في فضائل الكسل
بقلم: كاترين هالبرن Catherine Halpern
ترجمة : محمّد الحاج سالم
بعد أن كان مرادفا للعبوديّة في العصور القديمة، أضحى العمل قيمة في المجتمعات الحديثة. فماذا لو كان الكسل يقودنا نحو مجتمع أكثر عدالة وأكثر تعزيزا لازدهار النّاس جميعا؟
****
“لا تتحرّك بهذا الشّكل، أنت تتعبني” يقول ألكسندر لكلبه. ويضيف: “أنت أيضا، يجب أن تتحرّك، أن تهرب، ولكن ما دهاهم جميعا؟ لدينا فسحة من الوقت. يجب على المرء أن يتمهّل. يجب أن يتمهّل في تمهّله”. بهذا دعانا إيف روبرت (Yves Robert) قبل عام من أحداث ماي 1968 في فيلم “ألكسندر المغبوط” (Alexandre le Bienheureux) إلى التغنّي بالكسل من خلال صورة رجل يقرّر إثر وفاة زوجته أن يترك كلّ شيء وراءه، رغم استياء الآخرين، وأن يرتاح.
ذلك أنّ الكسل يزعج، بل هو كريه. ورغم ندرة من لا يزال يرى في الكسل خطيئة في معناها الصّريح، فإنّه لا يزال موضع استنكار أخلاقيّ كبير. إنّنا لا زلنا نكرّر الموعظة التي مفادها أنّ “الكسل هو أب جميع الرّذائل”، ونحسّن العمل ونقبّح التّكاسل.
ولكن إذا ما كان التّكاسل أمرا في منتهى العذوبة، فلماذا نعطي العمل كلّ تلك القيمة؟ إنّنا أمام تاريخ طويل تسلّط عليه دومينيك ميدا (Dominique Méda) الضّوء في كتابها “العمل: قيمة في طور الانقراض” (Le Travail. Une valeur en voie de disparition, Flammarion, 1995). ففي اليونان وروما العتيقة، كان النّشاط الإنتاجي الذي يضطرّ إليه الإنسان كي يعيش ويلبّي حاجاته المادّية غير خاضع للتّقييم البتّة. فقد كان العبيد مسخّرين للقيام بالأعمال الوضيعة كي يتمكّن الرّجال الأحرار من التفرّغ إلى ما هو إنسانيّ بحقّ: الفنّ، والفلسفة والسّياسة… هذا هو التصوّر الذي نجده في التّعارض الذي أقامه الرّومان بين الدّعة (otium) والعمل (labor): الدّعة هي وقت الفراغ الذي يبتهج فيه الإنسان، والعمل هو عبوديّة.
نحن نعمل كثيرا! وقد كان لا بدّ من انقضاء بضعة قرون حتّى ينقلب سلّم القيم ويتمّ إخراج العمل من حيّز الضّرورة إلى حيّز القيمة، وهو انقلاب لا يمكن إرجاعه إلى المسيحيّة وحدها، رغم أنّها مهّدت له. وفي الواقع، فإنّ أواخر العصر الوسيط هي الحقبة التي ستشهد الانطلاقة الحقيقيّة لإضفاء القيمة على العمل. وتدريجيّا وعلى مرّ القرون، أضحت الدّعة (otium) مرادفة للكسل، فيما أضحى العمل قيمة مركزيّة. ولقد نظر الاقتصاد السّياسي في القرن الثّامن عشر، وعلى رأسه آدم سميث (Adam Smith)، إلى العمل بوصفه العامل الرّئيسي في خلق الثّروات وبوصفه بؤرة الحياة الاجتماعيّة، بل ذهب القرن التّاسع عشر إلى أبعد من ذلك حين اعتبر العمل جوهر الإنسان ذاته. وبهذا، فإنّ الإنسان في اعتبار كارل ماركس (Karl Marx) لم يَغْدُ ما هو عليه إلاّ من خلال العمل : العمل هو ما يشكّل العالم والطّبيعة ويؤنسن الإنسان بالسّماح له بالتّعبير عن فرديّته. ولكنّ ماركس لا يضفي القيمة على جوهر العمل، إلا ليُدين العمل الفعليّ، أي العمل المغترب الذي يتمّ من خلاله استعباد الإنسان واستغلاله. ومع ذلك، فإنّ ماركس لا يدين العمل في ذاته، بل على العكس من ذلك تماما. فالعمل يجب أن يتخلّص من الثّوب الذي ألبسته إيّاه الرّأسماليّة لكي يغدو ما ينبغي أن يكونه : مجالا للابتهاج. لقد غدا العمل تدريجيّا بؤرة الحياة الاجتماعيّة والحياة المنتجة.
