قراءة في مفهوم الحرية في الثقافة الإسلاميّة
بقلم أبي حسن
لعل المشكلة الأبرز التي تعانيها المجتمعات العربية راهناً، وهي مجتمعات ذات ثقافة إسلاموية في مجملها، هي الاستبداد الذي ترزح تحت وطأته منذ قرون. قبالة ذلك تواجه هذه المجتمعات تحدّياً حقيقياً ألا وهو الديموقراطية المنطوية آلياً على الحرية. ومن الطبيعي أن تشكو هذه المجتمعات من الاستبداد مطالبة بالحرية والديموقراطية دون أن تعي أنه ترسخ في ثقافتها ووعيها(وحتى وجدانها) أنه على كل من يحب الدنيا ويكره الموت أن يشعر بالذنب ويستغفر الله على هذا! واشهد اللهم لا مبالغة في قولي هذا!
لعله من أهم أسباب افتقاد المجتمعات التي نعني إلى الحرية، واكتوائها بنار الاستبداد، هو استكانتها إلى منظومتها المعرفية الفقهية التي تمّ إنتاجها في زمن ولّى ومضى، وإعادة اجترارها لما قاله زيد من الفقهاء أو عمرو!
ربما من هنا كان قول أدونيس (إن جسدنا يعيش في عالم حديث، وفكرنا يعيش في عالم قديم)، وفعلاً أليس من الطبيعي(أو المفترض) ونحن نعيش في زمن مغاير لزمن أسلافنا أن تكون لنا طرائقنا الخاصة في التفسير والتأويل، هذا اللهم في حال كنا أحياء فعلاً!
نقول ما سبق ذكره ونحن نعي جيداً أن الفقهاء الإسلاميين لم يطرحوا عبر التاريخ الإسلامي(لاسيما التراثيين منهم) شعار الحرية كمفهوم وقيمة نهائياً، فضلاً عن استهتارهم بحياة الناس بحيث ما عادت الحياة والحرية من القيم الإنسانية العليا في وعينا الجمعي وهذا ما سنحاول تبيانه في ما هو آت.
انطلاقاً مما سلف يحضرني سؤال مفاده: إذا كانت للمعرفة الدينية سبلها ( القرآن، السنة، القياس، الإجماع…)، ما يعني أننا حصرنا المنظومة المعرفية في أطر أنتجت منذ أحد عشر قرناً، وهذا بحد ذاته كارثة حقيقية! فلماذا لا يقوم اليوم إجماع جديد؟ هذا في حال سلمنا أن معنى الإجماع في أحد جوانبه هو عبارة عن اجتهاد فردي مخالف للإجماع المألوف قد يؤدي إلى خلق إجماع جديد يساهم في تحرير فكرنا من قيود الماضي. وحقاً هل بإمكان معارفنا أن تتطور إلا بإحداث خرق في الإجماع؟ وفي حال تطورت معارفنا ونمت مداركنا ألا نصبح في جوهر عملية التغيير وفي جوهر الدين كمعرفة؟.
يرى المفكر الإسلامي المعاصر الدكتور محمد شحرور إن “لفظ الإجماع حين يرد لدى احد علمائنا الأفاضل لا يعني الإجماع المطلق عند الأمة، بقدر ما يعني إجماع جماعة بعينهم من طائفة بعينها أو من مذهب بعينه”، انطلاقاً من رأي الدكتور شحرور نستطيع القول إن الإجماع لا يصلح أن يحتكم إليه في إثبات الصواب أو إقرار الحق، ولنتذكر في هذا المقام كيف كان إجماع العلماء الطبيعيين حول نظرية دوران الشمس حول الأرض إلى أن أتى غاليلو وقال العكس مخالفاً إجماع علماء عصره(وقد كانت ضريبة مخالفته لإجماع علماء عصره باهضة، إذ كلفته حياته إلى أن مات تلك الميتة الشنيعة!)، وفي السياق ذاته كان العلماء يعتقدون أن العناصر المكونة للكون هي أربعة إلى أن جاء اينشتاين وقال بأن هناك أكثر من تسعين عنصراً يساهم في تكوين الكون وتشكيله وقد كاد يذهب هو الآخر ضحية رأيه هذا المخالف للإجماع الذي كان سائداً حينذاك!. وإذا أردنا تبسيط مسألة الإجماع بغية تفنيدها سننطلق من رؤيتنا حول إجماع اليهود على اغتصاب فلسطين واحتلالها وتشريد شعبها وقتله، فهل هم محقون في هذا؟ قطعاً لا، من هنا لا بدّ من التأكيد حول إعادة النظر في الإجماع كمفهوم.
ليس سراً أن البنية الثقافية لمجتمعاتنا ـ المفترض أن تحفل بالمتناقضات ـ تأسست على الاحتفاء المبالغ به بالتراث، فضلاً عن تمجيدها الببغائي للتاريخ، بصرف النظر عما إذا كانت تعي التاريخ ودروسه أم لا. ولا فرق هنا بين علماني ومتدين، فالجميع يحتفي بالتراث ويمجده بصرف النظر عما فيه من محاسن وقبائح.
