هل حدد الكتاب حدود الحجاب
مصطفى السراج
شدّت ابنتي حجابها حول رأسها بقوة وسرعه، لتلحق بدروسها في جامعة تورونتو، سألتها لماذا تشدين حجابك الى هذا الحد؟ قالت حتى لايتزحزح عن مكانه. قلت وان تزحزح قليلاً عن الحدود التي رسمها. قالت حرام. هزتني شدة الكلمه، وتوقفت عن الاسترسال بالنقاش حتى أتحرى مدى دقة مايتعلمه بنات المسلمين من المفتين في كندا.
لعل من المفيد سرد الايات التي يُستدل بها على حجاب المرأه وحدوده.
الآيه 31 من سورة النور: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن الا ماظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن أو أبائهن…) الى آخر الآيه.
الآيه 59 من سورة الأحزاب: (يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيما ).
وهناك آيتان خاصتان بنساء النبي، الأيه 33 من سورة الأحزاب: (..وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهليه الأولى…) الى آخر الآيه. والآيه 53 من سورة الأحزاب: (… واذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب…)
جميع هذه الآيات لاتحتوي حدوداً محدده للحجاب مقارنة مع ماجاء في آية الوضوء الآيه 6 من سورة المائده: ( يأيها الذين آمنوا اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين…). لقد رسمت هذه الآيه خطوطاً دقيقة على الجسم البشري لايخطئها من وعى. الأيادي الى المرافق.. الأرجل الى الكعبين..
هل حدود الوضوء أهم من حدود الحجاب حتى تحدد بهذه الدقه بالأولى وتترك بالثانيه؟.. يأتي الجواب ضمن الأيه من سورة المائده: ( … فلم تجدوا ماءً فتيمموا..) فهل يرتقي أهميةً مايصح استبداله الى مالابديل عنه وهو الحجاب، وهل يرتقي ماذُكر في آية واحده الى ماذكر في عدة آيات وسور. يأتي الجواب على ذلك مما حصل من اختلاف الفقهاء حول الحدود الدقيقه لحجاب المرأه قياساً واجتهاداً آخذين بعين الاعتبار اختلاف أعراف المسلمين باختلاف أمكنتهم وأزمنتهم.
من ذلك يُستدل على أن عدم تحديد حدود حجاب المرأه بالدقة نفسها لحدود الوضوء لا تقليلاً من أهمية الحجاب بل لما سبق به علمه جل وعلا من اختلاف العادات والتقاليد والطبائع البشريه باختلاف الزمان والمكان، وهذا ماكان من تفاوت العلماء في تحديد مايستره وما يكشفه حجاب المرأه ضمن حدود عامة سعياً لاتمام مكارم الاخلاق وبٌعداً عما يفضي الى انتشار الفاحشة في كل قوم وعصر.
ورد في تفسير ابن كثير ج3 ص 244 {في قوله تعالى ( ولايبدين زينتهن الا ماظهر منها) أي لايظهرن شيئاً من الزينه للأجانب – غير رجال الأسره من المحارم – الا مالايمكن اخفاؤه: قال ابن مسعود كالرداء والثياب من المِقنَعَه – ماتغطي المرأة رأسها به وهو أصغر من القناع – التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه لأن هذا لايمكنها اخفاؤه ونظيره في زي النساء وما يظهر من ازارها وما لايمكن اخفاؤه}.
لنرى ما جاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي الجزء الثاني عشر صفحه 228 {في تفسير الآيه 31 من سورة النور: (… ولايبدين زينتهن الا ماظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن أو آبائهن…) أمر الله سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين، الا مااستثناه من الناظرين في باقي الآيه حذاراً من الافتتان، ثم استثنى مايظهر من الزينه “لكل الناظرين” واختلف الناس في قدر ذلك، فقال ابن مسعود ظاهر الزينه هو الثياب. وزاد ابن جبير الوجه، وقال سعيد بن جبير أيضاً وعطاء والأوزاعي: الوجه والكفان والثياب. وقال ابن عباس وقتاده والمسور بن مخرمه: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب الى نصف الذراع والقرطة “الحلق” والفتخ “الخاتم”، ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس}.
ثم أورد القرطبي في الصفحة 230 في تفسير (وليضربن بخٌمرهن على جيوبهن) {وسبب هذه الآيه أن النساء كن في ذلك الزمان اذا غطين رؤوسهن بالاخمره فيبقى النحر والعنق والاذنان لاستر على ذلك، فأمر الله تعالى بلَيّ – ثني – الخمار على الجيوب وهيئة ذلك أن تضرب المرأة بخمارها على جيبها لتستر صدرها، وقال مقاتل: على جيوبهن أي على صدورهن يعني على مواضع جيوبهن، وأيده بحديث لأبي هريره يؤكد أن الجيب هو موضع الصدر}.
وذكر القرطبي في الجزء الرابع عشر صفحه 243 في تفسير الآيه 59 من سورة الاحزاب:{ ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيما) أمر الله رسوله “ص” أن يأمرهن بارخاء الجلابيب عليهن اذا أردن الخروج الى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف “المراحيض” فيقع الفرق بينهن وبين الاماء، فتعرف الحرائر بسترهن فيكف عن معارضتهن من كان عزباً أوشاباً، وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الايه تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار يظن أنها أمه – جاريه – فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك للنبي “ص” ونزلت الآيه بسبب ذلك}.