ومع ذلك، فقد ارتفعت بعض الأصوات على غرار صوت فريدريش نيتشه (Friedrich Nietzsche) في نصّ بعنوان “المنافحون عن العمل” (Les apologistes du travail) ساءل فيه الآليّات الحقيقية لهذه العظة الأخلاقيّة : “في تمجيد (العمل)، والكلام دون كلل عن (نعمة) العمل، يتراءى نفس القصد الدّافع إلى الثّناء على الأعمال غير الشّخصيّة والنّافعة للجميع : وأعني بذلك الخوف من كلّ ما هو فرديّ. ونشعر اليوم في قرارة أنفسنا أنّ العمل – ونحن نضع دائما تحت هذا الاسم العمل الشاقّ من الصّباح إلى اللّيل- يمثّل أفضل تهذيب، وأنّه يلجم كلّ فرد ويساهم بشكل قويّ في إعاقة تطوّر العقل والرّغبات وحسّ الاستقلال. ذلك أنّه يستهلك قدرا هائلا من الطاقة العصبيّة ويستثنيها من التّفكير والتأمّل والتخيّل، ومن المخاوف والحبّ والكراهيّة، وهو يمثّل على الدّوام هدفا تافها ويؤمّن ترضيات سهلة ومنتظمة”. كما يندّد بول لافارغ (Paul Lafargue)، وهو صهر ماركس، من جانبه بالإنتاجيّة الحمقاء وغير الصحّية : “يتملّك الطّبقات العاملة في الأمم التي تسودها الحضارة الرّأسماليّة جنون غريب يستتبع شقاء على المستويين الفرديّ والاجتماعيّ، وهو ما يسبّب منذ قرنين معاناة الإنسانيّة المعذّبة. هذا الجنون هو حبّ العمل، والشّغف المَرَضيّ بالعمل الذي يتمّ دفعه إلى حدّ استنفاد القوى الحيويّة للفرد ولذريّته”(1). وقد واجه لافارغ أولئك المدافعين عن الحقّ في العمل بالدّعوة إلى الحقّ في الكسل، وأنّه لا ينبغي للفرد أن يعمل أكثر من ثلاث ساعات يوميّا. وبعد عقود قليلة، قدّم برتراند راسّل (Bertrand Russell) في كتابه “مديح البطالة”(2) ملاحظة مماثلة: “إنّ الاعتقاد بأنّ العمل فضيلة هو سبب شرور عظيمة في العالم الحديث، (…) والطّريق إلى السّعادة والرّخاء يمرّ عبر التّخفيض المنظّم للعمل”. فالتّقنية وتقدّم الإنتاجيّة يمكن أن يسمحا لنا بالتخلّص من العبوديّة عبر التّقليص الجذريّ لوقت العمل.
ولكن سواء تعلّق الأمر ببرتراند راسّل أو بول لافارغ، فإنّ مديح البطالة ليس مديحا للخمول المحض، بل هو دفاع عن الأنشطة غير المنتجة والمختارة بحُرّية. وهذا ما يشرحه برتراند راسّل : “حين أدعو إلى وجوب تخفيض عدد ساعات العمل إلى أربع، فأنا لا أعني أنّه علينا تبديد جميع ما يتبقّى من الوقت في العبث المحض. إنّني أعني أنّ عمل الإنسان أربع ساعات في اليوم، ينبغي أن يترك له الحقّ في التمتّع بالأشياء الأساسيّة كي يعيش في حدّ أدنى من الرفاهيّة، وأن يتاح له التصرّف ببقيّة وقته بالطّريقة التي يراها مناسبة”. فألاّ نعمل، لا يعني بالضّرورة ألاّ نفعل شيئا، بل أن نفعل شيئا آخر.
الحياة ليست فقط إنتاجا:
تشغل مسألة دور العمل في المجتمع اليوم حيّزا مهمّا لم يسبق له مثيل. وقد سمح تطوّر التّقانات بزيادة كبيرة في الإنتاجيّة وخفّف عن البشر كثيرا من الأعمال الشاقّة؛ ومع ذلك فإنّ العمل ما زال يحتلّ مكانا بارزا في حياتنا. ورغم أنّه ما زال يعتمد بصفة واسعة أساسا لتوزيع الثّروة، إلاّ أنّه ليس موزّعا بالتّساوي، إذ لا تزال شريحة من النّاس مقصيّة عنه وتعاني من تردّي ظروفها المادّية قدر معاناتها من الوصم الاجتماعيّ. وبالنّسبة لعالم الاقتصاد جيريمي ريفكين (Jeremy Rifkin) الذي أثار كتابه “نهاية العمل” (La Fin du travail, La Découverte, 1996) جدلا واسع النّطاق، فإنّ العمل على شفا جرف هار. فبفعل الأتمتة والحوسبة، أضحت نسبة كبيرة من الوظائف في جميع القطاعات مهدّدة بالتّلاشي وينتظر أن تتسّبب في بطالة نسبة كبيرة من القوى العاملة. وفي مواجهة هذه المشكلة الاجتماعيّة، ينصح ريفكين بالتّقليص من وقت العمل وإعادة النّظر في توزيع الثّروة على أساس غير الإنتاج وتطوير ما يسمّى “القطاع الثّالث”، أي الاقتصاد الاجتماعيّ والمجال الجمعيّاتي الهادفين إلى تحقيق رفاهيّة الآخرين. وهذا ما يتّفق مع رؤية دومينيك ميدا، فهي تدعو أيضا إلى فكّ السّحر عن العمل، أي التّقليل من المكانة التي يحتلّها في مجتمعاتنا لصالح الأنشطة الاجتماعيّة والسّياسيّة التي تنمّي استقلاليّة الذّات والتّعاون بين البشر. فحياة الإنسان لا تختزل في الإنتاج.
فهل يعني العمل أقلّ، أن نتكاسل؟ كلاّ، على ما يزعم غيّوم دوفال (Guillaume Duval) حين يشير اعتمادا على الأرقام إلى الإنتاجيّة الممتازة للفرنسيّين(3). فرغم تحديد فترة العمل بخمس وثلاثين ساعة أسبوعيّا، فإنّ مكتب إحصاءات العمل التّابع لوزارة العمل الاتّحاديّة الأمريكيّة يشير إلى أنّ الفرد الفرنسيّ ينتج ثروات أكثر من الفرد الانكليزي والألماني والياباني… وقد أدّى اعتماد نظام الخمس وثلاثين ساعة إلى خفض ساعات العمل بالنّسبة لمن عمرهم بين 25 و 54 سنة، وهي الشّريحة التي يقع عليها القسط الأكبر من عبء الإنتاج في فرنسا مقارنة بالبلدان الأخرى، كما أدّى إلى زيادة وقت العمل الإجمالي على امتداد حياة الفرد إذ تطوّرت نسبة العاملين عند الشّريحة العمريّة بين 15 و 25 سنة من 25 ٪ في عام 1997 إلى 30 ٪ في عام 2001 ونسبة العاملين ممّن عند الشّريحة العمريّة بين 55 و 64 سنة من 28 ٪ في عام 1998 إلى 35 ٪ في عام 2002. وهذا لعمري مفيد للحدّ من البطالة بين الشّباب والمساعدة في تمويل مشاريع التّغطية الاجتماعيّة لكبار السنّ.
