المجتمع المدني وبناء الدولة المدنية
حسين عيسو
ما زالت النظرة الى أهمية المجتمع المدني في بلدنا مغلفة بالضبابية , لأننا ما زلنا غرباء عن هذا المفهوم الذي يعتبر الأساس في بناء “الدولة المدنية الحديثة” التي لا تعامل مواطنيها على أسس تفضيلية : قومية أو دينية أو طبقية , وإنما المواطنون فيها متساوون في كافة الحقوق والواجبات , فهي دولة الحق والقانون .
يتحدد مفهوم المجتمع المدني في :
1- التعددية السياسية , بدلا من الحكم المطلق .
2- إقرار الحريات العامة كالملكية والعمل والرأي والمعتقد , بدلا من تحكم أيديولوجيات “طبقية , اثنية , دينية , مذهبية” , جاهزة تتحكم في مصائر الأفراد ومشاعرهم وتتعامل معهم مفاضلة .
3- العمل على الانتقال الى مبدأ سيادة الأمة/الشعب , أي حق المواطنة , متجاوزا الانتماءات ما قبل الوطنية .
فالمجتمع المدني كفضاء عمل وتنسيق بين الحركات الاجتماعية مثل النقابات المهنية والتيارات الثقافية والجمعيات النسائية والاتحادات العمالية المستقلة وغير المرتبطة بالسلطة الحاكمة تعتبر من أهم دعائم بناء الدولة المدنية الديمقراطية, دولة الكل الاجتماعي , ويشكل الإعلام المستقل والوعي الشعبي لأهمية المجتمع المدني درجة كبيرة من النفوذ الذي تتمتع بها هذه الحركات والمنظمات في إطار السلطة في الدولة الديمقراطية عكس المجتمع السياسي كالأحزاب السياسية التي تعمل للسيطرة على السلطة .
والعلاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية وطيدة جدا , فمن أجل بناء دولة ديمقراطية , لا بد من بناء مجتمع مدني قوي , فبدونه لا تستطيع الديمقراطية أن تنمو وتتحصن , مثال ذلك السودان بعد سقوط نظام النميري الإستبدادي ثم قرار الحاكم الجديد “سوار الذهب” تسليم السلطة لحكومة منتخبة ديمقراطيا , فكان أول حاكم يتنازل عن السلطة بإرادته , لكن تلك الديمقراطية فشلت , وسقط الحكم المدني بعد شهور قليلة , ليحل محله نظام أكثر استبدادا وأشد فتكا , كذلك ما حصل في موريتانيا مؤخرا , فالذي أدى الى فشل الديمقراطية في البلدين المذكورين , هو عدم وجود مجتمع مدني متنوع وتعددي قوي , قادر على تدعيم القيم الديمقراطية , فالمجتمع المدني يعمل على تنمية اللحمة الوطنية , من خلال تكامل عمل الأفراد , والإيمان بمسئوليتهم متضامنين عن المستقبل الديمقراطي لبلدهم , “يقول هيجل : أن كل فرد في المجتمع المدني يرى نفسه غاية , ويرى في الآخر وسائل لتحصين غاياته , وهذا يخلق نوعا من الاعتماد المتبادل بين الأفراد والتنافس في سبيل تقديم الأفضل , من خلال الانتظام في هيئات مدنية هدفها الدفاع عن مصالحهم المشتركة , وهو ما يسميه هيجل , المجتمع المدني” , والمجتمع المدني بقواه الاقتصادية والثقافية والأخلاقية يستطيع الوقوف بوجه السلطة , ووضع حد لتحكمها في مقدرات البلد , الى جانب الإعلام القوي المستقل , فحين تسيطر السلطة على وسائل الإعلام , تبقى بعيدا عن النقد , فتتحكم بمصائر الناس وتمارس الاضطهاد , ويعم الفساد , وتتحول الدولة مع الزمن الى رهينة لديها .
