عن إعلان دمشق بعد إطلاق سراح بعض قادته
مازن كم الماز
أولا التهنئة مستحقة لمن خرج أخيرا من وراء القضبان التي وجد نفسه خلفها لا لذنب ارتكبه , بل نتيجة تنكيل النظام. ثانيا إن تجربة السجن ستضيف عاملا ثالثا , هاما و مؤثرا , للخاصتين الأساسيتين لإعلان دمشق كتجمع و مجموعة و كفكر و ممارسة .
العامل الأول هو أن الإعلان يعبر عن مشروع تغييري فعلي و جدي , و ثانيا أن من يتبنى هذا المشروع نخبة صغيرة العدد , و لو أنها تفوق عدديا و كميا و بالتأكيد نوعيا تعداد مركز أو رأس النظام الحاكم. إن تزاوج العزلة عن الشارع مع رفع نخبة ما لشعارات تغيير جذرية , خاصة بعد تجربة السجن التي ستمنح هذه المجموعة “شرعية ثورية” , إن هذه المشاركة بين مثل هذه العوامل خطيرة , تذكرنا في حقيقة الأمر ليس فقط بالبلاشفة التي تحاول هذه المجموعة أن تنأى بنفسها عنهم , بل أيضا بتلك المجموعة – المركز من الضباط و السياسيين البعثيين التي تشكلت في أوائل الستينيات من القرن الماضي و الذين اعتبروا أنفسهم أوصياء على الشعب و الحاضر و الماضي و سيضعون لذلك “خططا محكمة” تقوم على فرض مشروعهم بالقوة ليس فقط على القوى المهيمنة و قوى الأمر الواقع , بل أيضا على الشعب نفسه , على أصحاب المصلحة في تغيير هذا الأمر الواقع و هزيمة القوى المسيطرة . في الحقيقة كانت لدى إعلان دمشق إمكانيات جدية ليكون حالة مختلفة تماما , كتطوير مثلا للتجمع الوطني الديمقراطي الذي شكل حالة مجابهة نظرية و فكرية و عند الإمكان سياسية لشمولية النظام السوري أكثر منه مركزا مفترضا لقيادة بديلة , لكن الإعلان أصبح في الواقع منذ ولادته مجرد مركز قيادي بديل , و لذلك فرط بالكثير من القوى السياسية و الأهم بمنطقه الداخلي كمستوعب للحوار و الجدل بين قوى مختلفة بل و متناقضة لصالح بناء قيادة منسجمة و ذات شخصية اعتبارية ما , اجتماعية كما سياسية , و لذلك اهتم بضم شخصيات اعتبارية أكثر من تلك السياسية التي تمثل قوى فعلية على الأرض . كما لم يهتم الإعلان بتشكيل مقاومة منظمة على مستوى الشارع أو بمواصلة النقد الفكري لآليات النظام الشمولي التي قد تكون تعويضا هاما عن الضعف السياسي , بل لجأ للبحث عن هذا التعويض في تبني الشكل السائد من الليبرالية الجديدة عالميا بالشكل الذي يضع الخارج في مركز السياسة و الفكر السائدين , و يعيد إنتاج تبعية كاملة ( هي موجودة بالفعل ) من الداخل ( الشعب و حتى النظام ) لهذا الخارج ( النظام الرأسمالي العالمي بالتحديد ) , مما ينقل مركز التغيير , كمركز يحدد شكل و أهداف التغيير و يحمل “أعباءه” و مسؤوليته نيابة عن الناس بالضرورة و حتى دون استشارتهم لكن هذه المرة لصالحهم , ليس فقط لصالح الخارج , فالنظام أيضا يمارس لعبة الخارج هذه بحماسة و يحاول هو أيضا أن يكسب رضا الخارج و يحوله من عامل إضعاف إلى عامل تقوية و تعزيز للنظام لكنه بالطبع يريد أن يعرف الثمن الذي سيحصل عليه و هو اليوم أقوى من أن يقدم خدمات مجانية كما كان يفعل مثلا عندما كان بوش في البيت الأبيض , بل إلى ذلك الجزء من الداخل الذي يتفاعل على أفضل نحو ممكن مع الخارج كهوية و كسياسة و كمركز علاقات قوة و سيطرة واقتصادية و ليس مع الداخل المهمش و المقموع : الطبقات الشعبية المهمشة و المقموعة . إن أزمة النظام مزدوجة , إنها أزمته مع النظام الرأسمالي العالمي و أمريكا من جهة , و أزمته مع الشعب , و يجب التذكير هنا أنه عندما قطع الفرنسيون رأس لويس السادس عشر ارتجف ملوك أوروبا خوفا من شعوبهم أما عندما أعدم صدام بعد أن سقط على يد الأمريكان ارتعدت فرائص الزعماء و الطغاة العرب من أمريكا , هذا هو مربط الفرس هنا , يمكنك أن تحب أمريكا أو أن تكرهها , لكن كبار الرأسماليين و الجنرالات و السياسيين الأمريكان ليسوا الشعب السوري المهمش و المقموع , و إذا كان لا يحق لهم الحديث باسم هذا الشعب بزعم أنهم ينتقدون شمولية و قمع النظام فإن هذا صحيح أيضا عن النظام كما عن أية نخبة معارضة , إنها جميعا محاولات لخلق وصاية ما عن طريق احتكار حق الكلام باسم بشر غيب صوتهم وراء آليات قهر و قمع شمولية يعاد إنتاجها بأشكال مختلفة قد تكون أقل قبحا إن لم تكن أكثر زينة . ليست القضية في تمييع قضية الحرية أو تعريفها لصالح من يقهر السوريين اليوم بل في الإصرار على وضع تعريف و تحديد واضح بل شديد الوضوح لها يمنع اغتصابها مرة تلو أخرى , لا يمكن تعريف حرية السوريين إلا بطريقة واحدة , إنها حرية أصغرهم و أكثرهم تهميشا و ليست حرية نخبة ما في تنفيذ مشروعها في مواجهة مشروع النظام الشمولي , لا يصبح السوريون أكثر حرية إذا التزم النظام باشتراطات أمريكا , هذه ما تسمى بلعبة السياسة أو أحيانا بشكل كوميدي بفن السياسة أي تنمر القوي على الضعيف و ابتلاع القوي للضعيف و إجباره على الخضوع , إنهم يصبحون أحرارا فقط عندما يصبحون هم مركز الحياة السورية العامة الفعلي لا أي مندوب سامي أو زعيم ما . و بالتالي لا تصبح قضية إعلان دمشق قضية حرية هؤلاء المهمشين بل حريته هو كمجموعة تتعرض لقمع النظام أيضا , و لو أنه من الممكن أن تكون الأمور على النقيض أو على الأقل على درجة أقل من النخبوية و الإطلاق و الوصائية . يمكن لإعلان دمشق أن يعيد تعريف نفسه على أنه مركز , و ليس “المركز” , على أنه مركز مؤقت لقوى معارضة نتجت بفعل الظروف التاريخية الموضوعية لها رؤية نقدية في آليات فعل النظام الشمولي و في تطوير مقاومة الجماهير اليومية وصولا إلى المقاومة النهائية لهذا القمع و التهميش , أن يتجاوز وضعيته كمركز أغلق نفسه على نفسه و اعتبر أن على الآخرين أن يلتحقوا به و يدوروا حوله , بأن يبدأ بإنتاج حالة تنظيمية أكثر أفقية و قاعدية و تلاحما على الأقل في المرحلة الأولى بجماهير و قواعد المعارضة القائمة نفسها , مع التشديد على أنه ليس مركزا عموديا أو هرميا , أي أنه ليس على الناس في حال انضمامهم إليه أن ينضموا إلى القاعدة , إلى أسفل الهرم , بل أن ينضم أكبر عدد ممكن إلى شبكته الأفقية التي تصل بين قواعد تزداد أكثر فأكثر بينما يبقى المركز ليس فقط مفتوحا للقوى السياسية الأخرى و حتى لممثلي الناس العاديين , بل أن يكون أبعد ما يمكن عن مركز وصائي فوقي نخبوي كائنا من كانت القوى التي تحتله و تسيطر عليه يسارية كانت أم قومية أو ليبرالية , و أقرب إلى مركز للحوار و للتفاعل الفكري و السياسي ليس فقط بين عدد محدود من المثقفين و السياسيين بل بين أوسع عدد ممكن من البشر خاصة العاديين بشرط أن يتم ذلك بحرية كاملة خاصة لمن هو أكثر تهميشا و قهرا على مستوى المجتمع نفسه , من أن يكون مركزا للقيادة اليومية و الإستراتيجية بصلاحيات مطلقة على طريقة المكاتب السياسية للأحزاب الستالينية . صاغ بدر الدين شنن الشعار الممكن المتاح أمام إعلان دمشق بشكل رائع : الانتقال من معارضة تقليدية إلى معارضة شعبية ثورية , و بقدر ما أن الإمكانيات موجودة بقدر ما تزداد صعوبة يوما بعد يوم لتحد من إمكانيات أن يلعب إعلان دمشق دورا أكبر في التغيير الديمقراطي السياسي و الاجتماعي في سوريا…….
كاتب سوري