صفحات سورية

بعد أكبر ضربة اقتصادية للجماعة: قراءة في رأس المال الإخواني والاقتصاد المصري

null


حسام تمام

الملمح الأبرز في المحاكمة العسكرية الأخيرة التي تعرض لها أربعون من قيادات جماعة الإخوان المسلمين في مصر أنها كانت متوجهة- بشكل أساس- لحصار إن لم يكن ضرب القوة الاقتصادية للجماعة ممثلة في تصفية عدد من المؤسسات الاقتصادية المحسوبة علها وسجن عدد من أبرز رجال الأعمال المنتمين لها والمؤثرين فيها وفي مقدمتهم المهندس خيرت الشاطر النائب الثاني للمرشد العام للجماعة، وشريكه المهندس حسن مالك أبرز الناشطين الإخوان في مجال البيزنس.

الضربة الأكبر لرجال الأعمال

مثّل رجال المال والأعمال العدد الأكبر ضمن الذين جرت محاكمتهم فوصل عددهم خمسة عشر من رجال الأعمال من جملة أربعين بما يقارب نصف عدد المحاكمين غير من يعملون في إدارة مؤسسات تابعة لهم أو في كوكلاء لمؤسساتهم الاقتصادية.

كما كان رجال المال والأعمال أكثر من طالتهم الأحكام بالسجن، فقد تمت إدانة غالبيتهم العظمي، فأدانت المحكمة يوسف ندا وغالب همت وإبراهيم الزيات (خارج البلاد) وخيرت الشاطر وحسن مالك وأحمد عبد العاطي ومدحت الحداد وضياء الدين فرحات وأحمد شرف وفتحي بغدادي.

وحتى الذين نالوا أحكاما بالبراءة فإنهم لا يمثلون خروجا عن هذه القاعدة فهم إما أصحاب استثمارات محدودة وغير مؤثرة لا تمثل الوجه الأبرز في نشاطهم داخل الجماعة ( مثل حسن زلط أو محمود عبد اللطيف عبد الجواد) أو أن الكلفة السياسية لسجنهم أكبر بكثير من فوائدها للنظام وهو ما ينطبق على المهندس عبد الرحمن سعودي الذي كان الحكم ببراءته متوقعا بالنظر إلى حيثية الرجل وانتمائه لعائلة اقتصادية عرفت بحضورها وتأثيرها في وسط رجال الأعمال كما أن جزءا من هذه العائلة يتصل بعلاقات وثيقة مع النظام ترقى إلى حد الانتماء له.

إضافة إلى أن علاقة سعودي بالإخوان تبدو تاريخية أكثر منها فعلية فهو غير معروف بحضوره داخل الجماعة كما لم يسبق توليه أدوارا أو مهاما تنظيمية مؤثرة وربما لا تتجاوز علاقته الحالية بالجماعة التعاطف الطبيعي أو حتى تمويل بعض الأنشطة وشراكة اقتصادية مع بعض رجال الأعمال الإخوان، وهى شراكة كثيرا ما تقع بحكم الصلات الطبيعية التي تربط العاملين بمجال المال والأعمال الإسلاميين أكثر منها بحكم الانتماء لجماعة.

ومثلما كانوا الأكثر تعرضا لأحكام السجن جاء رجال الأعمال الأشد في العقوبات التي قضت بها المحكمة العسكرية، فقد تعرض ثلاثة منهم ( ندا وهمت والزيات) للحد الأقصى للعقوبة وهو عشر سنوات وهى أشد عقوبة تعرض لها أفراد من الإخوان منذ نهاية النظام الناصري، كما نال الشاطر ومالك وحدهما من بين المحاكمين حضوريا عقوبة السجن سبع سنوات كاملة، فيما تراوحت عقوبات الآخرين بين ثلاث إلى خمس سنوات.

وكان ملاحظا أن بعض رجال الأعمال أدينوا للمرة الثانية في محاكمات عسكرية سابقة مثل خيرت الشاطر نفسه الذي سبق وقضي سجنا مدته خمس سنوات (1995-2000) بل إن بعضهم يحل للمرة الرابعة أو الخامسة سجينا في أقل من عشر سنوات عوقب فيها مرتين في محكمة عسكرية بنفس التهمة مثل المهندس مدحت الحداد الذي قضي عقوبة السجن ثلاث سنوات ( 1999-2002) إضافة إلى سنتين قيد الاعتقال!

كما لم يقتصر الحكم على رجال الأعمال بالسجن فقط، فرغم إسقاط المحكمة العسكرية لتهمة غسيل الأموال التي سبق توجيهها في بداية القضية إلا أنها قضت بمصادرة أصول وأموال لعدد من المدانين بالسجن فحكمت بمصادرة نصيب خيرت الشاطر وحسن مالك في شركة مالك وفروعها وشركة رواج وفروعها، ومصادرة نصيب مالك في شركة الأنوار، ومصادرة نصيب الشاطر وأحمد عبد العاطي في شركة الحياة، ومصادرة نصيب أحمد أشرف عبد الوارث فى دار التوزيع والنشر الإسلامية.

تحول جذري من النظام له ما بعده

إن قراءة سريعة لأحكام المحاكمة العسكرية الأخيرة للإخوان تقول إننا بإزاء تحول جذري في تعامل النظام مع القوة الاقتصادية لجماعة الإخوان بما يبدو إيذانا بحرب اقتصادية على الجماعة الأكبر والأكثر تأثيرا بين الجماعات الإسلامية والقوى السياسية المعارضة عموما، وهو ما يتوقع أن يكون له تأثيرات مستقبلية علي الوضع الاقتصادي سواء ما يتصل بالاستثمارات “الإخوانية” أو “الإسلامية” أو على مجمل الوضع الاقتصادي في مصر عموما.

لمحة تاريخية عن الاقتصاد الإخواني

اهتمت جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها بالمجال الاقتصادي، فعلى مستوي التصور النظري يري الإمام المؤسس حسن البنا أن جماعته يفترض أن تكون “شركة اقتصادية” مثلما هي “دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية..وفكرة اجتماعية”، أما على مستوي الممارسة فقد اتجه البنا مبكرا إلى تأسيس عدد من الشركات والمؤسسات الاقتصادية، وكانت السمة الأساسية لهذه الكيانات الاقتصادية أنها إما تتصل بشكل مباشر برسالة الإخوان وسعيه لتبليغها بأفضل وجه ( مثل شركة الإخوان للطباعة والنشر ) أو أنها كانت تتصل برؤيته الإسلامية الكبرى والشاملة والتي يمكن أن نراها أقرب ما تكون إلى جزء من مشروع لحركة تحرر وطني ذات تأسيس إسلامي، وهو ما يمكن أن نجد صداه في نوعية الاستثمارات التي توجهت لها الشركات الإخوانية كما في شركة الإخوان للمحاجر، أو شركة الإخوان للغزل والنسيج التي أسسها في وقت كانت مصر تمثل موردا أساسيا للقطن الخام لمصانع بريطانيا المحتلة.

وليس معروفا على وجه الدقة هل كانت ملكية هذه الشركات والمؤسسات الاقتصادية للجماعة كما أعلنت السلطات التي صادرتها عقب قرار حل الجماعة في 1948، أم أنها كانت ملكية خاصة لبعض أعضائها كما يؤكد البنا نفسه في آخر ما كتبه قبيل اغتياله ( كتاب قضيتنا ) أم أنها مختلطة بين هذا وذاك، مع العلم بأن الوضعية القانونية للجماعة وقتها كانت تسمح لها بتملك هذه المؤسسات والدخول في النشاط الاقتصادي دون خوف أو مانع قانوني.

