شعوب عميلة وحكام وطنيون !!
حسين العودات
طالما سمعنا حكاماً عرباً عديدين، يتهمون أفراداً من مواطنيهم معارضين لحكمهم، أو تيارات سياسية منشقة، أو أحزاباً أو تكتلات مناوئة لنظامهم السياسي، بأنهم عملاء للخارج ، ويؤكدون أن الأفراد أو التيارات السياسية أو الأحزاب المتهمة، اتصلت بهذا الخارج، وتلقت منه أموالاً ومساعدات وتعليمات،
وأصبحت تأتمر بأمره وتنفذ رغباته في الكيد للنظام، والتآمر عليه، ولم يحصل في معظم البلدان العربية، منذ استقلال هذه البلدان حتى الآن، أن حادت تهم النظام للمعارضة عن هذه التهم (التآمر، العمالة …)، مع أن المعارضة العربية، وخاصة في البلدان التي تحكمها الأنظمة الشمولية، هي أكثر حذراً وعداء للغرب من الأنظمة نفسها التي غالباً ما تقيم علاقات سرية مع هذا الغرب. وترفض هذه الأنظمة عادة الاعتراف بأن المعارضة (أفراداً وتيارات وأحزاباً) إنما تتبنى آراء ومفاهيم (سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية) هدفها حل مشاكل المجتمع وصعوباته وتطويره وتحسين مستوى حياة الناس، وتناضل لبناء دولة حديثة بكامل مفاهيمها المعروفة، دولة الحرية والديموقراطية والعدل والمساواة والتكافؤ وتداول السلطة وفصل السلطات، فضلاً عن مكافحة الفساد والاستبداد. ولا يوجد في هذه الأفكار والمفاهيم أية شبهة لا لعمالة ولا لتآمر، لكن أهل النظام مهووسون غالباً بالاعتقاد بوجود مؤامرة، ولا يصدقون أن لدى قوى المعارضة مشاعر وطنية تدفعهم لطرح برامج والدفاع عنها والنضال في سبيلها، وأنهم يحبون وطنهم، وهم على استعداد للتضحية في سبيل حمايته وتقدمه، وأن معارضتهم أساساً إنما هي من منطلقات وطنية، وليست سعياً وراء المكاسب، ولذلك يعّرضون أنفسهم للسجن والإهانة وقطع الأرزاق والمنع من السفر وغيرها، من أجل تحقيق أهدافهم دون حمد ولا شكر، لافي الحاضر ولا في المستقبل، ومهما كانت المكاسب الموهومة والمزعومة هذه ، إن وجدت ،فهي لا تستحق، على أية حال، التعرض للسجن والنفي والقتل أحياناً من أجلها، ومع ذلك يستمر الحاكمون باتهام النخب والتيارات السياسية بل ومعظم شعوبهم بالعمالة ومد اليد للأجنبي، ويطبقون المثل العربي الشهير (عنزة ولو طارت)، ويجردون أفراد المعارضة، أو المحتجين والناشطين، من حسهم الوطني ومواقفهم الوطنية. ويدخلون الآراء الأيديولوجية والسياسية في بازار القبض والدفع، ويضعون القضايا الوطنية في إطار الربح والخسارة.
لا تأتي هذه الاتهامات بسبب خوف الحكام من قوى المعارضة وخشيتهم من انهيار سلطتهم فحسب، بل تشكل في الواقع ثقافة مستقرة ، وجزءاً من المنظومة القانونية والأخلاقية والاجتماعية التي أسستها الأنظمة الشمولية، وأرست قواعدها، وأدخلتها في وعي الناس، وجعلتها جزءاً من سلم القيم الذي أسسته، ذلك أنها تستند أساساً إلى قناعة لدى أهل النظام بأنهم يملكون البلد ولا يحكمونه فقط، ولذلك يتصرفون به كملكية خاصة، فلا يطبقون القانون ولا يحترمون التقاليد، ويستبيحون المال العام، ويصادرون النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أو يحتكرونها هم وأتباعهم، ومع الزمن تستقر في أذهانهم وفي (وعيهم وقناعتهم) أن البلاد لهم وحدهم، ويستغربون مواقف قوى المعارضة، أو القوى ذات الرأي المخالف التي لا ترى هذا الرأي، ويرون أن هذه القوى لا هدف لها سوى سلب السلطة منهم ومشاركتهم في الامتيازات (والانتهاكات) ولا يتصورون أن لدى الآخرين هموماً وطنية، ويؤمنون أن لا هم للمعارضة سوى مشاركتهم في الحكم أو في الامتيازات، لذلك يعتقدون أنها تسعى بكل السبل لتحقيق تغيير النظام أوإسقاطه ، حتى لو كانت الوسيلة هي التعاون مع الأجنبي والتواطؤ معه ضد النظام، وبالإجمال يصعب على أهل النظام، الذين يتصرفون على أساس أن البلاد والعباد ملكهم، أن يصدقوا أحداً يدافع عن هذه البلاد ويعمل لخيرها دون انتظار مغانم قائمة أو محتملة، كما يرون ان معارضة ممارساتهم إنما هي معارضة للوطن، لأنهم لا يرون هذا الوطن إلا وقد تماهى معهم، فهم وهو شيء واحد ( حل بهم وحلوا به) ولذلك فمعارضتهم هي معارضة له، وخدمة لأعدائه، وبالتالي فتهمهم هذه بديهية وصحيحة ولا يتدناها الشك، ولهذا يطلقونها دون عناء ولا حذر وبراحة ضمير، وقد بلغت النرجسية بهؤلاء الحكام كل مبلغ، حتى أصبحت مرضاً خطيراً أصابهم، وجعلهم لا يرون ولا يسمعون ولا يعرفون واقع بلادهم وشعوبهم.
لقد أصبحت قناعة بعض الحكام بأنهم يملكون الوطن وأهله، مثل ملكيتهم لمزارعهم جزءاً من المنظومة الأخلاقية وسلم قيم النظام وثقافته، وانتقلت بدورها إلى الكوادر العليا في الدولة، ونلاحظ في الأنظمة الشمولية ، أن كبار الموظفين والمديرين يتصرفون بدورهم على أنهم يملكون المؤسسات والإدارات التي يتولون إدارتها ، ويفرضون أعمال السخرة على العاملين فيها، ويجبرونهم على العمل المجاني في بيوتهم أو مزارعهم، كما يستخدمون آليات، وممتلكات، وأدوات المؤسسة وكأنها بالفعل مؤستهم الخاصة، وليست مؤسسة الدولة أو الشعب، فقد تداخلت في وعيهم الدولة مع الحكومة ، وبالتالي استولت حكومتهم على الدولة، ولم يعد للشعب لا دولة ولا حكومة.
إن شعور أهل النظام وقادته وكبار موظفيه وممارساتهم على هذا النحو يلغي مفهوم الدولة الحديثة برمته ، ويعيد المجتمع إلى تقاليد عصر الإقطاع ، حيث كان من البديهي استباحة الناس وأموالهم ، وحيث كانت الإقطاعة كلها ملكاً لحاكمها . وما دام ذلك كذلك ، فليس من المستغرب أن يرفضوا تداول السلطة أو التخلي عنها، وهل يتخلى أحد عن سلطته للعملاء؟!.
البيان