يوم مع المفكر الذي جاء ليسمع والذي يقول إن الدولة الفلسطينية كذبة على الفلسطينيين
ريجيس دوبريه: لن أكتب عن لبنان، إنه صعب وأعتقد أنه المكان الأصلح لـ «الّلاحوار»
اسكندر حبش
كان واضحا، منذ اللحظة الأولى، أنه مثل «ذئب عجوز» لن تنطلي عليه «اللعبة» ولن يقع في الشرك الذي خبره كثيرا. هكذا بدا في هذا اليوم، الذي أمضيته برفقته. في كلّ زيارة، من زياراته الأخيرة إلى لبنان، كنا نحاول أن نستدرجه إلى حوار صحافي، وفي كل مرة كان يرفض بلباقة، لأنه ـ مثلما يعلن ـ يأتي إلى هنا ليستمع إلى مختلف وجهات النظر، لا لكي يتحدث ويعطي الآراء.
هذا ما رغب فيه أيضا، منذ يومين، المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه، الذي زار بيروت مؤخرا بدعوة من مؤسسة سمير قصير، ليلقي محاضرة عن المثقف ودوره. أي لم يبدل هذه الرغبة في الاستماع فقط، من دون أن يدخل في أي حوار. إذ حتى محاضرته تركزت على معنى المثقف من دون أن تتطرق إلى اللعبة اللبنانية الصرف. بيد أن ثمة محاولة تبدت في استدراجه إلى هذا الحديث المنتظر، بفضل الدكتور كامل مهنا، رئيس مؤسسة عامل، حين قال لي على الهاتف «سنذهب غدا في رحلة إلى الجنوب، إذ سنمضي نهارنا هناك. رافقنا، ويمكن أن تتكلما على الطريق». لم أكن بحاجة إلا لثانية كي أوافق. ربما هي الفرصة الوحيدة لمحاولة الظفر بكلام ما. كلام قد يخرج عفويا من دون مبررات ومسوغات. كلام فيه الكثير من العفوية، كأي شخصين يتكلمان من دون التفكير أن ذلك قد يخرج إلى العلن في ما بعد. ومع ذلك لا أخفي أن هذا الأمر سبب لي، في لحظة، إحراجا ذاتيا، أي لم أستسغ كثيرا هذه اللعبة في التمثيل، ومع ذلك انطلقت فيها لأن ما من سبيل آخر لمحاولة طرح بعض الأسئلة وإن بشكل موارب.
منذ اللحظة الأولى بدا كالذئب الذي انتبه إلى اللعبة. هذا ما أحسسته حين قدمني إليه د. مهنا، في بهو فندقه في بيروت. وأظن أن ما ساعده على تقبلي، قول د. مهنا لدوبريه إنني كنت أستاذ ابنته ذات يوم. ربما أحب أو استساغ هذه الصفة أكثر من كوني صحافيا، أي ثمة أمل في أن لا أكون لجوجا كالصحافيين لأمطره بعدد كبير من الأسئلة، لتبقى معلقة، أو لتأتي أجوبتها مواربة.
هذه المواربة بدأت منذ أن صعدنا إلى السيارة التي انطلقت في طريقها، متجهة إلى بلدة الخيام، كمحطة أولى. أحاديث جانبية سريعة، ربما لزرع الطمأنينة، أو ربما للتعرف. الحوار الوحيد كان في أسئلة دوبريه للدكتور مهنا عن مؤسسة عامل، في البداية، وعن بعض الأوضاع اللبنانية المستجدة، من دون أن يبدي المحاور الفرنسي أي رغبة في التعليق. فقط كان الإصغاء تصرفه الوحيد. قد نستطيع أن نضيف إلى ذلك، نظرته المتنقلة بين مختلف المناظر التي كانت تمرّ أمامه. مناظر جعلته يعلق على «الفوضى العمرانية» غير المتناسقة. قد يكون رأياً أول يفتح بابا للحديث، إلا أنه سرعان ما عاد إلى استغراقه، الذي حاولت أن أخرجه منه للمرة الأولى، عبر قولي إنه سيشاهد الكثير من هذه الفوضى العمرانية كلّما تقدمت بنا الطريق. وحين التفت إليّ قلت إن الفرصة قد تبدو مناسبة، فسألته عن معنى اهتمامه المؤخر بلبنان، حيث قام بزيارته مرات عدة في السنوات القليلة الماضية. «مجيئي إلى هنا جزء من اهتمامي بموضوع «المقدس» الذي أعمل عليه منذ فترة. أحاول أن أفهم تركيبة الطوائف وعلاقاتها بعضها ببعض». و«هل ستكتب عن ذلك كتابا مثلما فعلت في رحلتك إلى الأرض المقدسة؟» سألته. فأجاب: «أبدا، صعب هو لبنان على شخص مثلي. إنه مرهق، في كل مرة أجيء فيها إلى هنا أحس بهذا التعب».
اللاحوار
كنا نقترب من مدينة صيدا، حيث نزلنا إلى أحد محال الحلويات لتناول شيء قبل أن نكمل الطريق. بدا الجو أكثر ألفة على الطاولة، عدت وسألته عمّا يمثل له هذا البلد. «أهتم بلبنان أيضا لأنه يمثل عيّنة صغيرة مكثفة عن العالم المعاصر. انظر الجميع موجودون هنا، ولكني أعتقد أنه المكان الأصلح لـ اللاحوار الثقافي، على العكس ممّا يظن الجميع».
قلت في نفسي «حسنا»، ربما نستطيع أن نكمل هذا الحديث مع بعض المداورات، لكنه عاد ليطرح بعض الأسئلة المتنوعة التي لا تدل على اتجاه معين، ربما للهرب من الوقوع في منزلق إبداء الآراء. منزلق لا يريده أبدا، ومع ذلك، حاولت: «وكيف ترى الوضع في فلسطين، وبخاصة أنك أصدرت كتابا مؤخرا بعنوان «كانديد في الأرض المقدسة» (وكانديد هو بطل كتاب المفكر الفرنسي فولتير الذي يحمل العنوان عينه، حيث يستعير اسمه).
ـ تعرف أني لا أعير للدين الكثير من الأهمية، ما حاولته في هذا الكتاب هو أن أفهم ما قام به المؤمنون منذ ألفي سنة. طريق المسيح هنا لا لأقود إلى الإيمان ولا لأشير إلى حقيقة الأناجيل.. بل لمحاولة فهم «هذا الشرق المعقد» الذي تحدث عنه ديغول والذي يستحق انتباهنا.
[ وكيف ترى إلى الحالة الراهنة؟ ألا تظن أن القتل اليومي، هناك، سيقود إلى إبادة شعب آخر؟
ـ لقد استعملت الكلمة الخاطئة.
[ تستطيع أن تضع الكلمة التي تناسبك.
ـ أفهم عليك. وليس هذا قصدي. هل عرفت ما حدث لساراماغو (كان يشير إلى الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو الذي اعتبر، منذ فترة، أن ما تقوم به إسرائيل يشبه الإبادة النازية التي ارتكبت بحق اليهود، فقامت القيامة ضده)، فقط لأنه استعمل هذه الكلمة؟ الوضع بالتأكيد صعب هناك، وثمة مذبحة ترتكب، وأخشى ما تخشاه. لكن الوعي الغربي تأسس على فكرة الهولوكست، وعلينا أن نفهم ذلك. وأظن من الصعب تغييره. هل تعرف أن الكثير من الفرنسيين والأوروبيين لا يعرفون أن جنوب لبنان كان محتلا من إسرائيل طيلة تلك السنين، وهم لم يفهموا حرب تموز الأخيرة. هل قرأت كتاب أبراهام بورغ «الانتصار على هتلر»؟ أنصحك بقراءته. يستحق ذلك.
نصيحة كأنها تعلن الرغبة في عدم إكمال الموضوع وبخاصة عند هذه النقطة. لكن وللمفاجأة أكمل: «هل تعرف قبل أن أنشر كتابي هذا («كانديد في الأرض المقدسة») أعطيته لبعض الأصدقاء اليهود ليقرأوه. كنت أشرت بمقارنة عابرة إلى أحد مخيمات الاعتقال النازي. وكانت ردة فعلهم بضرورة عدم فعل ذلك، وإلا سأتعرض لاتهامات لا حصر لها… فاضطررت إلى السير بين النقاط كي أتجنب ذلك كله».
«بين حقل من الألغام» علّق الدكتور مهنا. فابتسم دوبريه، فقلت له «أرأيت، ثمة مفهوم مختلف للأشياء، تقولون السير بين النقاط، ونحن نقول السير في حقل من الألغام». «أظن ذلك» قال، وأكمل ابتسامته ونحن نخرج من المحل.
موقف غير مشرّف
لم أفهم في البداية لمَ رغب ريجيس دوبريه في أن يشارك الدكتور مهنا في واجب العزاء الذي يريد أن يقدمه للعائلة التي فقدت طفلها. كنّا أنهينا جولتنا على مركز مؤسسة عامل في بلدة الخيام، حيث استمع إلى الشروحات المتعلقة بالمؤسسة وما تقدمه على صعيد مراكزها المختلفة، وحيث كان يهرب أيضا من عدسة الكاميرا التي تصوره. طلب من الدكتور أن يقول لهم ليتوقفوا. وهذا ما حصل. خرجنا من المركز لنتوجه إلى بيت قريب. سألني ما يجب فعله، فقلت له. سألني ونحن جالسون بين جمع الرجال في الباحة الخارجية عن العادات، فشرحت.
ربما هي فرصة للتعرف على واجب العزاء وكيف تدور في قرانا، إذ قد تشكل بالنسبة إليه جزءا من سيرة «هذا المقدس» الذي يبحث عنه. وربما هو اكتشاف بمعنى من المعاني. سأل إن كانت النساء لا تشارك في هذا الواجب، قلت بلى «إنهن في داخل المنزل»، وربما لكي يصدق، اصطحبه الدكتور مهنا ووالد الفقيد لتقديم واجب العزاء إلى الوالدة، التي كانت… كوبية. بالتأكيد ثمة الكثير الذي دار في رأسه في تلك اللحظة، أقلها، ما قاله من أن لبنان صعب عليه ولا يفهمه.
الإصغاء ذاته، أظهره وهو يستمع إلى شروحات إنتاج الصابون في «إبل السقي». لا يشكل كل ذلك الإصغاء، إلا جزءا من تجواله على هذه القرى المتاخمة للحدود. تجوال هو جزء من محاولته رؤية الجهة الأخرى بعد أن رأى الجهة التي كنا نقف فيها في تلك اللحظة. هذا ما قاله ونحن ننظر بالقرب من بوابة فاطمة إلى الأرض المحتلة. «أتعرفون، قال وهو يرى المطلة أمامنا، هناك يأتون بالوفود للنظر إلى لبنان، وهل تعرفون ما يقولون لهم؟ انظروا إلى أولئك البرابرة الواقفين إلى الجانب الآخر، و… يبدأ عندها تصفيق البعض».
جملة تختصر الكثير. تماما كالجملة التي قالها ونحن نتوجه إلى مرجعيون. على الطريق أخبره الدكتور مهنا أن البلدة كانت، زمن الاحتلال، مركزا لقيادة جيش العدو والعملاء، كما أخبره بحادثة الثكنة، في حرب تموز، حين استُقبل جيش المحتل بالقهوة والشاي. نظر إلينا غير مصدق، قائلا «بالتأكيد هو موقف غير مشرّف، لا يتمناه أحد».
كانت الطريق إلى بنت جبيل أشبه بسائر الطرق التي قمنا بها إلى القرى والبلدات الأخرى، أي الكثير من الأسئلة التي يطرحها دوبريه منتظرا الأجوبة. وكأن اللعبة قد تغيرت، لم يترك لنا الفرصة لنسأله، بل كان هو البادئ دوما في السؤال، حتى تحولنا إلى شارحين لكل قضية. هناك أراد أن يرى الدمار الكبير الذي سمع عنه. ما زال بعضه ظاهرا للعيان، على الرغم من كل الورشة الكبيرة. سأل عن هذه الحروف الزرقاء الظاهرة على قرميد أحد المباني الكبيرة التي تقترب من نهاية بنائها. قلنا «شكرا قطر». جملة دفعتني إلى السؤال عن رأيه في الاتفاق الأخير «أعتقد أنه هدنة»، ولم يضف شيئا، وعن رأيه بإقامة الدولة الفلسطينية: «أكبر كذبة في التاريخ، إنها تسمح لساركوزي ورفاقه بأن يقفوا فوق المنبر ليطالبوا أمام المحتشدين بذلك، لكي يصفقوا لهم، أما في الواقع فلا شيء من ذلك كله». والعراق؟ يشير بيديه كأن ننسى الأمر.
