إسرائيل على خطى “الآبارتايد”
د. برهان غليون
لم يكن أمام الولايات المتحدة، بعد فشلها المستديم في العراق وأفغانستان، وانهيار صدقيتها في الشرق الأوسط، وتبدل المناخ الدولي والإقليمي لغير صالحها، وعصف الأزمات المالية والبيئية بها… خيار آخر غير التخلي عن سياسة العصا الغليظة والعودة إلى سياسة السيطرة غير المباشرة، والمراهنة على تجنيد النخب المحلية والتعاون معها وجذبها نحو الغرب. هذا ما عكسه فوز أوباما منذ عام ونيف، وتأكيد الرئيس الأميركي الجديد عزمه على إعادة بناء العلاقات الإسلامية -الأميركية على أسس جديدة قائمة على الاحترام المتبادل والحوار والشراكة.
وقد أثار هذا التحول شك اللوبي الإسرائيلي منذ البداية، لما ينطوي عليه من تغيير حتمي في وظيفة إسرائيل ودورها الإقليميين. ففي سياسة جديدة تهدف إلى تطمين الحكومات العربية وتعزيز قدراتها العسكرية والسياسية تجاه تيارات الاحتجاج والتمرد، لم يعد من المفيد أن تظل إسرائيل قوة منفلتة من أي قانون. بل بالعكس، يتطلب النجاح في السياسة الجديدة تنسيقاً إسرائيلياً أكبر مع الغرب والقبول بلعب دور أكثر إيجابية في المنطقة، والتقليل من استفزاز الدول العربية، والكف عن اعتماد إسرائيل كمدخل ومفتاح استراتيجي للمنطقة، والعمل بجدية للتوصل إلى تسوية ستكون بالضرورة على حساب مشروع التوسع الاستيطاني الإسرائيلي.
وباختصار، فإن مراجعة السياسة الأميركية تجاه إسرائيل هي شرط ضروري لفتح صفحة جديدة مع الدول العربية، وإحياء التحالفات الإقليمية القديمة التي ضمنت نفوذ الغرب لعقود طويلة في المنطقة، قبل أن يقرر بوش التضحية بها لصالح السيطرة بالقوة والتحالف الأحادي الجانب مع إسرائيل. هذا هو المدخل الضروري لخلق جبهة متراصة تقف في وجه القوى المناوئة، الدولية والإقليمية، وفي مقدمها اليوم القوة الإيرانية. ومن الجلي أن مثل هذا المشروع لا يمكن تحقيقه دون وقف السياسة الهجومية الإسرائيلية وإعادة بعض الصدقية للنظم العربية الحليفة.
من هنا أصبح دعم النخب الحاكمة أمام شعوبها، وتطمين هذه النخب ومراعاة ظروفها، محور السياسة الغربية اليوم. وكل هذا يتناقض مع الدعم غير المشروط الذي قدمته الإدارة الأميركية السابقة لإرضاء أطماع إسرائيل التوسعية وسياستها الاستيطانية.
وبالمقابل، ليس لدى إسرائيل وسيلة أخرى للدفاع عن حلمها بتحقيق مشروع الاستيطان الكامل لفلسطين التاريخية، وهو هدفها الراهن، سوى استمرار منطق الحرب الباردة واستعداء الأميركيين والغرب عموماً، ضد العرب والإسلام، وتضخيم خطر الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل. وقد وجدت تل أبيب في بعض السياسات والخطابات الإقليمية العنيفة فرصة مناسبة لإدامة مناخ الحرب، والتعبير عن ضرورة احتفاظها بدورها التقليدي ومكانتها في المشرق كحارس لمصالح الغرب. وهي الوظيفة التي مكنتها من الانخراط في مشروعها التوسعي الاستيطاني دون أي مساءلة أو محاسبة دوليتين.
بيد أن هذا الصد الإسرائيلي الشرس للخط الأميركي الجديد، محكوم بالفشل سلفاً، حتى لو حقق الابتزاز واللعب على الأجندة الانتخابية بعض النتائج من وقت لآخر. فمن جهة أولى صار هامش الغرب الاستراتيجي ضيقاً جداً. وهو يواجه في المشرق مخاطر ولادة نظام إقليمي جديد قائم على تعاون دول المنطقة وتفاهمها، خاصة بعد الانعطاف العميق المغزى للسياسة التركية في اتجاه الجنوب. مما يجعل حلم الغرب بالإبقاء على نموذج سيطرته شبه الاستعمارية، والذي استفادت منه إسرائيل في الشرق الأوسط، حلماً صعب التحقق.