قامت ثورة يوليو 1952 ولم تدم حالة التفاهم أو حتى التحالف طويلا بين قادة الثورة وجماعة الإخوان، فوقع الصدام العنيف والفراق النهائي (1954) وصدر قرار من مجلس قيادة الثورة بحل الجماعة ومصادرة مقارها وممتلكاتها، وتبع ذلك توجيه أكبر ضربتين للجماعة ( 1954/1966) أسفرت عن تغييب شبه تام لها عن الحياة العامة.

لا يمكن أن نتكلم عن نشاط أو مؤسسات اقتصادية للجماعة أو للإخوان في العهد الناصري فقد كان أقصي نشاط اقتصادي للجماعة هو جمع الأموال والتبرعات من داخل البلاد وخارجها للإنفاق على أسر المسجونين والمعتقلين، إذ فضل الكثير من رجال المال والأعمال الابتعاد عن الجماعة وترك مسافة بينهم وبينها كما فعل المهندس طلعت مصطفي على سبيل المثال، كما ذاب عدد من الإخوان الذين كانوا يعملون في مجال الاستثمار في عدد من المؤسسات والشركات الاقتصادية الكبرى في هذه الفترة وخاصة شركة المقاولين العرب التي أسسها المهندس الراحل عثمان أحمد عثمان والذي كان متعاطفا مع الإخوان بسبب علاقته القديمة بالجماعة قبل الثورة وقدم لكثير من أعضائها الدعم والمساندة المالية كما استعان ببعض أعضائها في مشروعاته خارج مصر وخاصة في ليبيا والسعودية وفي الأخيرة تلقي دعما كبيرا من النخبة الإخوانية التي كانت قد استقرت في الخليج.

ولكن يمكن أن نرصد في هذه الفترة أن من بين مئات الإخوان المهاجرين أو الهاربين خارج البلاد كان هناك عدد من المعروفين بنشاطهم الاقتصادي وعملهم في مجال الاستثمار من أبرزهم المهندس عبد العظيم لقمة، والمهندس يوسف ندا ، والمهندس حلمي عبد المجيد، والمهندس مصطفي مؤمن (كان قد خرج وقتها من التنظيم) ويتردد أن عاكف المغربي صاحب مؤسسات المغربي للبصريات المعروفة في الخليج كان من بين هؤلاء قبل أن تنقطع علاقاته مع الإخوان. وكان خروج هؤلاء الإخوان من مصر فرصة لبناء شركات ومؤسسات اقتصادية ناجحة.

ومع وفاة الرئيس جمال عبد الناصر وتولي الرئيس أنور السادات الحكم شهدت مصر نهاية عهد كامل كان أبرز ملامحه (فضلا عن ضرب الإخوان) الدور المركزي للدولة في الاقتصاد ليبدأ السادات ما عرف بسياسة الانفتاح وما ترتب عليها من انسحاب الدولة من عدد من القطاعات الاقتصادية المهمة ليملأ فراغها طبقة تشكلت من رجال المال والأعمال الذين كانوا أهم نجوم حقبة السبعينيات: حقبة الانفتاح، وكان لطيور الإخوان المهاجرة ورجال أعمالهم من ذلك نصيب وافر.

سريعا ستجذب سياسات الانفتاح رأس المال الإخواني في المهجر ليستثمر في عدد من المجالات كان يميزها أنها(أولا) تملأ فراغ انسحاب الدولة و(ثانيا) تلبي احتياجات الطلب الاستهلاكي الكبير الذي عرفته مصر في عهد السادات.

