صفحات أخرى

“نواصب وروافض” كتاب جماعي حرّره حازم صاغية

ضوء على جذور الشقاق بين السنّة والشيعة
يبدو حازم صاغية مهتما بمجتمعات العالم العربي اكثر من القوميين العرب انفسهم، ومن القوميين الاجتماعيين السوريين، فهو غالبا ما يضع في مؤلفاته الاصبع على الجرح بعيدا من الشوشرة والاستعراض والكليشيهات والعبارات القرابية والاسطورية. ففي كتاب “قومية المشرق العربي” (دار رياض الريس) يجيب عن اسئلة ساخنة انطلاقا من انه في القرن الممتد ما بين دفاع المثقفين العرب والمسلمين عن درايفوس ودفاعهم عن روجيه غارودي، طغى انحطاط واسع تسبب الانتهاك الصهيوني ببعضه، وتسبب في بعضه الآخر باستقبالنا هذا الانتهاك. في الخانة الاخيرة هذه لعب الفكر القومي في المشرق العربي دورا بالغ السوء، فأسّس لعنصرية ذات لون وثني ما لبث الاصوليون ان دفعوها الى ذرى غير مسبوقة.
يسأل صاغية عن دور مساهمات ساطع الحصري وزكي الارسوزي وميشال عفلق وقسطنطين زريق ومحمد عزة دروزة وعبد الله العلايلي و”حركة القوميين العرب” وعلي ناصر الدين وعبد اللطيف شرارة وانطون سعادة، التي انتكست عما كان ارساه جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، وكيف كان الاهلي والتجزيئي الذي صدر عنه القوميون ينطق بلسان وحدوي فصيح، متوسلا بفلسطين وتحريرها ذريعة له؟
وفي كتابه “الهوى دون اهله” (دار الجديد) عن المطربة أم كلثوم والذي لا يزال يثير السجال بسبب انه يطاول ايقونة “كوكب الشرق”، يعتبر صاغية ان النظام الناصري انشأ توحيداً في الأذواق والرغبات نكب المدينة الكوسموبوليتية التي رهصت بها قاهرة العشرينات والثلاثينات والأربعينات، فضلاً عن “الثقافة” و”اللغة” وسواهما من مرافق الحياة العامة. ففي تكييفه للخريطتين الاجتماعية والثقافية، كان النظام الناصري ينتج شروط الازدهار الكلثومي على نيّة شعوب توَّاقة إلى طفولتها، وسط عالم هارب من معناه ودلالاته، يستعيض بـ”الخلود” و “الأصالة” عن مدن لا تزال تسكنها القرى، واجتماع وسياسة لا يزالان ديناً. وإذ كان النظام المذكور يفعل ذلك، فعلى نحوٍ تمهّد معه لأم كلثوم أن تترجح بين التعالي على الناس ومفارقتها إياهم وبين النطق بلسان حالهم وما تحته،  وبين كونها بنتاً من بنات النبي وموظفةً رهن سياسة الزعيم.
وفي “مقدمة كتاب مأزق الفرد في الشرق الأوسط” (دار الساقي) الذي حرره صاغية، فإن السؤال الأولي الذي يطرحه هو الآتي: هل في الإمكان تحقيق أيّ تقدم إلى الأمام عند أي أمة من الأمم من دون تحقيق تقدم مواز على صعيد الفرد ومفهوم الفردية؟ لتفكيك هذا السؤال أو تبسيطه أكثر، فإن الأطروحة الرئيسية التي تتضمنها المساهمات المثيرة التي بين دفتي هذا الكتاب، تقول إن الفرد في منطقة الشرق الأوسط لم يحقق فردانيته بعد، ولا يزال خاضعاً للجماعة بتشكيلاتها المختلفة (العائلة، العصبة، القبيلة، الحزب، الدولة، الوطن … إلخ)، وإن هذه التشكيلات لا تزال لها الريادة في مقابل الفرد. فإذا تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة فإن الثقافة الشرق أوسطية، وكذا الثقافات الشرقية الأخرى، لا تحتاج إلى كثير وقت لتحسم النزاع لمصلحة الجماعة وتقمع الفرد.
هذه الحال هي خلاف ما هو قائم تماماً في الغرب، حيث الأولوية للفرد وللفردانية على حساب المجموع والجماعة. طبعاً، يأتي هذا التحليل وفق رؤية أوسع مفادها أن الثقافة العربية والإٍسلامية والثقافات الآسيوية كذلك (الهندية، الصينية، اليابانية) هي ثقافات تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد ويذوب فيها الفرد لصالح الجماعة. في حين أن الثقافات الغربية (الأوروبية والأميركية) تقدم مصلحة الفرد على الجماعة وتتعامل معه على أنه كينونة مستقلة بذاته بعيداً من ارتباطاته الجماعية الأخرى وبغض النظر عنها.
تأتي مؤلفات حازم صاغية في معظمها في سياق متصل، يربطها خيط جامع هو النظر الى الثقافة السائدة في المجتمع العربي بحس نقدي بعيد من العاطفية والعصبيات الكلامية والفذلكة اللغوية او السياسية. لنقل ان صاغية يحاول ان يكون اكثر عقلانية وتجردا في تناول مواضيع حساسة تشغل الامة والمجتمع، مواضيع لم تجد لها الدول والمجتمعات العربية اي حل جذري.
لا يختلف الامر في الكتاب الجديد الذي اعدّه وحرّره صاغية بعنوان “نواصب وروافض، منازعات السنّة والشيعة في العالم الإسلامي اليوم” والصادر حديثا لدى “دار الساقي”. لقد استحوذ هذا الموضوع على اهتمام الباحثين والسياسيين في السنوات الاخيرة وخصوصا مع تنامي الصراعات السياسية في الشرق الاوسط، ويبيّن صاغية أن هذا الشقاق ليس وليد اللحظة بل يمتد جذره الى عصور الخلافة الاسلامية، بل الى زمن الجاهلية وميراث القبائل والعصبيات. ولا عجب ان نقرأ على جدران بيروت عبارات من مثل “يا عمر” و”يا علي”، ذلك أن الجمهور الاسلامي بات بين حدّين، حد العمريين وحد العليين. وقد انعكس هذا الخلاف التاريخي على الواقع المديني، وبات معروفاً ان الولاء لزمن الخلافة ليس الا وجها من وجوه العصبيات المستفحلة في كل شيء، من الدين الى الاكل والازياء والأحياء واللهجات والسكن والموت…
ورد الآتي في مقدمة “نواصب وروافض”: “يُعدّ انفجار الخلاف السنّي – الشيعي وصراحة التعبير عنه في غير بلد، إشارة ساطعة الى بلوغ التمزّق في نسيج مجتمعاتنا مدى بعيداً. وكي نقدّر حجم التطور المؤلم هذا، يكفي أن نقيسه بالتكتّم والإغفال اللذين خضع لهما طويلاً كل كلام في تباين، أو تفاوت، بين أتباع “المذهبين المسلمين”. فالحال أن ثقافتنا التي تتحايل على مشكلاتنا بالإنكار والتجاهل، تتحمّل مسؤولية كبرى عمّا آلت اليه الأمور. ذاك أننا بدل أن نواجه المشكلة على حقيقتها (وغنيّ عن القول إن المعرفة شرط المعالجة الشارط)، آثرنا اللجوء الى “كلنا أخوان” الشهيرة.
عن تصوّر كهذا، صدرت فكرة الكتاب الذي يحاول، على رغم قصور لم يمكن تفاديه، مما لن يفوت أي قارئ لبيب، إلقاء أضواء على المشكلة وتظهير خلفياتها واحتمالاتها في غير بلد. وقد اختار كلٌّ من الكتّاب المساهمين طريقته في الدخول الى المسألة هذه، حيث يرصد الباحث أحمد بيضون مسار التحولات التي طرأت على الجماعتين اللبنانيتين، ووضعتهما، بعد طول اعتدال وتقارب، على تخوم “شر مستطير”. ويشخّص بيضون المشكلات اللبنانية بعيداً من المواقف التعبوية، قائلاً: “أمكنه أن يشقّ خطه وسط متعارضات كثيرة وأن يتغيّر بدون قطع ويستقل بدون نبذ”. يبحث بيضون في صورة البلاد، صورة لبنان التي يتواجه فيها السنّة والشيعة ويتوزّع المسيحيون بين معسكريهم، ويوشك المعسكران أن يأخذ كلٌّ بخناق الآخر. من الجديد في رسم الجبهة، الى ماضي الاعتدال والتقارب، الى انتشار الأثر الإيراني، الى واجهة واحدة للشكوى، و”جيش السنّة” الفلسطيني، وأطوار الشيعة وولاية الفقيه وشيعة للدولة وشيعة للثورة.
أمّا الباحث العراقي فالح عبد الجبار فيتناول العراق في دراسة مطولة، متوقفاً خصوصاً عند العملية السياسية وأشكال التفاعل والتكيّف بينها وبين ما زامنها من صعود شيعي عقب إسقاط المخلوع صدام حسين. ومثله فعل الكاتب السوري ياسين الحاج صالح وموضوعه المجتمع السوري، مفضلاً تناول المسألة الطائفية من داخل تشكّل الدولة – الأمة في سوريا التاريخية والسيوسيولوجية. واذ تابع الاكاديمي السعودي فؤاد إبرهيم المنازعة المذهبية في مختبرها السعودي، استحوذ على تناوله دور الخطاب والإعلام بوصفهما مرآة ومحفزاً في الوقت نفسه، كذلك شدد استاذ علم الاجتماع البحريني باقر النجار، من ناحية، على التداخل بين المشكلة المذهبية في البحرين وبين العناصر الإقليمية والخارجية، ولا سيما بعد ثورة ايران عام 1979 والحرب الأميركية في العراق عام 2003. أمّا الخلفيات السياسية والعقيدية، المحليّة والخارجية، التي أزّمت المسألة المذهبية في باكستان وتشابكت مع أعمال السلطات العسكرية ونياتها فكانت موضوع الباحث الباكستاني سيد نديم الكاظمي.
خاتمة
في النهاية يسجل معدّ الكتاب حازم صاغية بعض الملاحظات العامة بين النواصب والروافض، فيعتبر أنه ربّما جاز القول، من قبيل التنبيه إلى فداحة المشكلة وجدّيّتها، إن جذرها البعيد يضرب في مرحلة ما قبل الإسلام، وما قبل السنيّة والشيعيّة. أي أن الخلفيّة التاريخيّة النائية تتصل بنزاع بني هاشم وبني أميّة الذي جدّد نفسه لاحقاً في صور شتّى أخذت في اعتبارها تحوّلات المراحل والحقب أشكالاً وعناوين، إلاّ أنّها أيضاً وشت، بحجم الركود التاريخي المتجاوز المراحل والحقب تلك. يضيف صاغية: “الصحيح أن القرآن كتاب مشترك بين السنّة والشيعة، لذا فإن أجداد مَن صاروا سُنةً وشيعةً لم يعيشوا تحت خيمة إسلام واحد إلا لسنوات قليلة في عهد الرسول والخليفتين الراشدين الأوّلين أبي بكر الصدّيق وعمر بن الخطّاب. ثم إن الطرفين ينقلان سيرة الرسول بطرق مختلفة، ويعتمدان لنقلها رواةً ومؤوّلين مختلفين متعارضين. وهما، في داخل الرواية الدينيّة ذاتها، ومن داخلها، تفصل بينهما مواقف جذريّة حيال بعض الأشخاص التاريخيّين في السرد النبويّ، ولا سيّما عائشة، كما حيال بعض المفاهيم المحوريّة كالإمامة والمعصوميّة. والحال أن الشيعيّة إنما تأسّست فوق مقتل عليّ بن أبي طالب وابنه الحسين على أيدي الذين صاروا مذّاك سنّة، تماماً كما تأسّست المسيحيّة قبلها على أسطورة صلب اليهود للمسيح حتّى غدت جزءاً منها لا يتجزّأ”.
كتاب “النواصب والروافض” يبيّن جوانب المشكلات في السياسة اللبنانية والعربية، ويرشد القارئ الى لب المشكلة، بعيدا من الخطب والعنجهيات وادعاءات الوحدة الوطنية، في لبنان وإيران، وبعيداً من تحرير فلسطين، ومن العواطف الجياشة في العراق. انه كتاب عن عصبيات الطوائف، العصبيات المستجدة والتي يعود جذرها الى قرون غابرة وتستعمل الآن، ربما لأن المجتمع لا يزال في زمن الجاهلية.
هيفاء شدياق
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى