عصاب الحداثة العربية
محي الدين شنانة
مر على عمر الحداثة في الوطن العربي ما يقارب القرن ونيف، ولا عجب فالحداثة لم تتحقق عندنا على رغم كل التغيرات والتبدلات التي طرأت. فنحن – كما يمكن أن يتفق الكثيرون – نشهد حالة من التراجع في جملة مفاهيم الحداثة، تلك التي شهدت انتعاشاً ما في بداية القرن، فالوطن تراجع لمصلحة الطائفة أو العشيرة أو المدينة في أحسن الأحوال، كما نشهد كذلك تراجعاً في مؤسسات الحداثة وفي دورها المفترض. فمثلاً نرى انشقاق العديد من الأحزاب العلمانية لا على أساس سياسي أو تنظيمي، بل الفرز النهائي لمصلحة القومية أو الدين أو غيرهما. وإذ نشهد هذا التحول العميق، تظهر على السطح كل هذه التخندقات من مذهبية إلى طائفية إلى اثنية، مما بات يهدد وحدة الدول العربية كدول، إن في العراق، أو في اليمن، أو في مصر، أو في السودان والقائمة تطول. إن هذا التحول «الانحدار» من مستوى من الوعي إلى مستوى أدنى منه إنما هو «نكوص» أو «عصاب» جماعياً، نتيجة الإحساس والقناعة المتزايدة بانسداد الآفاق.
فالعصاب هو حالة من الحل الوسط بين الوعي واللاوعي (بين غريزة الحياة والفناء) الذي يتم التوصل إليه نتيجة توازن في القوى واختلاف في الاتجاه، فهو مدعوماً من الوعي كأفضل السيء تجنباً للفناء أو تحول المكبوت إلى واقع، بينما اللاوعي يدعم العصاب بصفته إشباعاً رمزياً لرغبات مكبوتة، وهذا في ظل المقاومة التي يبديها الوعي. من هنا يكتسب العصاب هذه القوة والعناد والثبات، فهو مدعوم من الطرفين.
النتيجة أن العصاب يشكل، في ما يشكل، آلية دفاع «غير واعية»، وهذا مقارنة بالحالة الأسوأ أي «الفناء»، وهذا ما يمكن أن يتضمن قيمة إيجابية بحد ذاته، ولكن هذه القيمة الإيجابية إنما هي المرض، المرض الذي لا يمكن أن يشكل الحل والمخرج فهو «يشيطن» الآخر ليسقط عليه كل الصور اللاواعية المختزنة في اللاوعي، وهو بذلك ينطلق من عقد الدونية. فليس كره الآخر إلا الوجه الآخر لكره الذات، وشتان بين النرجسية المتضخمة وبين حب الذات، كما انه يستنزف طاقة كبيرة، كان من الممكن أن تتجه نحو آفاق ومجالات منتجة ومجدية.
ويترتب على ما تقدم أن العصاب كحالة مرضية، إنما هو حالة قابلة للشفاء، هذا أولاً، وثانياً إن الخروج من هذه الحالة المرضية يكمن ويتلخص في الانحياز للوعي في معركته مع اللاوعي لتمليكه أساليب الانتصار في هذه المعركة، وذلك عبر ما يسمى بلغة علم النفس «إحتياز الشعور» بما هو مكبوت، أي إخراج ما في جعبة اللاوعي إلى حيز الوعي، وثالثاً إن بنية العصاب بحد ذاته تعبر عن طاقة نفسية، هي التي يتم المراهنة عليها من أجل الشفاء. هذه الطاقة التي كنا نشهد تجلياتها في مجتمعاتنا في مرحلة المد القومي وصعود اليسار، والتي بتحولها من شكل غير واع للدفاع إلى شكل واع من الدفاع الفعال والهادف والسوي يتم تجاوز الوضع المرضي المفترض.
بصيغة أخرى إنها العضوية ترد مدافعة عن نفسها تجاه الجسم الغريب بالتقيح، وانه التقيح تعبيراً دفاعياً سلبياً، لا يمكن لطبيب أو غيره أن يعتمد التقيح حلاً للرد على ما يتهدد الجسم. إن المدخل إلى الحل هو البدء بإزالة القيح لتبدأ العضوية باسترداد عافيتها.
* كاتب سوري
الحياة