تركزت الاستثمارات الإخوانية والإسلامية عموما في مجالات عدة كانت الدولة تعاني عجزا فيها وبحاجة لتدخل القطاع الخاص كما هو الحال في قطاع الإسكان الذي كان يعاني أزمة كبيرة قصر فيها العرض عن تلبية الطلب المتزايد بفعل الكثافة السكانية التي قاربت القفزة، وقطاع الصحة حيث لم يكن للدولة وقتها بنية تحتية قوية من المستشفيات والمؤسسات الطبية، وقطاع التعليم الذي بدأت تنهار منظومته الرسمية حتى كادت تعجز عن توفير القدر المعقول من الجودة، وقطاع النقل والمواصلات وكان على وشك الانهيار، وكذلك السلع الغذائية التي شهدت نقصا كبيرا..وتقريبا كل القطاعات الخدمية والاستهلاكية التي تأثرت بالانفجار السكاني وبالانسحاب السريع للدولة.

ومنذ نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات بدأت عودة رأس المال الإخواني المهاجر أو المولود في المهجر، وظهرت بدايات تشكل طبقة من رجال الأعمال والمستثمرين الإخوان، وكما ظهرت أيضا شبكة من المؤسسات والشركات الاقتصادية وثيقة الصلة بالإخوان، فتأسست شركات الإسكان والاستثمار العقاري وشهدت نموا مذهلا، ومؤسسات الرعاية والخدمات الصحية (خاصة في مجال الأدوية والأجهزة والمستلزمات الطبية)، والمؤسسات التعليمية الخاصة (المدارس والمستلزمات التعليمية)، وشركات استيراد وتجارة السيارات، وشركات تجارة السلع الغذائية..وكان واضحا أنها كلها تتفق مع مطالب السوق الاستهلاكية المتعاظمة في هذه الفترة وأنها تغطي انسحاب الدولة وتملأ فراغها بما حال وقتها دون ظهور كل الآثار السلبية لهذا الانسحاب الذي كان جديدا ومؤلما على المواطن المصري.

فيما بعد ستدخل الاستثمارات الإخوانية مجال السياحة (خاصة الدينية مع تزايد التدين وتزايد الطلب على الحج والعمرة)، والإدارة والتطوير والتدريب، والإلكترونيات وتقنية المعلومات وغيرها من المجالات التي تلتقي واحتياجات المجتمع المصري الآخذ في الانفتاح على العالم في هذا الوقت، وكان المهندس خيرت الشاطر صاحب المبادرة دائما في الدخول لهذه المجالات الجديدة، فقد كان أول رجال الأعمال الإخوان دخولا مجال الإدارة ( أسس مركز الأمة نهاية الثمانينات) ثم الحاسب الآلي (شركة أنظمة الحاسب الآلي: سلسبيل)..

وبعكس الاستثمارات الإخوانية في زمن المرشد المؤسس حسن البنا التي كانت جزءا من مشروع استقلال وطني (حيث أن تأسيس شركة للغزل والنسيج في زمن الاحتلال البريطاني هو أقرب لقرار تأميم قناة السويس!) كانت الاستثمارات الإخوانية في حقبة الانفتاح: استهلاكية في طابعها العام وهو ما سيتأكد ويبدو أكثر وضوحا مع تحول القطاع الأكبر من شركات الاستثمار العقاري الإخوانية منذ عقد التسعينيات للاستثمار في الإسكان الفاخر والقرى السياحية التي امتلأ بها الساحل الشمالي!.

وجود واسع ولكن غير مؤسسي

ورغم أن العقدين الأخيرين شهدا تكون طبقة من رجال المال والأعمال الإخوان والإسلاميين (ممن هم من خارج الإخوان)، ورغم أن هذه الطبقة كان لها تأثير لا بأس به في الوضع الاقتصادي لمصر كما في تجربة شركات توظيف الأموال مثلا؛ إلا أنها لم تستطع أن تعلن عن وجودها مؤسسيا أو عبر كيانات اقتصادية صريحة، على غرار نظيرتها في دولة مثل تركيا التي أسس فيها نجم الدين أربكان تجمع لرجال الأعمال الإسلاميين الذين ينحدر معظمهم من هضبة الأناضول( اتحاد رجال الأعمال والصناعيين المستقلين: الموصياد) والذي صار الآن بمثابة الذراع الاقتصادي لحزب العدالة والتنمية الحاكم ويتحكم فيما يقارب 12% من الاقتصاد التركي.