ومن جهة ثانية، يشكل تمسك إسرائيل بمشروعها الاستيطاني، وبأي ثمن، إجهاضاً مسبقاً لأي سياسة غربية شرق أوسطية جديدة، ويتضمن في العمق استعداداً للتضحية بالمصالح الغربية البعيدة لصالح حماية حلم إسرائيل الكبرى. وهو ما لا يمكن تصوره في منطق أي سياسة قومية غربية أو دولية. ولن يكون مثل هذا الموقف حتى في صالح إسرائيل على مدى متوسط أو بعيد. فقد وجدت إسرائيل ونمت وترعرعت في ظل النفوذ الغربي في المنطقة، وليس هناك أي أمل لها في الاستمرار مع انحسار هذا النفوذ أو انهياره. ولن يقود رفض إسرائيل التعاون مع الغرب إلا إلى تفاقم عزلتها وارتداد الرأي العام الغربي عليها، عاجلا أو آجلا. ولن تستطيع إسرائيل أن تعيش على مقاطعة الغرب، وهي التي قررت أن تبقى غريبة في منطقتها وفي حالة حرب وعداء دائمين معها.
تسير إسرائيل في الواقع على طريق جنوب إفريقيا. فهي تتجه بشكل متزايد وسريع نحو سياسات متطرفة فاشية بينما يتجه الغرب نحو سياسات أكثر انفتاحاً ومرونة لمواجهة الأزمات الدولية الخطيرة التي تعصف به وبنظام سيطرته العالمية. وهي تبتعد أكثر فأكثر بتفكيرها وسياساتها الاستيطانية الفجة عن تفكير الغرب وسياساته الراهنة. وتريد أن تزج به في حروب جديدة في الوقت الذي يعمل المستحيل للخروج من حروبه السابقة. ومن الواضح أن قطاعات واسعة من الرأي العام الغربي أصبحت تدرك بأن إسرائيل فشلت في الاندماج في محيطها ولم تعرف كيف تؤهل نفسها للحياة مستقبلا، تماماً كما أخفق نظام جنوب إفريقيا العنصري في تأهيل نفسه لمواكبة التحولات العميقة في إفريقيا ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد سقط نظام جنوب إفريقيا العنصري، أساساً بسبب عجزه عن تطوير نموذج اجتماعي تجاوزه الزمن، وبالتالي رفضه الخروج من شرنقته التي منعته من رؤية ما يجري حوله من تحولات. ولا تبدو إسرائيل بعيدة عن هذا الوضع. فهي أيضاً تبدو عاجزة عن الخروج من نموذجها الاستعماري وأوهامها التوسعية البدائية التي تجاوزها الزمن، وتعيش في حالة فصام يقطع صلتها تماماً بالواقع، وتحلم بأن تعيد صياغة الأجندة العالمية بأكملها حسب مزاجها ومصالح المستوطنين وهوسهم الديني، وبما يتفق مع مخاوفها وهلوساتها الأمنية والاستيطانية.
تستطيع إسرائيل بالتأكيد أن تراهن، بخلاف نظام التمييز العنصري الجنوب إفريقي البائد، على الكم الهائل من العطف والرعاية اللذين حظيت بهما ولا تزال من قبل الغرب، لارتباط أسطورتها بتراجيديا المحرقة اليهودية. لكن لن تستطيع تل أبيب، مهما استدرجت من عطف، إحياء عصر الحرب الباردة، وحرف أنظار الدبلوماسية الدولية عن الأزمات والمشاكل العالمية الكثيرة، وجعل توسعها الاستيطاني مركز اهتمام العالم وترحيبه والبند الأول في أجندة السياسة الدولية. ولن يفيد استخدامها للوبيات اليهودية في عواصم القرار الدولية، وسعيها إلى لي ذراع القادة الغربيين وابتزازهم، كما حصل في لقاء أوباما ونتنياهو الأسبوع الماضي، لثنيهم عن تطبيق ما يعتبرونه سياسات ضرورية لضمان مصالح بلادهم القومية… إلا في زيادة انحسار الرأي العام الغربي عنها، وربما إعادة إحياء النزعة اللاسامية التي ستكون مخاطرها على الجماعات اليهودية أكبر بكثير من مخاطر التراجع عن مشروع التوسع الاستيطاني الذي يصدم أبسط قيم العصر، القانونية والإنسانية.
الاتحاد