مسألة بقاء؟
ويخلص غيّوم دوفال إلى القول : “إذا كان من شأن التّدابير التي اتخذت مؤخّرا أن تدفع المنتمين إلى الشّريحة العمريّة بين 25 و54 عاما إلى بدء العمل مرّة أخرى لمدّة أطول، فإنّه لا يستغرب ألاّ تنخفض البطالة إلاّ بنسبة قليلة على الرّغم من تقاعد مواليد فترة الانفجار السكّاني (baby-boomers)، ولا يستغرب أن يكون من الصّعب خفض سن التّقاعد الفعلي للأجراء. فـ(العمل أكثر) لا يتعايش في الواقع إلاّ نادرا مع (عمل الجميع). لذا نقول، مع كلّ الاحترام الواجب، إنّ الفرنسيّين لم يصبحوا مع نظام العمل بخمس وثلاثين ساعة كسالى، بل العكس هو الصّحيح”.
لكن هل يكفي التّقليص من وقت العمل؟ أليس المطلوب إنشاء سلّم كامل من القيم ونمط عيش جديد؟ ألا يمكننا تصوّر مجتمع يكون فيه كلّ فرد حرّا في أن يعمل أكثر أو أقلّ حسب ما يريد؟ هذا ما تناوله فيلم “انتبه: خطر العمل” (Attention danger travail) (4) بتعريفنا بأولئك الذين اختاروا رغم كلّ شيء ألاّ يعملوا. إنّهم يثبتون، بعيدا عن صورة العاطل المحبط، إمكانيّة أن يبتهج الإنسان وأن يعيش حياة اجتماعيّة ثريّة خارج العمل. ويدعو المؤيّدون لهذا التّخفيض إلى استهلاك أقلّ وعمل أقلّ وإصلاح جذريّ لأنماط العيش، وبصفة خاصّة لأنماط استهلاكنا. إنّها مسألة بقاء، حسب قولهم، للحدّ من الأثر البيئيّ واستنفاد الموارد الطّبيعيّة، بل هي أيضا رغبة في تعزيز قيم أخرى : الإيثار والتّعاون والتّرفيه… لكن علاوة عن كونه مساعدا على ازدهارنا، هل سيكفي قليل من الكسل لإنقاذ العالم؟ قد لا يكون هذا أمرا مستبعدا، لكنّه يكفي على كلّ حال لتبرير رغبة كاتبة هذه السّطور في أن ترتاح قليلا.
الشواهد:
1- Paul Lafargue: Le Droit à la paresse, 1880, rééd. L’Altiplano, 2007.
2- Bertrand Russell: Éloge de l’oisiveté, 1932, rééd. Allia, 2002.
3- Guillaume Duval: « Les Français sont-ils des paresseux ? », in: Sommes-nous des paresseux ? Et 30 autres questions sur la France et les Français, Seuil, 2008.
4- Pierre Carles & Christophe Coello & Stéphane Goxe: Attention danger travail, film documentaire, 2003.
للاستزادة حول الموضوع:
• Dominique Méda: Le Travail. Une valeur en voie de disparition, Flammarion, coll. « Champs », 1995.
• Dominique Méda: Misères du présent. Richesse du possible, Galilée, 1997.
• Hannah Arendt : La Condition de l’homme moderne, 1958, rééd. Pocket, coll. « Agora », 2007.
• Jeremy Rifkin: La Fin du travail, La Découverte, 1996.
• Camille Saint-Jacques: Notre paresse. Vice et vertu, Autrement, 2005.
العنوان الأصلي للمقال:
Catherine Halpern: Des vertus de la paresse, Revue Sciences humaines, n° 196, 2008, pp. 30-32.
موقع الآوان