ورد عندنا في الحديث النبوي الشريف: “ستتداعى عليكم الأمم كتداعي الأكلة إلى قصعتها، قالوا أمن قلة يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل كثير، ولكنكم كغثاء السيل ينزع الله الرهبة من قلوب أعدائكم ويصيبكم بالوهن، قالوا وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت.” ، وفي حديث آخر ينسب أيضاً إلى الرسول (ص) يقول: “من لم يغز أو يحدث نفسه بغزو مات ميتة جاهلية”، وينسب له أيضاً قوله: “ُصرتُ بالرعب مسيرة شهر”، وفي حديث آخر يقول (ص): “وجعل رزقي تحت رمحي”. وقد سبق لقادة الفتوحات الإسلامية (كخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص) أن خاطبوا أعداءهم قائلين: “جئناكم بأناس يحبون الموت كما تحبون الحياة”. هذه الأحاديث، ومثلها اكثير موجودة في بطون أمهات كتب التراث لدينا، أدخلت -شئنا أم أبينا- في وعينا الثقافي وبنياننا الفكري، طوال قرون، عدم تثمين الحياة، والأنكى من ذلك أننا ندرّسها لطلبتنا في المدارس والجامعات، و نادراً ما تمر خطبة جمعة من غير أن نسمع مثل هذه الأحاديث (شخصياً سمعت حديث (ستتداعى عليكم الأمم…) أكثر من عشر مرات في جوامع دمشق هذا العام، طبعاً بفضل مكبرات الصوت(أو مكبرات الضجيج) يوم الجمعة.
سبق لابن حجر أن انتقد البخاري، كما سبق للمعتزلة أن انتقدوا من سبقهم، فلماذا من غير المسموح لنا أن نخطو على درب من سبقنا؟ هل يعقل أن يكون عصر ابن حجر أكثر تطوراً وتقبلاً للأفكار الحرة من عصرنا؟! وإذا لم يكن بمقدورنا نقد التراث أو التشكيك به، فلنقم إذاً بإبعاد الحديث النبوي عن شؤون حياتنا اليومية والاجتماعية والسياسية، وهذا لن يتأتى إلا من خلال الفصل بين السنتين الرسولية والنبوية، بمعنى نحن ملزمون بطاعة محمد الرسول (ص) لا محمد النبي. بتوضيح أكثر أن ما قام به محمد النبي (ص) من تشريعات وتنظيمات عسكرية وسياسية واقتصادية.. إلخ يدخل في إطار بنائه لدولته بمفهوم ومعارف وإمكانات ذلك العصر، ونحن غير مطالبين أو ملزمين بها إطلاقاً، على نقيض السنة الرسولية التي يدخل في نطاقها الصلاة والصوم والزكاة.. إلخ.
من جانب آخر ثمة مشكلة أخرى في سبل المعرفة التراثية تواجهنا ألا و هي القياس الذي لم يقف على ما أتى به النبي (ص) من أفعال، بل تجاوزه ليشمل بعباءته القياس على أفعال الصحابة، ومن ثم التابعين (تجدر الإشارة إلى أن القياس من قبل مستخدميه انتقائي وفي أحيان أخرى قسري. ومثال ذلك ما جرى في حرب الخليج الثانية، ففقهاء صدام حسين حللوا له غزو الكويت استناداً إلى القياس، وفقهاء المملكة العربية السعودية حللوا وجود القوات الأمريكية في أراضيها أيضاً استناداً إلى القياس!). وإذا لم يتم الفصل مابين السنتين سابقتي الذكر كمقدمة لسد الطريق أمام القياس على الصحابة والتابعين، ومن ثم إلغاؤه نهائياً واستبداله ببرلمانات حقيقية ينتجها شعب حر لا مستعبد، فلن يكون بمقدورنا التفريق بين ما هو ديني وما هو سياسي، وفي حال إبقائنا دمج الديني بالسياسي سيبقى ينتج لدينا جزّ الرقاب وقطع الرؤوس وبقر البطون والسم وسمل العيون والعمليات الانتحارية إلى أن نصل إلى قصف المسجد الحرام والكعبة، وبعض ما ذكرتُ نشهده في العراق الآن على أيدي المتطرفين الإسلاميين.
وأياً يكن الأمر يبقى القول إنه من المفترض أن يكون الشعب الحر أو المجتمع الحر الذي سينتج البرلمان قد تلقى ثقافة تسمح للفكر الديني أن ينمو بحرية دون أية قيود، فحرية الفكر الديني جزء من الحريات المتوفرة في المجتمع.. سياسية واجتماعية وثقافية.. فكما يرى د. نصر حامد أبو زيد إن: “المجتمع الذي فيه درجة عالية من قبول الأفكار المختلفة، هو المجتمع الذي ينمو فيه الفكر الديني بشكل حر” وهذا كله ليست لنا سيرورة تاريخية فيه. فمثلاً إذا أخذنا المنبع الثقافي الإسلامي الذي هو كتاب الله عزّ وجلّ-أعني القرآن الكريم- نجد أن قيمة الحرية غير مذكورة فيه إطلاقاً كمفهوم قائم بذاته!، على نقيض ذكره الظلم (أكثر من ثلاثمئة مرة ورد ذكرُ الظلم والظالمين)، والمقام الوحيد الذي ذُكرت فيه الحرية هو مقام واحد أتى ضد الرق (تحرير رقبة)، إذ وردت ثلاث مرات في الآية 92 من سورة النساء، ومرة رابعة في الآية 89 من سورة المائدة، ومرة خامسة وأخيرة في الآية 3 من سورة المجادلة. كما أن لفظة (الحر) وردت مرة واحدة في الآية 178 من سورة البقرة” كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى …”، ومن الجلي أن الحر في الآية الكريمة أتى بمعنى السيد لا بمعنى الاختيار الحر للبشر، ولا توجد أية دلالة لمعنى الحرية هنا كقيمة كونية أثيرة لدى البشر! والحرية غير موجودة كمصطلح في الأحاديث النبوية كذلك، بل على العكس الموجود: “إن الله لا يقبل الصلاة للعبد الآبق حتى يرجع إلى سيده”، “واسمعوا وأطيعوا ولو ولي عليكم عبد حبشي رأسه كزبيبة”، وثمة حديث يرويه حذيفة بن اليمان مفاده: “اسمع وأطع للأمير ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك“.
ثمة وجود للعدالة في الوعي والوجدان الإسلامي إلى درجة وصلنا معها إلى فكرة المستبد العادل وهو على نقيض، أكرر كمفهوم، الحر العادل. ولعل الخليفة عمر بن الخطاب (رض) عندما قال: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً” قالها في مجال العدالة لا في مجال الحرية، وكذلك عندما قال الإمام علي بن أبي طالب (ع) لابنه الحسن: “لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً” أتت مقولته في مجال العدالة والثورة على الظلم لا في إطار الحرية كمفهوم.
ما ذكرته آنفاً عن غياب مفهوم الحرية إسلامياً يعززه في عصرنا هذا معرفتنا بأن آخر دولة أبطلت الرق نهائياً هي موريتانيا عام 1967(وقد سمعنا مؤخراً في الأخبار أن البرلمان الموريتاني لم يقرّ إلغاء الرق إلا في العام الماضي أي عام 2007) وقبلها كانت السعودية التي ألغته عام 1964، واللافت للانتباه أن الرق في ذينك البلدين ألغي بقرار سياسي وليس بـ (فتوى) فقهية من قبل مفتي السعودية الراحل ابن باز أو من متولي شعراوي أو يوسف القرضاوي أو محمد سعيد رمضان البوطي!
مقابل تأكيد الحديث النبوي على طاعة أولي الأمر انسجاماً، ربما، مع النص القرآني، نجد مفهوم الرعية في التراث. ومن نافل القول أن الرعية تقاد كالبهائم عكس المواطن الحر كذات قائمة ومستقلة وواعية بذاتها تعرف مالها من حقوق وما عليها من واجبات.
كتحصيل حاصل إن ثقافة كهذه صاغت وعينا ووجداننا لا يمكن أن تنجب لنا سوى حكام مستبدين، وربما نظراً لكثافة هذا الموروث الثقافي في خزائن عقولنا وضمائرنا وقعت الأحزاب العلمانية العربية (من قوميين وماركسيين وناصريين …) في المطب ذاته، إذ لم يفصلوا بين الوطني والسياسي، فتماهى الوطن مع مخابرات القائد والرئيس والملك… إلخ، والولاء يكون هنا للفرد/الحاكم لا للوطن، وبالتالي لا يعتبر النقد هنا نقداً سياسياً بل يعتبر خيانة وطنية، تماماً كما يعتبر أي نقد لما يسمى ثوابت الإسلام خروجاً عن الدين ويستحق العقاب. والخلاصة أن كلا الفكرين إقصائي، وقد اجتمع هذان النموذجان الآن في العراق، علماً أن كليهما يسير في نفق مظلم لا تبدو لنا نهايته مسرّة إطلاقاً.
عندما نفصل الديني عن السياسي فلن يوجد سفك دماء إطلاقاً ولا قطع رؤوس. ولن يأخذ الإسلام شكله الحضاري إلا في ظل نظام علماني ديموقراطي تزدهر في جنباته الحرية بشكل عفوي وطبيعي، إذ الحرية هي ثقافة مجتمعية وانعكاس لثقافة مجتمع ما قبل أن تكون قراراً سياسياً. فعلى كل إنسان مخلص لهذا الدين أن يسعى لمثل هذا النظام الذي لن يتأتى لنا ما لم ننفض الغبار عن وعينا الذي تكلس نتيجة استسلامه لماض لا يمضي (حتى معرفياً”؟!”)، وإلا فلن نستغرب تحقق المقولة التي مفادها: “سيأتي زمان يقال فيه هنا كانت الزوراء” وربما يأتي يوم-ليس ببعيد- يقال فيه: كان هناك عرب وإسلام، والله أعلم!
2008-03-30
موقع الآوان