حين أراد ماركوس التفرد بالسلطة , كان أول عمل قام به هو , اعتقال جميع الإعلاميين الشرفاء , وإغلاق الصحف والسيطرة على الإذاعة , قبل إعلان حالة الطوارئ عام 1972 الى أن تمكن من إيجاد إعلاميين على مقاسه , ( للتذكير فقط , حين اعتلى ماركوس السلطة “ديمقراطيا” عام 1965 كانت الفيليبين أغنى دولة في آسيا بعد اليابان , ولكنها في العام 1986 يوم رحيل ماركوس كانت أفقر دولة في آسيا بعد بنغلاديش .
والمجتمع المدني كميدان للمنافسة بين مجموعات كبيرة من الفئات ذات المصالح المتباينة , يعمل للتنسيق بين تلك المصالح , فيخلق منها قوة تكمل دور “الأحزاب السياسية الديمقراطية” في رفع مستوى الفاعلية السياسية والمهارة لدى المواطنين , وتعزيز أهمية الحقوق والواجبات في المواطنية الديمقراطية , وبذا تمنع وقوع السلطة تحت سيطرة أية فئة منها , لأن كلا منها تقوم بمحاسبة السلطة على أي خطأ , فهو وان كان مجالا للعمل المدني , فانه يستطيع بقوته العمل على الحد من تمسك حزب ما بالسلطة تعسفيا .
وهنا أقصد الأحزاب الوطنية الديمقراطية فعلا , حيث أغلب أحزابنا السورية من عربية وكردية وآثورية ويسارية , تحمل هذه الصفة كتسمية فقط , أنما أقصد أحزابا ديمقراطية في هيكليتها , تؤمن بتناوب السلطة داخل الحزب , ووطنية في مبادئها . ويمكن اعتبار الحزب في تكوينه سلطة مصغرة , فإذا كان الحزب شموليا , لا يستطيع مطالبة نظام شمولي بالديمقراطية , وهذه مشكلة أغلب أحزابنا في سوريا .
مؤسسات المجتمع المدني أو الاتحادات المدنية كما يسميها “توكفيل” “مدرسة حرة ضخمة” لأنها تهدف الى تطوير فهم المواطن لمعنى الديمقراطية وممارستها من خلال المشاركة في فعاليات نقابته والتعاون مع الآخرين واحترام آرائهم والتوصل معا الى حل مشكلات مجتمعهم , وبهذا فهي أيضا تعتبر مدارس لإعداد قادة سياسيين ديمقراطيين عن طريق الممارسة الديمقراطية ,
مثال ذلك أردوغان الذي كان رئيس بلدية استانبول والذي أعتقد أنه من أنجح السياسيين في عالم اليوم .
ومن أهم وظائف المجتمع المدني هو تسريع التخلص من الاستبداد الذي هو في الأساس من ألغى المجتمع المدني , قبل أن يقوى عوده , وأخضعه لسيطرة الحزب الحاكم أو السلطة , فالعمل من خلال الحركات من أجل الديمقراطية , ومنظمات حقوق الإنسان , إلى جانب الإعلام العابر عن طريق مواقع الانترنت والفضائيات اليوم , والتي تكاد تطغى على الإعلام التابع للسلطة , فإنها السبيل الأهم من أجل تنمية الثقافة المستقلة والمطالبة باحترام حقوق الإنسان وكرامته , وكشف عورات الاستبداد , وفضح الفساد وأصحاب النفوذ , ونقل الوقائع بصدق وأمانة , لكسب ثقة المواطنين , وكي لا يصيبها ما حصل لإعلام السلطة , وهذا يعمل على تصدع السلطة الاستبدادية , وتآكل سيطرته , ما يؤدي الى انبعاث مجتمع مدني جديد , كما حصل في الدول الشيوعية السابقة .
وهنا لابد من التنبيه الى أن عمل المنظمات الحقوقية في سوريا يجب أن تكون من خلال سوريتها , وليس أي انتماء دون المستوى الوطني السوري , عربية أو كردية أو غيرها لأنها الوحيدة المستقلة عن السلطة اليوم , كما يفترض منها , وإذا كانت حرة ومستقلة فعلا , وإنسانية , لا تفرق بين حقوق إنسان وآخر , فإنها ستكسب ثقة المواطن , وتعمل على توعية الأفراد بحقوقهم كمواطنين .
خاص – صفحات سورية –