إجابات مختصرة تنم عن موقف بالتأكيد وعن رؤيته للأمور. لكنها تنم أيضا عن هذا الحذر في التصريح، وكأن هذه الصعوبة التي يجدها في لبنان، تلقي بظلالها عليه. ظلال لا يرغب في الخوض فيها، بل كأنه يرغب في البقاء إلى جانبها. الأهم بالنسبة إليه كان أن يسمع لا أن يشير بآراء. هذا أيضا ما أراد رؤيته في قانا، فبعد أن زار مقبرة مجزرة عام ,1996 رغب في أن يزور المقبرة الثانية العائدة لعام ,2006 قبل أن يتوجه إلى متحف الفنان موسى طيبا.
لا أنكر تاريخي
كانت أكثر من دعوة إلى الغداء، تلك التي حدثت في صور. كانت الساعة تشير إلى الثالثة من بعد الظهر حين وصلنا إلى ذلك المطعم المتاخم للشاطئ. الداعي كان غسان صفي الدين، ولفيفا من أصدقائه، لم أتعرف، من بينهم، إلا على الزميل جورج سمعان. حشد وصفه غسان بالقول إن العديدين من بينهم ما زالوا، فكريا، كما كانوا، أي من المعادين لإسرائيل ولأميركا. وأيضا، لم تنفع محاولات الجميع في جرّ دوبريه إلى الكلام، بل كانت تعليقات صغيرة منه، والكثير من الأسئلة، لاكتشاف ما وراء هذه الوجوه المجتمعة إذا جاز القول. التفت إليه وقلت، كيف ترى إلى تلك الحقبة التي ذهبت فيها إلى كوبا: «أتعرف، آخر مرة كنت فيها هناك، كانت منذ 15 سنة، كل رفاقي هناك، إما هاجروا وإما سجنوا. لكني لا أريد أن أنفي هذه الفترة من حياتي، يومها كنت كذلك، إنها جزء من تاريخي الذي لا أنكره. لكن ربما علينا أن نفكر اليوم بطريقة مختلفة». «وماذا عن الثورة؟» أجاب: «أي ثورة؟ لقد انتصر اليوم أمران: رأس المال والديني؟».
هل هي استقالة من جانب من ذهب ذات يوم إلى كوبا لمشاركة غيفارا وكاسترو ورفاقهما في الثورة، أم هي محاولة لعقلانية ما؟ سؤال صعب وبخاصة إذا حاولنا تأطير هذا الرجل في قالب هو نفسه أصبح بعيدا عنه، أي من الصعب رؤيته في هذا المشهد من دون النظر إلى كلّ التغييرات التي حدثت في مسيرته الفكرية، وإن أبقى على جوهر بعض القضايا الكبيرة. لكن تفكير ابن السابعة والستين، يختلف بالتأكيد عن تفكير ذلك العشريني الذي كانه، وبخاصة أننا أحيانا لا ننتبه إلى هذا العمر الذي يمضي، إذ كل شيء عندنا، لا يزال في مكانه، حتى في طريقة رؤيتنا للأمور.
ربما هي الأمور التي اختلفت وأنا أستعيد هنا، هذا اليوم الجنوبي، أقصد أنا أيضا أشعر بانزعاج ما في هذه اللعبة التي يفرضها العمل الصحافي. وربما كنت بذلك أضحي بـ«صداقة» ما قد تنشأ، مقابل مقالة أخرى. في أي حال، ربما كان دوبريه قد فهم اللعبة منذ البداية، إذ التفت إليّ ونحن في طريق العودة، ليقول «لا تنقل شيئا عن لساني».
لا أعرف إن كنت نقلت شيئا مما قاله. إذ طيلة هذا اليوم، لم يتحدث إلا عبر أذنيه.
السفير