النظام السياسي السوري والعلمانية والنقاب
حسين العودات
ما أن قرر وزير التربية السوري نقل (1200) مدرّسة منقبة من المدارس إلى دوائر الدولة الأخرى، وقرر وزير التعليم العالي عدم دخول المنقبات إلى الحرم الجامعي، حتى بدأت وسائل الإعلام العربية، وأوساط الرأي العام العربي تشير إلى أن النظام السياسي في سورية نظام علماني، وأخذت التعليقات والآراء تتمحور حول هذا الأمر، حتى أن بعض أهل النظام السوري بدورهم تذكروا أن نظامهم علماني.
الملاحظ من خلال الآراء والحوارات والأخبار التي قيلت او كتبت حول هذا الموضوع أن معظم أصحابها يفهمون العلمانية على أنها لاتتجاوز أمرفصل الدين عن الدولة، بل أن بعضهم اعتبرها أمراً ذاتياً وشخصياً وليس مجتمعياً وسياسياً واقتصادياً شاملاً كما هو بالفعل، وقد قسم هذا البعض الناس إلى قسمين إما (مؤمن غير علماني) وإما ( علماني ملحد)، وهكذا جردوا العلمانية من مفهومها الحقيقي الواسع الكامل المتكامل ، بما هي موقف من الكون والحياة، ومن السياسة والاقتصاد، ومن الفرد والحرية والديموقراطية والدولة الحديثة ومفاهيمها ومكوناتها وغير ذلك، وهذا التجريد أتاح للبعض القول بعلمانية النظام السياسي السوري وللبعض الآخر القول بتكفيره، والكل ينطلق من فهم أعوج وأعرج للعلمانية درج المثقفون على الثرثرة فيه منذ قرنين وإفراغه من أي محتوى.
يقول المفكرون والفلاسفة أن مفهوم العلمانية يتناول دور الفرد وتحريره من أية سلطة أخرى ، وهيمنته على الطبيعة ، واستخدامه للعقل والعقلانية لتشكيل وعيه وتلمس معارفه وتقرير مصير مجتمعه، كما يتناول الدولة وتكوينها ووظائفها وهيكليتها ومفاهيمها (المواطنة كمرجعية وحيدة، المساواة، الحرية، الديموقراطية، التعددية، فصل السلطات..) وتتظافر مع العقلانية والديموقراطية كشروط لأداء مهماتها، وتستبدل بمفاهيم الحلال والحرام مقتضيات القانون والنظام، وقد ظهرت في الغرب كفلسفة للديموقراطية والعقلانية والتحديث السياسي الذي يتيح لجميع المواطنين حقوقاً متساوية، وهي حركة اجتماعية تنشأ في المجتمع متأثرة بظروف التطور القائمة مستجيبة لمعطياتها، وتعني جملة من التحولات التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية، وفي الحالات كلها لا تعني العلمانية القضاء على الدين وإنما تؤكد على حيادية الدولة تجاه العقائد الدينية وضمان حرية الأفراد في اعتناق دينهم ، وحمايتهم وإتاحة الفرصة لهم لممارسة عباداتهم، لكنها تحيّد السلطة الدينية عن السلطة السياسية، وتكف يدها عنها، كما تكف يد السلطة السياسية أيضاً عن استغلال الدين وتوظيفه لخدمة النظام السياسي أو القائد السياسي. ولعله من ضيق الأفق والجهل أو الخبث حصر مسألة العلمانية بفصل الدين عن الدولة.
لو اخذنا هذا المفهوم الأخير للعلمانية وطبقناه على سورية لاكتشفنا أن النظام السياسي السوري لا يفصل الدين عن الدولة، فالدستور السوري ينص على أن الإسلام هو دين رئيس الدولة، وأن الإسلام مصدر من مصادر التشريع (كيف يكون النظام علمانياً ومصادره دينية؟) وقانون الأحوال الشخصية السوري مازال كما صاغه الفقهاء منذ مئات السنين، سواء ما يتعلق بالزواج أم الطلاق أم الإرث أم الوصاية أم التنقل أم ولاية المراة على نفسها..الخ، وعندما حاولت الحكومة السورية تعديله في مطلع هذا العام، شكلت لجنة من المحافظين والمتعصبين قدمت مشروعاً بديلاً هو خطوة للوراء، فثارت ثائرة المنظمات النسائية ومنظمات المجتمع المدني مما اضطر الحكومة إلى تأجيل إجراءات صدوره. وقد بُني في سورية من المساجد في الأربعين عاماً الماضية أكثر مما بني فيها خلال تاريخها كله، منذ قدوم الإسلام حتى قيام نظام حزب البعث (كما قال الرئيس الراحل حافظ الأسد في إحدى خطاباته)، وهناك أمثلة مشابهة عديدة في الحياة السورية.
منعت السلطات السورية قبل أربعة أشهر عقد ندوة عن العلمانية كانت ستعقد قي قاعة مغلقة في جامعة دمشق لا يتجاوز عدد المدعوين إليها مائة شخص، بينما سمحت قبل أسبوعين لأحد الدعاة إلقاء محاضرة في مدينة حلب حضرها ستة آلاف شخص، وهي نفسها تسمح لداعية آخر(وهو محافظ وأصولي ومتعصب لسوء الحظ) بأن يلقي عظة أسبوعية لمدة ساعة من تلفزيون دمشق( القناة الرئيسية) وتمنع ذلك على التقدميين والديموقراطيين ، وتحتل البرامج الدينية في وسائل الإعلام السورية المسموعة والمرئية نسبة لاتقل عن مثيلاتها في الدول العربية المحافظة الأخرى (باستثناء بعض دول الخليج) بل وتزيد على ذلك، وقد أصدر وزير الإعلام السوري قبل شهرين قراراً يتضمن ضرورة موافقة وزارة الأوقاف على المواد التي تتناول شأناً ذي شبهة دينية في أي عمل تلفزيوني، حتى أن مسلسلاً عن أبي خليل القباني المسرحي الشهير، يحتوي على مقابلة (شكلية) له مع السلطان عبد الحميد ألزم منتجوه بعرضه على وزارة الأوقاف لأخذ موافقتها، كما منعت هذه الوزارة على شركة أرادت تصوير مقابلات من ثلاثين حلقة مع الكاتب الإسلامي المتنور محمد شحرور أن تكمل عملها، مع أن مضمونالحلقات لا يخرج عن مضمون كتبه المتداولة في الأسواق، وأن هذا العمل لم يكن لصالح وسيلة إعلام سورية يمكن أن تتهم الحكومة بالكفر جراء بثه.
والأمر نفسه في الصحافة والرقابة على الكتب، فالأولى ترفض نشر أي مادة تتعلق بمناقشة الخطاب الديني أو نقد التراث أو حتى رفض تقديسه ، والثانية تمنع طبع أو استيراد أو تداول أي كتاب يتعرض لمثل هذه الأمور. ومادام الأمر كذلك فأين العلمانية إذن؟.
يمكن القول أن النظام السياسي السوري يتجه نحو العلمانية عندما يبدأ بتجفيف منابع الفكر المتعصب والممارسات الدينية الأصولية الخارجة عن صحيح الدين ومنعها من التدخل في شؤون الدولة، وإذا لم يحصل ذلك ستبقى هذه الإجراءات كتابة على الرمال، ومظاهر جزئية (تبدو علمانية) ولكنها في حقيقتها ليست سوى ردود فعل أو مؤشرغضب أو ريبة لن تعطي نتائجها المرغوبة .
– الأهالي المصرية