ورد في تفسير ابن كثير ج 3 ص 442 {الآيه ( يدنين عليهن من جلابيبهن…) قال علي بن أبي طلحه عن ابن عباس أمر الله نساء المؤمنين اذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحده، وقال محمد بن سيرين سألت عبيدة السلماني عن قوله عز وجل (يدنين عليهن من جلابيبهن) فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى وقال عكرمه تغطي ثمرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها}.
أورد الدكتور وهبه الزحيلي في كتابه الفقه الاسلامي وأدلته ج 3 ص 562 {في باب نظر الرجل للمرأه:
والمنع من النظر، لا لأن الستر واجب عليهن في ذاته، بل لأن فيه مصلحة عامه. فقد حكى القاضي عياض عن العلماء أنه لايجب على المرأة ستر وجهها في طريقها، وانما ذلك سنه، وعلى الرجال غض البصر عنهن للآيه.
وحرم الحنابله أيضاً نظر الرجل الى الأجنبيه – المرأه من غير نساء الأسره من المحارم – جميعها من غير سبب، وعلى هذا فان بدن الحره كله عوره عند الشافعيه والحنابله. أما عند الحنفيه والمالكيه فليس الوجه والكفان بعوره. وروى عن أبي حنيفة أن القدمين ليستا من العوره. وأباح بعض الحنابله النظر الى الوجه والكفين مع الكراهه، اذا أمن الفتنه ونظر لغير شهوه.} انتهى الاقتباس من د. وهبه.
يلاحظ من استعراض ماذكر من اختلاف في وجهات نظر الفقهاء في رسم حدود الحجاب وذلك في بيئات متقاربة زماناً ومكاناً. وأغلب الفقهاء يجتهدون رأيهم في ما يستره الحجاب وما يكشفه بناءً على ماتعنيه الحشمه في مجتمعاتهم وبيئاتهم وأعرافهم. فاذا حصل مثل هذا في الماضي البعيد فما بالك بعد تتالي القرون واختلاف البيئات على سعة العالم. ونسبة ما كان يعتبر تبرجاً في الماضي نسبة الى مافي الحاضر. ولو كان فقهاء اليوم على مستوى فقهاء القرون الأولى للاسلام من ابداء الرأي اعتماداً على الحكمة والعلم فيما لم يحدده الكتاب تاركاً لأصحاب الاجتهاد في كل زمان ومكان تحديده واستنسابه، لرأيت وسمعت اجتهادات مختلفه زماناً ومكاناً وأعرافاً. ومانجده اليوم ممن أجبرتهم قلة علاماتهم بالشهادة الثانويه على دراسة الشريعه الاسلاميه ثم استنساخ الفقه من أقوال الأقدمين بدون تفكر في الواقع، فيه مخالفة لما أكد وحض عليه القرآن في آيات كثيره على التفكر والتبصر
(.. كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) الآيه 219 سورة البقره.
( وما أرسلنا من قبلك الا رجالاً نوحي اليهم فاسألو أهل الذكر ان كنتم لاتعلمون. بالبينات والزبر وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون) الآيتين 43 و 44 من سورة النحل.
( وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) الآيه 21 من سورة الحشر.
( انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) الآيه 65 من سورة الأنعام.
المطلوب اليوم وجود فقهاء عرفوا علوم العصر كمعرفتهم بشؤون الشريعه، والامام أبي حنيفة النعمان مثلاً تاريخياً على الجمع بين فهم العلوم البشرية في عصره واستيعاب علوم الدين، حيث تميزت فتاواه بالقرب من العقل والمنطق والتحضر في عصره. وحيث أن علوم العصر اليوم أوسع من أن يحيط بها فرد مهما اجتهد، وأكثر استحالة أن يجمع معها الفهم الكامل لعلوم الدين، لذا وجب وجود هيئات للافتاء الاسلامي تجمع العارفين بالعلوم البشريه في موضوع البحث مع الحكماء في فهم الاسلام الذين يخافون الله ولا يخافون من تهم المتشددين لهم بالتراخي، ولايداهنون أصحاب الأهواء من بعض حكام المسلمين وأسيادهم. تُعنى هذه الهيئات باستنباط احكام الشريعة الاسلامية فيما يستجد وفيما يجب أن يعاد النظر فيه من الاحكام المستنسبه من قبل الفقهاء الأقدمين لبيئاتهم. وتقوم في كل بقعةٍ جغرافية من هذا العالم هيئه للافتاء فيما ينفع المسلمين في عاجل امورهم وآجلها.
الى أن يتحقق ذلك فانه يسعنا تطبيق الآيه 199 من سورة الأعراف: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين). والعرف والمعروف ماتعارف عليه الناس من أخلاق وأفعال. وقد شرحها القرطبي في الجامع لأحكام القرآن في الجزء السابع بقوله { العرف والمعروف كل خصلة حسنه ترتضيها العقول، وتطمئن اليها النفوس} صفحه 346 وفي صفحه 344 {وفي قوله واعرض عن الجاهلين بالحض على التعلق بالعلم، والاعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهله الأغبياء، وغير ذلك من الاخلاق الحميده والافعال الرشيده}. وأورد ابن كثير في تفسيره الجزء الثاني صفحه 241 ومن عدة احاديث وروايات {خذ العفو من اخلاق الناس وأعمالهم} وأوضح هذه الروايات {رواية سعيد بن منصور عن أبي معاويه عن هشام عن وهب بن كيسان عن أبي الزبير خذ العفو قال من أخلاق الناس والله لأخذنه منهم ماصحبتهم وهذا أشهر الأقوال}. انتهى ما أورده ابن كثير
خاص – صفحات سورية –