجماع وأكثرية حاسمة فلن تكون السياسة غير صراع عقيم ووحشي لأقليات ضد أقليات.
* كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –