العالم العربي من الفقر إلى استبداد الأنظمة (*)
الدكتور عبدالله تركماني
التمادي في هدر الإمكانيات البشرية والمادية يُعتبر من المظاهر المهدِدة لأي مستقبل أفضل في العالم العربي، فالدول العربية رغم غنى مواردها الفعلية والممكنة إلا أنها فقيرة في عدالتها وإنتاجيتها. كما لا نطرح قضية للنقاش لننتهي منها وننتقل إلى غيرها, متجددين مع مستجدات الزمان, وحاسمين ما نتركه وراء ظهورنا, بل نترك قضايانا مفتوحة, ومن ثم نترك إراداتنا رهينة لهذا الموقف المعلق, وهو مما يجمّد مسيرتنا ويقعد بهمتنا عن النهوض, فنجد أنفسنا نراوح في المواقع ذاتها برغم مرور السنين والعقود.
لقد تأجلت خطط التنمية العربية الشاملة بحجة مقاومة الاستعمار، واستبعدنا تطبيق الديمقراطية بحجة تكريس الجهد لتحرير فلسطين، ورفضنا مطالب شعوبنا بالتطوير والتحديث وإطلاق الحريات بحجة أنها ” قاصرة ” و ” جاهلة ” بحصولها على الحريات، إذ تنفلت إلى الفوضى وتغرق في الكوارث والصراعات.
وتكفي نظرة سريعة على واقع العالم العربي من جميع الجوانب لتظهر حجم المأساة، إذ لا يخلو تقرير محلي أو إقليمي أو دولي عن العالم العربي دون الإشارة إلى أنّ المنطقة تضم أكبر نسبة من الفقراء والمعدمين والذين يعيشون تحت خط الفقر. يضاف إلى الفقر حجم البطالة والعاطلين عن العمل الذين يصل عددهم إلى الملايين، وهو رقم يشهد ازدياداً كل عام ويطال جميع فئات المجتمع، بحيث بات مئات الآلاف من خريجي الجامعات عاجزين عن الحصول على فرص عمل لهم داخل بلدهم أو في إطار العالم العربي الشامل. أما عن حجم الأمية، فتجمع كل التقارير على أنّ العالم العربي يقع في أسفل الدرك بين شعوب العالم. وتكتمل هذه الصورة القاتمة مع التزايد غير المحدود للسكان، مما يتسبب بمزيد من المآسي للشعوب العربية.
ويبدو أنّ الفقر العالمي ليس كالفقر في العالم العربي، فقد قال تقرير التنمية البشرية لعام 2009: إنّ شعوب العالم العربي من أكثر شعوب الأرض فقراً، حيث متوسط دخل الفرد السنوي لا يزيد على ألف دولار لنسبة تزيد على 70% من سكان العالم العربي. ويبدو أنّ الفقر العربي خلال العشرين عاماً القادمة سوف يزداد، في ظل الانفجارات المتتالية للقنبلة السكانية، وفي ظل شحّ المياه المخيف الذي سيتعرض له العالم العربي في السنوات القادمة. وهذا التفاوت بين عدد السكان العرب الهائل ونقص الموارد الطبيعية، سوف يقود العالم العربي إلى مصير مظلم وطريق مسدود ما لم يستيقظ العرب من نومهم العميق الذي هم فيه الآن.
أما الملمح الآخر للفوات التاريخي العربي، فقد تجلى في الضعف المعرفي، فبالرغم من الانتشار والتوسع الكمي في عدد المدارس والجامعات والمعاهد العليا، فقد صاحب ذلك التوسع الكمي تدنٍّ مريع في نوعية ومستوى التعليم في كل المراحل. ففي كل التقارير الخاصة بتقييم الجامعات في العالم، خلت المواقع الخمسمائة الأولى من أية جامعة عربية. وسحبت بعض الجامعات الأوربية اعترافها بالشهادات العربية، بالذات من بعض كليات الطب العربية. وتضرر التعليم فوق الجامعي من التضخم في منح درجات الماجستير والدكتوراه، وتوزيع الألقاب العلمية دون ضوابط. ومن ناحية أخرى، لا تعرف جامعاتنا البراءة العلمية والسبق في الاكتشاف، إذ لا يوجد اهتمام كافٍ بالبحث العلمي، الذي يحظى بأضعف نصيب في الميزانيات العربية مقارنة بموازنات الأمن والدفاع. ومن ناحية أخرى، عجزت كل الدول العربية عن محو الأمية، بل عرف كثير من الدول العربية ما يسمى بالارتداد إلى الأمية في الأرياف.