وسواء أكان ذلك لأسباب تتصل ببنية جماعة المال والأعمال الإسلاميين أو لطبيعة المناخ السياسي في مصر والذي لا يسمح بنشوء مثل هذه التكتلات فقد كانت المحصلة واحدة: وهى ضعف تأثير جماعة المال والأعمال في القرار السياسي في داخل تنظيم الإخوان فضلا عن مجمل الوضع السياسي. ولكن يأتي المهندس خيرت الشاطر باعتباره الاستثناء الأبرز في هذا المجال، فالرجل الذي عرف بنجاحه في مجال المال والأعمال تمتع بقدرات تنظيمية فائقة دفعت به علي قمة الهرم التنظيمي للجماعة ( نائبا ثانيا لمرشدها) وجعلت منه القيادي الأول الذي يجمع بين قوة المال وسلطة التنظيم.

إن خيرت الشاطر أبعد من رجل أعمال، وأكبر من مجرد قيادة تنظيمية لها رؤية في تطوير الجماعة وإصلاحها داخليا، بل هو مزيج نادر منهما ومن ثم فيصح القول باستثنائية الرجل موقعا وتأثيرا في جماعة الإخوان المسلمين.

أموال الإخوان: للجماعة أم الأفراد

لأسباب كثيرة يخلط الكثيرون في تقدير حجم القوة الاقتصادية للإخوان المسلمين، فالحظر القانوني للجماعة يحول دون معرفة دقيقة بحجم عضويتها ودقة انتساب البعض لها أو خروجهم منها خاصة في ظل الشائعات التي تكثر في أوساط رجال الأعمال وما يعرف به رجال الأعمال أنفسهم من خوف طبيعي فيما يتعلق بتحالفاتهم وشبكات علاقاتهم فضلا عن ارتباطاتهم السياسية، وإذا كان ” رأس المال جبان ” كما يقول المثل الأكثر شيوعا فأصحابه لهم من هذه الصفة نصيب زاد منه أو نقص!.

كما يبدو أن غياب الدقة في تقدير القوة الاقتصادية للإخوان سببه الخلط بين الجماعة وأفرادها ومن ثم الخلط بين ما يمكن أن يعد أموال الجماعة واستثمارات خاصة بها وبين أموال أفرادها واستثماراتهم. وهو ما كان مسئولا عن الخطأ الشائع في حجم ما يعود للجماعة من استثمارات وأنشطة اقتصادية.

والواقع أنه، وتحديدا منذ حظر الجماعة قانونيا في بداية الثورة، لم يعد لجماعة الإخوان استثمارات خاصة بها كتنظيم إلا ما يتصل بنوعية معينة من الاستثمارات التي تتسم (أولا) بأنها محدودة في رأسمالها وأنها (ثانيا) لصيقة بطبيعة الجماعة الرسالية كجماعة دعوية، وهو ما يجعل القيمة الرمزية لمؤسسات الجماعة الاقتصادية أكبر بكثير من وزنها الاقتصادي مثلما هو الحال في شبكة المدارس الإسلامية الخاصة ودور النشر الإسلامية التي تعود ملكيتها الحقيقية للجماعة رغم أنها ولأسباب قانونية مسجلة باسم بعض رموزها وقادتها ( كما في دار الدعوة ومدارس المدينة المنورة بالإسكندرية أو دار التوزيع والنشر الإسلامية ومدارس الرضوان بالقاهرة)، رغم أن الأمر تطور لاحقا وظهرت استثمارات إخوانية خاصة في مجال النشر والتعليم يتملكها أصحابها وليس الجماعة.

ويمكن القول أن ما تمتلكه الجماعة واقعيا من مؤسسات اقتصادية هو يدور بالأساس في إطار نمط محدد من الاستثمارات المحدودة يتناسب مع وضعية الحظر القانوني وإمكانية الملاحقة والمصادرة في أي وقت، إضافة إلي طبيعة عائده الفكري والثقافي البالغ التأثير.

