الحـظــــر
عباس بيضون
في أحد معارض بيروت الدولية للكتاب انعقدت ندوة لحزب التحرير الإسلامي وقيل يومها إن جانباً من الحضور لم يقف للنشيد اللبناني، كانت هذه بالنسبة لي مناسبة للوم منظمي المهرجان على دعوة حزب هذه عقيدته الى معرض الكتاب. ليس هذا الدليل الوحيد على موقفي من الحزب ودعوته. ولا أظن ان أحداً ممن يعرفني يرتاب في رفضي للإثنين ومعهما لكل دعوة دينية. لكن الحزب لا يخيفني بقدر ما يثير ضحكي إذ تشهد الدعوة الى الخلافة على نفسها بأنها مثل الدعوات الملكية خارج الواقع. وإذا اجتذبت عدداً من الناس فلأن كل خرافة قادرة على جذب أناس ولأن عدداً من الاعاجيب وجدت من يؤمن بها. هناك أناس نصبوا أنفسهم آلهة ووجدوا من يتبعهم بل واعتقدوا هم في أنفسهم فلماذا نخاف من دعوة دينية نكاد تشهد على نفسها. أحسب ان دعوات أكثر تحنكاً تخيف أكثر. لن يتبع جمهور كثيف حزباً يريد استعادة ماض ملتبس ومشتبه كالخلافة لكنه قد يتبع دعوات الى استرجاع مثال لم يحقق او حقبة اصلية. قد يتبع دعوات تدمج الديني بالقومي باليساري او تدعو الى شمولية إسلامية، هذه بالضبط دعوات أكثر ترسخاً واشكالية من تلك التي لا مرجع لها سوى كاريكاتور إسلامي كالخلافة، فمع كل ما يلحق باسم الخلافة لا يرى كثيرون فيها حكماً لله او للدين. سيرون فيها قتل الأخوة والأبناء وكل العيوب.
يرى أغلب الإسلامويين في حزب التحرير حزباً آبداً متأخراً عن زمنه. أما غير الإسلامويين فلا يجدون فيه ما يستحق الخوف، لكن الحقبة الحالية هي اختراع الشياطين وإيجادهم بالضبط بين من لا خطر فيهم ولا قدرة لهم على المجابهة. بدأ باختراع الشيطان الفلسطيني واليوم شيطان حزب التحرير وهناك من يريد ان يزين للمسيحيين أن حزب التحرير خطر عليهم وانه سيردهم ذميين. اختراع الشيطان الذمّي هو أيضاً من المبتكرات السهلة كما هو سهل اختراع الشيطان التوطيني، اختراع سهل لانتصارات سهلة لأنها غالباً انتصارات على لا أحد ولأنها في الأساس انتصارات في معارك غير موجودة، إحدى سمات حياتنا السياسية اليوم هي ايثار القتال والانتصار والصخب والغبار على الجانب الوهمي.
في عز فترة حرجة للغاية يجدون بسرعة معركتهم، إسحبوا علم وخبر حزب التحرير. أي بكلمة أخرى أكثر صراحة: احظروا حزب التحرير. امنعوه، هذا يعني اغلقوا مؤتمراته، امنعوا منشوراته وأخيراً اعتقلوا أعضاءه لمجرد انهم اعضاؤه، هذا يعني منع حرية عدد ضئيل وغير خطر من الناس لمجرد انه ضئيل وغير خطر، الحجة ان الحزب لا يؤمن بالنظام اللبناني او الكيان اللبناني. يريد لبنان جزءاً من دار الإسلام ولا يعترف لا به ولسواه من دول العالم الإسلامي بكيان ولا بنظام. هذه بالطبع عقيدة ضد اللبنانيين جميعاً مسلمين ومسيحيين ذلك ان المسلمين لا يقبلون التعدد اللبناني مداراة للمسيحيين ولكن مداراة لأنفسهم أولاً ومداراة للوطن والمجتمع والدولة. عقيدة الحزب بالنسبة لي فاسدة لكن الحزب لا يؤمن بالانقلاب بل بالدعوة السلمية وهذا ما اختلف فيه عن الاخوان المسلمين في يوم ويختلف فيه اليوم عن القاعدة والإرهاب الإسلامي، المشكلة في عقيدة الحزب لا في أساليبه، لكن كل عقيدة مشكلة بهذا المعنى. والتعدد والديموقراطية ما زلنا في معرض الكلام عن تفرد ما لا يحاسبان على الفكرة والعقيدة بل يحاسبان على الأسلوب. العقيدة السلمية تؤمن بالنظام حتى ولو لم تؤمن به، كيف نحاسب الحزب على عقيدته في بلد تجتمع فيه عقائد شتى على رفض كيانه ونظامه؟ أليس هذا حال التنظيمات الإسلامية التي تقول إنها لا تريد انقلاباً لكنها لا ترفض اقامة حكومة إسلامية بالحسنى حتى ولو بدا هذا الافتراض نظرياً ومستحيلاً من الناحية العملية، الأحزاب القومية عربية او سورية هي أيضاً تتجاوز النظام والكيان ولا تمانع في وحدة عربية او سورية بالحسنى. الاحزاب الاشتراكية هي أيضاً ترفض النظام ولا تمانع في تغييره بالحسنى بل ان الأحزاب اللاطائفية هي أيضاً ضد النظام ولا تمانع في تغييره بالحسنى. المسألة هي في آلية التغيير وأسلوبه. ثمة أحزاب نيونازية وفاشية في ايطاليا والمانيا وأميركا. ثمة أحزاب عنصرية معلنة او غير معلنة في فرنسا وايطاليا وأميركا، هذه الأحزاب لا تحاسب على عقيدتها ولكن على أساليبها. انها داخل النظام ومعه ما دامت لا تسعى إلى الانقلاب العنيف عليه.
لا بد من الاعتراف ان الديموقراطية ليست أولوية الكثيرين في لبنان. كثيرون يجدون ان لأمور أخرى سبقيات عليها. وانها في لحظة ما تغدو معيقة لأهداف أعلى منها، عندئذ فإن تخطيها جائز إن لم يكن محبذاً وضرورياً، أما الأهداف الأعلى فقد تكون وطنية والوطنيات كما نعلم متضاربة متعددة. او قد تكون اصلاحاً وقد تكون لمصلحة طائفية عليا او امتيازات من أي نوع، لكن الديموقراطية ليست غاية عليا. لكل قضية جنودها ولها من يستعدون للموت في سبيلها. الديموقراطية وحدها بلا جنود ولا تستحق التضحية من أجلها، لا نعرف اللحظة التي يطرح فيها استبداد المثل الأعلى استبداد الحرية او الحق او الوطنية او الاصلاح او الحقوق والامتيازات الطوائفية. الديموقراطية هي بالضبط أولى ما يخطر ان نضحي به، فهي بالتأكيد غريبة عن التراتب الطوائفي والزعامات الوراثية والعصبيات المافياوية والعنصرية الكامنة والمعلنة وهذه طبيعتنا وهذا هو الطبيعي عندنا.
حزب التحرير تكفيري لكن كل حزب ديني او طائفي تكفيري في الاصل لا تؤمن الأديان والطوائف ببعضها فلماذا النفاق في أمر كهذا. ولماذا تكون هذه وصمة حزب وحده ما دامت وصمة الجميع. ربما لأنه الأضعف، ربما لأن المعركة معه لا تكلف شيئاً، يمكن رمي عار الجميع عليه. هكذا يمكن للجميع ان يكرهوا بعضهم بأمان ما دام الشرير المسكين الوحيد بات في الجحيم.
يتكلمون عن حظر حزب التحرير ببراءة، سيجدون تأييداً، بالناقص حزب ديني او طائفي. البعض يظنون ان هذا ولو نظرياً سيكون مثلا صحيحاً، لكن لا. حظر حزب من أي نوع كان خطوة نحو الاستبداد. حظر حزب بسبب أفكاره لا سلوكه خطوة بالتأكيد نحو الاستبداد. التفتيش على الافكار من أي نوع خطوة نحو الاستبداد. انه حزب ضعيف لذا لن تكون هذه سوى بروفا لحظر أفكار بحالها لتحويل الفكر الى جريمة. من يقبلون بحظر حزب بسبب أفكاره سيكون الدور عليهم، فالاستبداد أيضاً بفكر وللاستبداد دائماً حججه.
السفير الثقافي