وتفتح هذه المعطيات الأعين على التأخر العربي الشامل وعلى كيفية توظيف الثروات العربية فيه، إذ يطرح هدر الثروات العربية الآثار التي تنعكس على الإنسان العربي في ميادين متعددة، وتتسبب في هدر شامل لهذا الإنسان نفسه. ويمكن في هذا المجال التطرق إلى نتائج ثلاث تتصل بآثار هذا الهدر: أولاها، يتصل بالعوامل النفسية التي يتسبب بها تخلف الإنسان العربي اقتصادياً، وانعكاسات ذلك على كيانه المادي والمعنوي، مما يؤدي إلى حالة من الاستلاب والقهر والعجز الشامل، عجز عن العطاء والبناء وعدم القدرة على المساهمة في تطور المجتمع. يضاف إلى ذلك نتيجة أخطر تتصل بفقدان هذا الإنسان لحصانته الإنسانية، تحت وطأة الحاجات المادية والركض وراء لقمة العيش، بما يجعله فاقداً لاستقلاليته كإنسان، مستسلماً لقدر تأمين الحاجات، وهي أقصر الطرق لإذلاله وإهانته وفقدانه لكرامته وحقوقه كإنسان.
وثانيتها، تتصل بكون الفقر يشكل تربة خصبة لنمو وازدهار حركات التطرف الأصولي ومادة للتصعيد الإرهابي. إذ يجمع دارسو الحركات الأصولية في العالم العربي على الإشارة إلى عنصر الإحباط واليأس الناجم عن الحرمان والفقر وانسداد آفاق المستقبل أمام أجيال شابة، بوصفها عنصراً مركزياً في لجوء هذه الأجيال إلى الحركات الأصولية والعمل تحت رايتها، إضافة إلى أثر هذا الحرمان في تصعيد نزعات العنف لدى هذا المواطن. لذلك يبدو أنه سيظل شعار ” الإسلام هو الحل ” مكتسباً كل أهميته وقدرته على التجييش طالما أنّ واقع القهر الراهن يجرجر نفسه، ويقدم هدر الثروات العربية كل يوم حجة إضافية لاجتياح الشعار العقول العربية.
وثالثتها، أنّ التخلف والفقر السائدين يشكلان المصدر الأساسي أيضاً لسيادة الاستبداد السياسي وتكريسه في العالم العربي. حيث يواجه العالم العربي مسألة السلطة السياسية ومن يملكها، فتقوم أنظمة وراثية تتصرف بكونها مالكة البشر والحجر، وليس من حق المواطن العادي سؤالها عما تفعل، وتتصرف في قضايا تمس كيانه الوجودي.
وفي الواقع لم يكن الفقر والحرمان والبؤس والإحباط في يوم من الأيام أرضاً تنبت فيها نبتة الديمقراطية، بما تتضمنه من مساءلة للحاكم ومساواة في الحقوق والواجبات، وإحلال حرية الرأي والتعبير، وإجبار الحكام على وضع الثروات العامة في خدمة الشعب وتطوره. بل كان الفقر والحرمان عنصرَيْ تكريس الاستبداد في أغلب الأحيان، والمادة التي تعين الحاكم على الإمساك بالسلطة ومنع تكوّن الحركات المعارضة. بل أنّ التاريخ، القديم منه والحديث، يقدم شهادات على دور الفقر والإحباط واليأس التي تصيب الشعوب في تقوية النزعات الفاشية وصعود قواها إلى السلطة، بوصفها جواباً وهمياً تتلمسه الشعوب خلاصاً من أزمتها.
هكذا، ليس من المبالغة في التشاؤم القول بأنّ هدر الثروات العربية يساوي بالتمام هدر الإنسان العربي في كل أبعاده ومستويات وجوده، إنه إنكار لإنسانية هذا الإنسان واحتقارٌ لقيمه وحقه في الحياة الكريمة. إنّ هذا الهدر للثروة مأساة عربية بكل معانيها وأبعادها، والأصعب فيها تلك الديمومة المتواصلة والعجز عن اختراقها.
تونس في 13/7/2010 الدكتور عبدالله تركماني
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
(*) – نُشرت في صحيفة ” القدس العربي ” – لندن 15/7/2010.