حوار مع الروائي السوري نذير جعفر: أبطالي حالمون انتهوا منفيين وسجناء
محمد الحمامصي
روايته “تحت سقف واطئ” تصوّر الخراب الروحي الذي لحق بجيله
محمد الحمامصي من القاهرة: أكد الروائي السوري نذير جعفر أن روايته (تحت سقف واطئ) حاولت إيصال رسالة عن ضرورة الحوار والاعتراف بالآخر ونبذ التطرّف والعنف مهما كان نبل الهدف، وأنها قدمت شخصيات حقيقية لكنها ُقدّمت بوصفها شخصيات روائية يمتزج فيها الواقع بالخيال، دون أن يخلّ طرف بالآخر، وقال إن السقف الواطئ هو سقف حياتنا التي نعيشها، سقف الحريّات المتدنية لا الحريات التي نتمناها ونحلم بها.. وفي الحوار مزيد من التفاصيل حول تجربة هذا العمل الذي شكل نقلة مهمة في كتابة رواية جيل الثمانينيات في سوريا وفي كتابة الكاتب نفسه الذي يعد واحدا من أبرز نقاد هذا الجيل أيضا.
** في أول عمل روائي لك تتجاوز المحظور في تصويرك للصراع الذي شهدته سوريا ومدينة حلب على وجه الخصوص في السبعينيات بين السلطة والمعارضة الإسلامية المتشدّدة واليسارية الراديكالية.. أإلى هذه الدرجة كان هذا يشكل هاجسا لك؟
ـ لم يكن هاجسي تصوير الصراع السياسي والدموي الذي شهدته حلب، بل الدمار الروحي الذي لحق بجيل كامل من الشباب الجامعي المتحمّس لقضاياه الوطنية نتيجة هذا الصراع. فقد عشت تلك المرحلة بكل تفاصيلها وكنت في قلبها لا على هامشها، وشكّلت لديّ رصيدا وتجربة حياتية عميقة، ولأنني كنت مشحونا بها، ولديّ ما أقوله فقد كتبت هذه الرواية مستعيدا ما تركته تلك التجربة في نفسي ورؤيتي عبر علاقتي بمجموعة شبابية من الشعراء والمثقفين الحالمين والمتمردين الذين انتهى بعضهم إلى السجن أو المنفى وتابع بعضهم الآخر حياته منكسرا وحزينا ووحيدا إلى حدّ الموت. إن تلك المرحلة ما زالت خطا أحمر، لكنني تجرأت على اقتحامها بروايتي غير آبه بمنعها من النشر أو التداول، وقد سمحت الرقابة بها ربما لأنها حاولت أن لا تنتصر لطرف على حساب الآخر، بل تقول الحقيقة بقالب فنيّ بعيد عن المباشرة السياسية أو الدعاوة الإيديولوجية. وربما بفعل هامش الحرية المتاح أو بفعل المصادفة التي أوقعتها في يد قارئ متنوّر ويتمتع بالجرأة أيضا. وسأظل مدينا لهذا القارئ الذي وافق على طبعها، والذي لم أعرفه ولم يكشف عن نفسه حتى الآن.
** هل للحاضر انعكاسات على اختيارك لموضوع الرواية حيث الاغتراب النفسي والجسدي والخوف من المستقبل الذي يترنح إلى حد الانهيار؟
ـ الحاضر امتداد لذلك الماضي المؤلم،الماضي المستمر، وإن اختلفت الظروف والمناخات، ولولا ذلك الماضي لما وصلنا إلى ما نحن عليه الآن. لذلك كانت رغبتي في كشف ذلك الماضي ليعرف الجيل الحالي الأسباب الخفية التي تقف وراء التذرّر الوطني والقومي والاغتراب النفسي والجسدي، والبطالة، والفساد، والوصولية، والنفاق السياسي، والنزعات الطائفية والعشائرية ما قبل الوطنية. الأسباب التي جعلت سقف الحرية أقل بكثير من طموحات الناس، عبر العمل بقانون الطوارئ الذي فرض تحت ضغط الإرهاب والعنف المسلّح،الذي مارسته الجماعات المتطرّفة وهدّد أمن النظام ومصالحه. والرواية في جانب منها رسالة عن ضرورة الحوار والاعتراف بالآخر، ونبذ العنف والتطرف والإرهاب مهما كان نبل الهدف، و تحت أي ذريعة. كما أنها في جانب آخر وثيقة عن مرحلة مغيّبة، وشاهد عليها، في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى مراجعة الذات والتعلّم من أخطاء الماضي.
** لماذا (تحت سقف واطئ) الذي يحمل أكثر من معنى وليس أي عنوان آخر يشير بدلالته المباشرة إلى السجن والقمع والخوف؟
ـ السقف الواطئ هو سقف حياتنا التي نعيشها لا التي نريدها، سقف الحريات المتاحة في حدّها الأدنى لا الحريات التي نحلم بها، سقف السجن والمعاناة أيضا، السقف الذي لا يرى أبناؤه النور، ولا يتمتعون بضوء الشمس، بل يعيشون في الأقبية الرطبة جنبا إلى جنب مع الجرذان والهوام. إنه السقف الذي يضغط على الروح والجسد ويحوّل الكائن البشري إلى رقم، إلى مسخ لا أكثر ولا أقل. وقد عنونت روايتي به وأنا تحت تأثير رواية دوستويفسكي: ” ذكريات من بيت الموتى ” التي ما أن قرأها ابن الإمبراطور الروسي حتى طالب بإلغاء التعذيب في السجون. فالسقف الواطئ هو بيت الموتى نفسه، الموتى الأحياء بفعل الوجود البيولوجي لا الروحي أو الفكري. وأعتقد أن هذا العنوان بوصفه عتبة أولى للنص يضع المتلقي منذ البداية في المناخ الكابوسي الذي يعيشه أبطاله، المناخ الذي يحث الجميع على العمل من أجل الخلاص منه وتجاوزه إلى غير رجعة.
** ألم تخش في اختيارك لضمير المتكلم أن تضعف قوة السرد فيأتي انفعاليا وصاخبا؟
ـ لم أختر ضمير المتكلم لراو وحيد وكليّ المعرفة، بل هناك رواة متعدّدون يتحدثون بصيغة ضمير المتكلم عن أنفسهم وعمن حولهم. وربما كانت هذه الصيغة ذات صلة برواية السيرة، وهي تمنح السرد مصداقيته وحرارته في آن معا. ولا ضير من الانفعال والصخب فهما إن لم يزيدا عن حدّهما ماء السرد وإيقاعه الدرامي الذي يسرّع من وتيرته ويزيده تشويقا. وفي المحصّلة كل رواية تفرض شكلها الفنيّ الخاص بها. و سواء أكان الراوي مشاركا أو شاهدا، متكلما أم غائبا، فالمهم أن يكون منطوقه متناغما ومنسجما مع مستواه ومستوى الشخصيات التي يقدّمها بوسائله المتعدّدة.
** ما حجم ما تمثلته الرواية من حياة الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين وأصدقائه وأبناء جيله حيث أشير في أكثر من مقال نقدي إلى كونه محور هذا العمل؟
ـ في الرواية شخصيات متخيّلة كما أن هناك شخصيات حقيقية لها مرجعيتها الواقعية مثل الشاعرين رياض الصالح الحسين وبشير البكر. ولأن شخصية كل منهما تنطوي على بعد تراجيدي فقد كان لهما نصيب كبير في البرنامج السردي الذي يكشف عن حياتهما ونوازعهما الخفيّة وعلاقاتهما ربما للمرة الأولى. لكنني لم أحاول تقديمهما بوصفهما شخصيتين حقيقيتين بل بوصفهما شخصيتين روائيتين يتداخل فيهما الواقع بالمتخيّل، ولم أكن معنيا بتدوين سيرتهما إنما بتصوير سلوكهما وأفعالهما كشاعرين حالمين ومتمردين على الواقع وعلى الثقافة التقليدية بما في ذلك القصيدة العمودية.
** قصة حب سعد ورؤى كانت جزءا برأيي لم يتم استثماره كاملا. هل شغلتك السياسة والدين والعرقية والاضطهاد والقمع السلطوي عنها؟
ـ ليست قصة سعد ورؤى وحدها التي لم تنته، بل قصص معظم شخصيات الرواية أيضا،لأن هذه الرواية لا تضع نهايات بل تترك أبطالها وكذلك مصائرهم في نقطة تحوّل تنفتح على البياض. وهي رواية نموذجية لإكمالها بأجزاء أخرى تتتّبع حياتهم بعد الخروج من السجن أو العودة من المنفى. وربما فكّرت بكتابة جزء ثان لها في المستقبل بعد الاحتفاء الذي قوبلت به حتى الآن.
** ألا ترى أنك تأخرت كثيرا في إصدار هذا العمل وأن النقد كان قد استحوذ على جل عملك واهتمامك في السابق؟
ـ في زاوية للدكتور أحمد برقاوي نشرها في جريدة ” الثورة ” السورية، استهجن فيها أن يكتب إنسان في الخمسين من عمره روايته الأولى، كما استبعد أن يكون ما يكتبه جديرا بالقراءة. ومع أنه لم يكن يعنيني أنا بالذات،لأنه لم يكن قد اطلّع على روايتي بعد، فإنني أخالفه الرأي، وبخاصة أن الرواية على وجه التحديد تتطلب النضج في السنّ والنضج في التجربة والموهبة أيضا. وأنا لم أتأخر في كتابة روايتي لأنني كنت مشغولا بالنقد، وإنما لأن تجربتي وأدواتي في الكتابة الروائية لم تكن قد نضجت بعد. والآن أجد نفسي مدفوعا للمغامرة في كتابة رواية جديدة بعدما اختبرت إلى حد كبير ردود الأفعال المتباينة تجاه روايتي الأولى.
ايلاف