كما يمكن القول بل والجزم بأنه ليس لجماعة الإخوان استثمارات اقتصادية كبيرة، وأن غالبية المؤسسات الاقتصادية التي تعرضت للملاحقة الأمنية والقانونية هي في غالبيتها الساحقة استثمارات لأفراد من الإخوان أو لقيادات في قمة الهرم التنظيمي للجماعة كما هو الحال في استثمارات الثنائي خيرت الشاطر وحسن مالك أو استثمارات الثنائي الأقدم والأكبر سنا يوسف ندا وغالب همت.

حدود العلاقة بين أموال الجماعة وأعضائها

وإذا قلنا أن ملكية هذه الأموال والاستثمارات لا ترجع للجماعة كتنظيم وأن ملكية رجال الأعمال من مثل الشاطر ومالك والحداد وغيرهم هي ملكية حقيقة وليست صورية يظهرون فيها كواجهة قانونية لجماعة محظورة، فإن هذا لا ينفي أنها يمكن أن تمثل رصيدا للجماعة يعزز من قدرتها وإمكاناتها المالية والاقتصادية وذلك من خلال النسبة الشهرية التي يدفعها رجال الأعمال كأعضاء عاملين بالجماعة (تصل إلى 8% كحد أدني شهريا من الدخل الكلي) أو من خلال مساهمات خاصة لرجال الأعمال والبيزنس تعرف بسهم (أو نصيب) الدعوة؛ وهو التزام طوعي للعضو الذي يعمل في الاستثمارات أقرب إلى النذر الذي يلزم نفسه بالوفاء به في صورة تبرع للجماعة أو تمويل لأحد أنشطتها أو إنفاقا على وجه من وجوه عملها أو لجنة من لجانها الداخلية.

وقد يحدث أن تشجع الجماعة بعض أعضائها أو (على وجه أدق) تشجع مبادرات بعض الأعضاء ممن يعملون في مجال المال والأعمال على الاستثمار في مجالات تعود بالنفع على الجماعة: تنظيمها أو رسالتها، ولكن هذا لا يجعل من هذه الاستثمارات ملكية للجماعة أو يجعل ملكية هؤلاء الأعضاء صورية لهذه الاستثمارات، وهو ما ينطبق مثلا على أموال بنك التقوى واستثماراته. فقد كان البنك مشروعا خاصا بأعضائه ممن كانوا في غالبيتهم أعضاء بل وقيادات كبيرة في الجماعة، ولم يكن للجماعة أي نصيب فيه رغم تشجيعها لدخول هؤلاء الأعضاء/المستثمرين في هذا النمط من الاستثمارات خاصة وهو يحقق لها رغبتها في تأسيس بنوك إسلامية وتعميم هذا النمط من البنوك وجعله واقعا يجسد رؤيتها فيما ترى أنه الشكل الإسلامي الأمثل للعمل المصرفي.

والمفارقة أن الخلط بين أموال الجماعة كتنظيم وأموال أفرادها ممن يعملون في مجالات المال والأعمال ليس ناتجا فقط عن الحملات الدعائية المضادة للجماعة من قبل خصوم سياسيين وأيديولوجيين من مصلحتهم التخويف من الجماعة وقدراتها الاقتصادية، بل كثيرا ما يأتي من قبل بعض رجال المال والأعمال داخل الجماعة نفسها رغبة في تسويق بعض مشروعاتهم وإعطائها قدرا من الشرعية أو قدرة على الرواج خاصة مع ما تمثله الجماعة من حضور وانتشار في شرائح وطبقات اجتماعية تصلح لأن تكون سوقا مستهدفا لأي مستثمر أو رجل أعمال. ويحدث في بعض الأحيان أن ذلك الربط بين أموال أعضاء الإخوان وجماعتهم يأتي في سياق التحلل من الالتزامات المالية في حال فشل هذه الاستثمارات أو ضياعها باعتبارها “خاصة بالدعوة”! وربما للتخفيف من وطأة ذلك خاصة إذا ما راحت ضحية لضربة سياسية أو أمنية.

التأثيرات الاقتصادية للمحاكمة العسكرية

إذا كان من تأثير للأحكام التي قضت بها المحكمة العسكرية الأخيرة علي جماعة الإخوان، وهو مؤكد، فإن أكثرها سيكون في الشأن الاقتصادي الذي يقتصر المقام عليه، فالأرجح أن الضربة التي طالت 34 شركة للدواء والتوكيلات التجارية والسياحة والمقاولات والتعليم والنشر واستصلاح الأراضي وأحكام السجن التي صدرت بحق نحو 15 رجل أعمال سيكون لها تأثيرات سلبية علي دوائر عدة.

الدائرة الأكثر تضررا سيكون جماعة المال والأعمال داخل الإخوان والتي ستتأثر إلى حد كبير ليس بغياب هذا العدد من أعضائها أو الضرر الذي أصاب جزءا لا بأس به من بينتها التحتية، بل سيكون الأثر الأكبر في غياب خيرت الشاطر العقل المفكر وصاحب أهم دور في تنمية مبادرات الاستثمار والنشاط الاقتصادي بين الإخوان المسلمين إضافة إلي الدينامو المحرك حسن مالك الأكثر قدرة على جلب الاستثمارات وفتح الأسواق الجديدة لرأس المال الإخواني. لقد كان الشاطر مسئولا إلى حد كبير عن إطلاق معظم المبادرات الاقتصادية داخل القواعد الإخوانية سواء بالتشجيع أو المشاركة أو فتح آفاق جديدة وإتاحة فرص أوسع للاستثمار أمام الوافدين الجدد من الإخوان على مجال المال والأعمال، بل وكانت له مبادرة للارتفاع بالوضع الاقتصادي للإخوان كجماعة وكأفراد أيضا ربما تحتاج وحدها إلي تحليل منفرد.

أما الدائرة الثانية فهي رأس المال الإسلامي المصري الذي يلتقي فيه الإخوان مع مستثمرين ورجال أعمال متدينين أو إسلاميين (من خارج الجماعة) وستكون الضربة بمثابة تكرار لما جرى مع شركات توظيف الأموال بما يزيد من احتمال خروج قدر معتبر من هذه الاستثمارات إلي مناطق أكثر أمنا، خاصة وأن احتمال التوسع في مطاردة رأس المال الإخواني يمكن أن يطال من هم خارج التنظيم للاشتباه أو الشراكة وقريب من ذلك ما وقع مع عبد الرحمن سعودي.

وتبقي الدائرة الثالثة وهي شبكة الاستثمار الإخوانية والإسلامية التي تمتد خارج مصر لتتصل بمؤسسات وشركات كبرى خاصة في الخليج وتركيا والتي تضررت كثيرا بالضربة التي وجهها النظام للإخوان خصوصا سجن حسن مالك صاحب الدور الأبرز في نسج هذه الشبكة خاصة مع رجال الأعمال الأتراك، وكانت مصادر قريبة قد أشارت سابقا إلى انسحاب رأس مالي تركي يقدر بمبلغ 360 مليون دولار كانت تتجه للاستثمار في مدينة 6 أكتوبر معظمها كان قد تم الاتفاق على هامش المؤتمر الاقتصادي لاتحاد رجال الأعمال والصناعيين المستقلين الذي عقد في تركيا نهاية عام 2006 وكان مخصصا لقضية الاستثمارات البينية الإسلامية والذي شارك فيه حسن مالك والتقي على هامشه برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وعدد من وزراء حكومته.

باحث مصري في الحركات الإسلامية

المقال على الرابط التالي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى