صفحات ثقافيةفرج بيرقدار

إنعكاسات مظلمة في قصائدي

null
فرج بيرقدار
لا أظنني أبالغ لو قلت إن تاريخ سوريا المعاصر في أحد معانيه، وبخاصة خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، إنما هو تاريخ السجون السياسية.
وإذا كان لا بد لأي تاريخ من انعكاسات في الأدب، فإني أعتقد أن العرب، وبشكل خاص العراقيين ثم السوريين، سيكونون في المستقبل من أصحاب أكبر تراث عالمي في أدب السجون.
مواجهة مناقير الطيور بالبلطات، أعني مواجهة الكلمة الحرة بالكرابيج والجنازير والتعذيب إلى تخوم الموت وأحياناً تجاوزها، هي واحدة من أهم “خصوصياتنا الثقافية” التي تتباهى بها وتتلطّى وراءها أنظمة الاستبداد للتملُّص من أي مساءلة أو تهمة تتعلق بمدى التزام تلك الأنظمة بحقوق الإنسان.
لا أريد الخوض في المناقشة دحضاً ولا تأييداً لتلك القناعة المتمثلة في أنه “في البدء كانت الكلمة”، غير أني لا أشك أبداً في السعي الحثيث لأنظمة الاستبداد من أجل الوصول إلى قناعة أخرى مفادها أنه في النهاية كان الصمت طوعاً أو كرهاً.
كشاعر سوري يمكنني القول إن أدب السجون في سوريا خلال السنوات القليلة الماضية أصبح واضحاً ومتنامياً، ولكنه مع ذلك لم يشكّل حتى الآن إلا جزءاً صغيراً جداً مما لم يتجرأ الكتّاب بعامة والسجناء بخاصة على نشره بعد.
وإذا كان لكل شعب إلياذاه أو أوذيساه أو شاهناماه أو مهابهاراتاه، أو غير ذلك مما يعكس أو يسجّل حياته وتاريخه وقصصه وحِكَمَهُ وأحلامه وكوابيسه، فإن لنا نحن العرب شعرنا الذي عكسَ وسجّل، منذ ما يزيد عن ألفي سنة، حياتنا وتاريخنا وقصصنا وحكمنا وأحلامنا وكوابيسنا، وقد بدأ يعكس الآن، معاناتنا في السجون.
لقد كان الاستبداد في سوريا، وما زال، أحد الوارثين لأسوأ ما في الأنظمة الرأسمالية، ولأسوأ ما في الأنظمة الاشتراكية، وعلينا أن ننتظر حالاً آخر أو تغيُّرات أخرى داخلية أو إقليمية أو عالمية ملائمة، أو قادرة على حماية حرية التعبير، لنتمكن بعدها من رؤية وقراءة مجمل انعكاسات ذلك السجل الأسود الضخم لتاريخ سوريا “الحديثة” في الشعر أو في الفنّ والأدب عموماً.
أما بالنسبة إلى تاريخي الشخصي أو تجربتي الشخصية كشاعر أمضى أربعة عشر عاماً في سجون الديكتاتورية السورية، فإن بوسعي القول إن السجن قد غيّر مجرى حياتي أولاً، ومن ثم غيّر شكل ومضمون كتابتي، وحتى قاموسي اللفظي وهواجسي ومشاعري.
لقد أصبح السجن والسجين والسجّان والزنزانة والمهجع والسياط والتحقيق والتعذيب والدم والغنغرينا والكلبشات والكابلات و”الطميشات” والأبواب والأقفال والجنازير والشرّاقات والجوع والإضراب عن الطعام والزيارة  والشوك والرمل والعتمة والفئران والعقارب والسلّ والجَرَب والأسوار والأسلاك الشائكة واللعنة والكوابيس والأشباح والموت واللائحة تطول…
أقول أصبح كل ذلك جزءاً من قاموسي الراسخ.
هل لكل هذا علاقة بموضوعة مؤتمرنا حول الانعكاسات التاريخية في الشعر؟
لست جازماً تماماً، غير أني على أية حال أشتهي الخروج من تلك المجتلدات الجهنمية المجنونة، ومن انعكاساتها أيضاً، لعلي لا أكتب عن غير الورد وشقيقاته واشتقاقاته.
•    مداخلة في مؤتمر حول “الإنعكاسات التاريخية العامة والشخصية في الشعر” – مهرجان ربيع الشعر- ليتوانيا 26 أيار 2010.
•    نشرت هذه المداخلة في صحيفة “الغاوون” العدد 29.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ياأخ فرج بيرقدار بدون معرفة أحييك على هذا المقال الذي أصاب كبد الحقيقة التي غطت عليها جعجعة الإعلام المنافق الرخيص — نعم وألف ألف نعم إن تاريخ سوريا منذ بداية ابتلائها بحكم الحزب الواحد الذي تسلط على كل شيء في الوطن – المخابرات تدخل أينماتريد – كيفما تريد – متى شاءت ولامن رقيب ولا حسيب – يخاف الإنسان من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه وفصيلته التي تؤويه – – بل يخاف الإنسان من نفسه أن تحدثه بشيء لايعجب السلطات – علما بأن ربنا سبحاته وتعالى قد تجاوز للعباد ماتحدثهم نفوسهم – هذه الأنظمة يا أخ فرج محمية بأشد أنواع الحماية والحصاتة من الأسياد المختفين خلف الكواليس — الغرب الذي ينهب ثرواتنا ويختلس أموالنا ويحاربنا بأموالنا المنهوبة — هو الذي يحمي هذه الأنظمة لأنها هي التي تحافظ له على مصالحه – –

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى