حول تقرير -سنوات الخوف- في سوريا ! روبرت فيسك والاستثمار في قضايا العرب بوصفهم قاصرين
عبد الرزاق عيد
لا يكتفي السيد فيسك إذ يقارب تقرير (سنوات الخوف) الصادر في واشنطن من قبل (مشروع العدالة الانتقالية في العالم العربي ) وبدعم من منظمة (بيت الحرية / فريدروم هاوس ) بالتشكيك ببيت الحرية كونه ممولا من الحكومة الأمريكية، وكونه يعتبر أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة الديموقراطية في الشرق الأوسط مما كنا قد تناولناه في مقالنا السابق، مبرزين البعد المضمر لممالأة الشعبوية العربية (سلطة ونظاما)، في ما راح يتحول إلى ظاهرة استيعاب العرب كـ(قاصرين) عبر (الاستثمار في قضاياهم بوصفهم عاجزين)، مما يتيح تحقيق مكاسب مضمونة على المستوى الرسمي والشعبي، وذلك من خلال استعارة نمط الخطاب العربي الذي لا يزال محكوما بـ(البيان) على حد صياغات مصفوفة الراحل الجابري، بما يعني بصيغة أفلاطون (الأوندكسا)، حيث يلخص هذا المصطلح الأفلاطوني وظيفة الخطابة في تمايزها عن وظيفة خطاب (البرهان)، فالأوندكسا : هي أن تقول للناس ما يحبون سماعه، على عكس البرهان الذي لا يأبه إلا بقوانين العقل بغض النظر عما يحب الناس أو ما يبغضون، وعلى هذا فإن العقل العربي الذي يقف عند البيان أو (الأوندكسا)، لا يستطيع أن يتحمل تجهم وفظاظة البرهان وقسوته العقلانية التي لا تراعي مشاعرية أناهم الذاتية الطفولية الغضة (القاصرة) وفق المنظور الإستشراقي، إذ كنا قد ألمحنا إلى أول إعلان صريح عن هذا المعنى(الاستشراقي) لدى المندوب السامي البريطاني (كرومر) مواطن السيد روبيرت فيسك الذي آثرنا أخذ خطابه عينة على حالة استثمار حالة (الفوات العربي) في صيغة العطف والشفقة على عجزهم وهزائمهم، وذلك لما تحققه مواساة العرب والشفقة والعطف على قضاياهم المهزومة من مغانم دعائية وإعلامية ترتد على (“العاطفين” على العرب)، وكنا قد تعرضنا في مقالنا السابق لتوصية كرومر الشهيرة الداعية إلى وضع المناهج للجامعة المصرية بما يتوافق مع الحفاظ على العقل التقديسي العربي : (تقديس الماضي والحفظ والتكرار والاستظهار ونرجسية الهوية والثوابت) ….أي كل ما يمكن أن يحيل دون العقل البرهاني، وفي آن واحد كل ما يمكن أن يعزز من قوة (الأوندكسا)الخ…
ولعل في هذه الأطروحة تكمن النواة المعرفية (الابستمية) لكل أشكال ممارساتنا الفكرية والثقافية والسياسية التي قادتنا إلى قعر التاريخ، وهي التي تفسر علاقتنا بالآخر بوصفه (عدوا قوميا أو دينيا أو طبقيا) ما دام لا يتماشى مع (الأوندكسا) البيانية لنظام خطابنا ومعارفنا، وهو لكونه عدوا، فإنه ينبغي (شيطنته) ليكون مذموما مدحورا أمام فضائلنا ونبلنا (السماوي) وعظمتنا التاريخية حتى ولو كانت غير حقيقية على حد تعبير أحد أهم الفلاسفة القوميين العرب قسطنطين زريق ” إن لم نكن أصحاب رسالة خالدة علينا صناعتها في ذهن الأجيال”، ولعل ذلك هو الذي يفسر سر انتصاراتنا منذ 5 حزيران 1967 على إسرائيل وصولا لسقوط بغداد2003، ومن ثم انتصارات (حزب الله وحماس والمقاومة العراقية)، وبالمقابل هزيمة إسرائيل الدائمة على طريق نهايتها وإزالتها من الوجود، ومن ثم عطفا ضروريا على ذلك هزيمة المشروع الأمريكي على طريق انهيار النظام الأمريكي واستطرادا العالمي حكما، وذلك أمام الممانعة والصمود والتصدي العربي (البعثي والناصري) والإسلامي (الإخواني والملتي) الذي يقوده التحالف الطائفي (الإيراني- السوري) ببركات وشفاعة آل البيت (النجادي-الأسدي)…!
نقول : يعمد فيسك في مقاله عن تقرير “سنوات الخوف” – بعد إثارة التشكيك بـ(بيت العدالة) بوصفه ممولا من الحكومة الأمريكية ومعتبرا لإسرائيل هي البقعة الديموقراطية الوحيدة حسب توبيخ فيسك لهذا البيت (الإمبريالي) ، يضيف “وفي الماضي وُجهت اتهامات إلى المنظمة بأنها لا تساند إلا حركات المعارضة المدعومة من جانب الغرب، لكن من تستهدفه في الشرق الأوسط هم العرب” .
والسؤال الذي ينبثق على الفور: من هي هذه المعارضات العربية التي دعمها الغرب؟ في حين أن الأمريكان أنفسهم اعترفوا وعلى أعلى المستويات (بوش ورايس) بأنهم كانوا داعمين وحامين للأنظمة الديكتاتورية العربية الحاكمة على مدى ستين عاما ) !
إذن من هم العرب المستهدفون في الشرق الأوسط إذا كان الغرب (الأمريكي) هو الحامي الأول لهذه الأنظمة !؟ إلا إذا كان فيسك يريد أن يوحي لنا أن أمريكا تعادي جديا النظام (الأسدي) الأكثر متاجرة بالدم الفلسطيني والأكثر هدرا له بما يتفوق أضعاف المرات على إسرائيل …ليس هدر الدم الفلسطيني فحسب بل والسوري واللبناني والعراقي بما لا تحلم إسرائيل أن تفعله ..هذه الإيحاءات المتوددة للنظام الدموي في سوريا تؤكدها-وبذات الطريقة الغامضة- محاولة فيسك لإثارة اللبس حول مأساة حماة، عبر حديثه عن: أن انتفاضة حماة في شباط 1982 هي (التي دمرت تقريبا المدينة القديمة، والتي سيطر عليها المتمردون بواسطة دبابات وقذائف نارية ) بمقتل ما يقارب 15 ألف شخص وفقا للتقرير الذي حرره زيادة حسب تعبيره، هذا اللبس لسنا متـأكدين من نواياه المغرضة، إذ أنا لمسناه في نص ترجمة مقاله في العربية ولا نعرف إن كان هذا الغموض الملتبس ظاهرا ومتعمدا في النص الإنكليزي كما هو في النص العربي…!
ويضيف فيسك: ” فقد قدر البعض عدد القتلى بعشرين ألف شخص”، متجاهلا الأرقام التي يشير إليها التقرير الذي هو موضوع مقالته على كل حال، إذ يتحدث التقرير عن تقديرات عدد ضحايا المدينة مابين 15000 – 35000، ومن ثم يذهب إلى التأكيد أنه كان 25000 وهو العدد الأقرب إلى الصحة، أما عدد المفقودين الذي أخذوا أحياء واختفت أخبارهم أثناء مجزرة حماة الكبرى فيقدر بـ 5000 مواطن (التقرير 68)
لا يكتفي السيد فيسك في النقل غير الدقيق عن التقرير والإيحاءات الغامضة، بل إنه يتحدث صراحة بما يضمر تبرير أو التخفيف من أثر جريمة (الأخوين من آل أسد :حافظ ورفعت) ضد حماة، فيتحدث عن فشل التقرير في تناول العنف السابق في المدينة، وما قام به الإسلاميون بذبح عائلات بأكملها من مسؤولي حزب البعث… ويستمر في مبالغاته ليتحدث عن العنف الطائفي الذي حركته (حرب العصابات)، المتوهمة في ذهن فيسك عندما يسمي عمليات اغتيال منفردة بـ(حرب عصابات) …!
بل ولا يتردد في وصف عمليات الشنق التي كانت تتم كل اثنين وخميس في سجن تدمر بأنها “علامة على القسوة المستوطنة في الشرق الأوسط “، مضيفا القول : لكنها القسوة التي –مع ذلك – هناك من يضاهيها وهي قسوة صدام، فالمسألة إذن “مسألة ثقافية شرق أوسطية” وليست جريمة سلطة مدججة بقوة الدولة ضد مجتمع أعزل هي أشبه بحروب الإبادة العرقية الطائفية، الموصوفة وفق القانون الدولي -أيضا- بكونها حربا ضد الإنسانية .
الأخوان المسلمون أنفسهم يقرون بأن المجموعات المقاتلة التي انشقت عن جسم التنظيم كانوا بالعشرات فيما سمي بـ “الطليعة المقاتلة ” وقد أعلن المرشد العام السيد صدر الدين البيانوني في سياق مناظرة تلفزيونية جمعتني به منذ خمس سنوات، بأن علي دوبا رجل المخابرات الأبرز في زمن الأسد الأب، اعترف بأنهم بخوضهم حربا مفتوحة ضد الإسلاميين نقلوا المواجهة من مستوى مواجهة مع العشرات إلى مستوى المعركة مع المئات الذين فرض عليهم الدفاع عن النفس بسب عدم التمييز بين الأخوانيين ومقاتلي الطليعة .
ومع ذلك فان هذه المعركة إن كانت مع العشرات أو المئات ما كانت تتطلب هذه الحرب المفتوحة، فيما يشبه حرب الأرض المحروقة ضد المجتمع السوري ذاته بهدف استئصال السياسة منه، وتقويض كل المكتسبات المدنية، واجتياف ميراث الدولة الدستورية والقانونية المتبقية من زمن الشرعيات الدستورية في زمن الكولونيالية ومن ثم الوطنية ما بعد الاستعمار التي لم يتمكن البعث من استئصالها نهائيا في الستينات تحت شعار حماية (دولة الثورة) ، فكان عليه أن ينقض على الأحزاب والنقابات الني لم تكن كلها إسلامية، ولم تكن مؤيدة أو مبررة لعنف الطليعة المقاتلة للإسلاميين، بل أخذوا موقفا مستقلا حياديا خارج خياري العنف الطائفي (السلطوي ) والأخواني (الطلائعي) ، حيث أراد الطرفان أن يزج المجتمع في آتون الحرب الأهلية، فعجزا عن ذلك عندما لم تتم خلال زمن الفتنة أية احتكاكات مجتمعية أهلية طائفية، وهذه نقطة خلاف نسجلها نحن مع التقرير الذي يصف في فصله الثاني (سنوات الخوف ) بالحرب الأهلية ص 21 ، حيث على الأغلب أن التقرير يسقط استقراءه لصورة واقع المجتمع السوري الراهن المشحون بطائفية مضادة لطائفية السلطة التي توميء- أمام انغلاق الأفاق- إلى احتمالات الحرب الأهلية وفق تقديرات الأوساط الإسرائيلية أو تهديداتها لا فرق، لأنه في الأصل مبدئيا، لا تستطيع إسرائيل ولا أية قوة عالمية أن تشعل حربا طائفية داخلية إذا لم يكن الداخل مستعدا وقابلا للحرب الأهلية.
نقول :إن التقرير أسقط اللحظة الراهنة المشحونة بالحرب الأهلية على لحظة المواجهة الطائفية المشار إليها –باسم الحرب الأهلية- بين النظام ومجموعة عصابات انتحارية لا تملك وعيا باستراتيجية ميزان القوى في حينها، فاندفعت إلى العنف بذات الدرجة من السهولة والرعونة والطيش التي تتخلى فيه اليوم عن مسؤولياتها المصيرية تجاه معركة شعبها مع الديكتاتورية باسم التضامن مع غزة !
لقد كان نتاج ذلك أن أسقط التقرير صورة اللحظة الراهنة المترعة بالرفض والكره الطائفي المتبادل الذي أنتجته طائفية عائلية تسلطية (عسكرية أمنية) بلا خجل، على تلك الفترة التي لم تكن قد وصلت بالوعي الوطني إلى هذه الدرجة من الانشقاق الوطني الأخدودي القائم اليوم والمتواري خلف وحدة وطنية لفظية بيانية شعارية وشعائرية مدججة بالقمع والاستيلاء الطائفي الفخور بتحالفاته واستقوائه بالحلفاء الطائفيين (إيران وحزب الله) وتخليه عن محيطه العربي الذي طالما تبجح (بيانيا) بأنه طليعته القومية والثورية …!!
وعلى هذا فإنه من المبالغة المنحازة والممالئة تسمية معركة النظام الشمولي ضد مجموعات مسلحة محدودة حتى ولو كانت بالمئات، بأنه دخل في مواجهة مع “حرب عصابات ” كما يسميها فيسك، وأن العمليات المحدودة وفي ليلة واحدة التي قامت ضد بعض مسؤولي البعث في حماة، يمكن أن تقرأ على أنها عملية إبادة جماعية لحماة (الأحياء القديمة)، بل إن السيد فيسك لو زار حماة، وأتيح له أن يسمع من أفواه الحمويين الذين بقوا على قيد الحياة، لعرف أن عملية الإبادة البشرية الأكبر تمت بعد تدمير المدينة، وبعد التطمينات الأمنية ودعوة الناس للخروج، لكن هذه الأقوال من الصعب أن يسمعها من الناس مباشرة إذا ما قرؤوا آراءه في مقالته هذه ولاحظوا ما تنطوي عليه من نفحات تبريرية لنظام الذبح الذي ولغ في دم شعبه …
إن عمليات الإبادة الجماعية التي بلغت وفق تقديرات التقرير إلى 25 ألف شخص، لم تكن نتاج قصف الأحياء القديمة وتهديمها ومساواتها بالأرض، بل كان ذلك بعد إعلان قوات الاستيلاء في المكبرات الصوتية العامة للناس بنهاية العمليات العسكرية وبأن بإمكانهم الخروج، إذ بعد أسابيع من الاختباء خرج الناس لحاجاتهم دون معرفة أن حاكمهم ينصب لهم كمينا ليصطادهم بكل جبن ونذالة ووحشية بالشوارع، ولقد أتيح لي شهادة عائلة (مسيحية ) يسارية كانت تقطن في بقعة سكنية معروفة بأن سكانها من الطائفة المسيحية، حيث كان متاح لبيت الأصدقاء هؤلاء أن يشاهدوا ما كان يحدث في ساحة (النواعير )، إذ تعجز مخيلة بازوليني في أشد حالات جنوح تغريباتها السوريالية أن تتصور ما كان يحدث على الأرض، حيث مشاهد الذبح تتجاور مع مشاهد الاغتصاب، مع مشاهد النهب للمحلات التجارية بعد تحطيم أبوابها، ومن ثم الهتاف بالروح والدم افتداء لحافظ أسد … مما لا يمكن تفسيره بأسباب وضعية تتصل بالأحداث والوقائع والنوازل، بمقدار ما تتصل بطبقات من الشحن الطائفي الذي يحقق وحدته الطائفية وانسجامه الأقلوي من خلال وحدة هدف كراهية الآخر التي ينتجها الوعي ما قبل الوطني، وما يؤججه من مشاعر انتقامية تتغذى من السرديات والحكايات والأساطير التي تتناقلها الجماعة (الأقلوية) للحفاظ على وحدة مخيالها الجماعي حول أهدافها الثأرية والانتقامية عبر التاريخ .
أما الحديث عن الجامع الذي بني في مقبرة هنانو فوق مقبرة جماعية، فمدار سبب هذه المذبحة التي سميت بـ “مذبحة المشارقة “، هو الرد على مقتل جندي على حاجز قرب حي المشارقة، ويقال إنه اغتيال مخبر للأمن من قبل مسلحين اثنين، فتمت ملاحقتهما، وذلك في أول يوم من أيام عيد الفطر، وعندما لم يتم القبض عليهما، تم إخراج حوالي 85-100 شابا من بيوتهم بألبسة نومهم وتمت عملية إبادتهم الجماعية، مما أثار استنكارا ضمنيا داخليا حتى لدى أساتذتهم في الشمولية (السوفييت) ذوي الميراث الدموي الستاليني، فأرسلوا يستدعون قيادة حزبهم الشيوعي للتحقق من المعلومات التي أشاعت رعبا مجتمعيا، وصلت أصداؤه لكل أنحاء العالم الساكت على الجرائم (الأسدية) حتى لدى حلفائهم السوفييت، لكن مع ذلك فإن الغرب –عبر بيت الحرية- لم يحرك ساكنا تجاه العرب الأكثر استهدافا في الشرق الأوسط حسب فيسك، سوى صمته على جرائم النظام –بما يشبه المباركة -الذي يفترض أنه يقود معركة التصدي ضد الإمبريالية وأعوانها الرجعيين من (عصابات الأخوان المسلمين)، كما كان يردد تلاميذ المدارس قبل الدخول إلى صفوفهم المدرسية …
لقد تحدث شهود عيان ممن يصابون بالهستيريا عندما يروون ما شاهدوا من فظائع، أنه قد وجهت الأوامر إلى الشباب –أسرى البعث الأسدي- الذين لم يستفيقوا بعد من نومهم أن يحفروا بأنفسهم حفرة كبيرة كافية لتتسع جثامينهم قبل تصفيتهم، حيث قد تم رميهم في هذه الحفرة التي حفروها كمقبرة بأيديهم ومن ثم تم ردمهم فيها دون التأكد من وفاة الجميع، ومن ثم بناء جامع كبير فوق هذه المقبرة الجماعية لإزالة أثار الجريمة …!
وفي المآل: إن الرئيسي الذي يغفل عنه فيسك أو يسكت عنه، وهو ما يمكن أن يكون الوظيفة الرئيسية للتقرير: هو مسألة تدويل قضية المفقودين عبر الدعوة للعمل مع المنظمات الدولية ، ورفع الدعاوى في المحاكم الدولية (التقرير – ص 121 )، والتي بدأت مؤشراتها العالمية تتبلور على الأرض من خلال مثال: صدور تقرير منظمة العفو الدولية (امنستي ) اليوم في باريس باللغة العربية والانكليزية تحت عنوان ( “ابنكم ليس هنا ” حالات الاختفاء القسري من سجن صيدنايا العسكري في سوريا) لقد بدأت مملكة الصمت الأسدي تتداعى جدران رعبها أمام أنظار العالم ….!!!
الحوار المتمدن