معارضون آخرون ومسألة النقاب
جورج كتن
يرى معارضون أن مسالة النقاب ليس لها أهمية في المجتمع السوري وربما إثارتها مقصودة لصرف الانظار عن مسائل أكثر جوهرية، وهم بذلك يتجاهلون، أو يفوتهم ملاحظة، ما تشكله من أهمية كرمز دال على مدى انتشار التشدد الديني والسلفية في المنطقة ووصولها إلى سوريا التي تجنبت نسبياً الموجة الظلامية.
يعود انتشار هذه الظاهرة المتفشية في المنطقة حالياً لأسباب تحدثنا عنها في مقالنا السابق*، نضيف إليها دور النظام الذي أصدر قرار منع النقاب في المدارس والجامعات كتصرف مغاير لأول مرة لما هو سائد من تمكين للتيار الدعوي الإسلامي غير الإخواني من النمو والانتشار في جميع زوايا المجتمع، على اساس أن نشاطه ديني لا يتعلق بالامور السياسية، وقد جرى التسامح معه على أساس إعتداله ووسطيته كما يصف نفسه ..
لكن الإسلام السياسي عادة يتخفى خلف النشاط الديني في مرحلة التمسكن السابقة لمرحلة التمكن. والمثال الواضح للمرحلتين نشاط إخوان غزة الدعوي التعليمي الخدمي في القطاع لعشرين عاماً منذ احتلاله في العام 1967 حتى إنشاء حركة حماس أواخر الثمانينيات، بعيداً عن السياسة وحرب المقاومة المسلحة المشتعلة التي خاضتها في تلك الفترة فتح ومنظمات فلسطينية أخرى، حتى أن سلطات الاحتلال كانت راضية عنهم، إلى أن جائت مرحلة التمكن فانتقلت حماس لحمل السلاح واتهام المنظمات بخيانة القضية ثم الانقلاب على السلطة والسيطرة على القطاع ووقف المقاومة.
في حين سمح النظام بالنشاط الواسع للإسلاميين، فقد ضيق الخناق على الليبراليين واليساريين والقوميين الديمقراطيين ومنع حراكهم لإحياء المجتمع المدني، الوحيد المؤهل لمواجهة التطرف الديني وإعادته لحجمه الطبيعي. وقد أغلق منتدياتهم ومنع محاضراتهم واعتقل نشطائهم، وآخر إجراءاته منع مؤتمر العلمانية الذي كان مقرراً إقامته في دمشق. تغييب المجتمع المدني بأشكاله العلمانية عن الفعل هو لصالح انتشار مجتمع أخر ساحته الاساسية الجوامع والمدارس الخاصة التي تديرها جمعيات دينية مرخصة ظاهرها ديني بريء وباطنها اشاعة اسلوب حياة متخلف، النقاب احد أوجهه، كمقدمة للتمكين السلفي في المجتمع.
لأول مرة نسمع تذكيراً من وزير بان سوريا علمانية، علماً بان مواصفات العلمانية المعروفة لا تنطبق على ما يجري، فالدولة العلمانية لا تعتمد شريعة دينية كمصدر رئيسي للتشريع، فالتشريع العلماني وضعي ولا علاقة له بالدين.. والدولة العلمانية تعتمد قانوناً مدنيا للاحوال الشخصية يراعي التوافق مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهود الدولية المتممة ويساوي بين مواطنيها من أية طائفة او دين.. الدولة العلمانية لا تدرس مادة الديانة في مدارسها الرسمية ولا تشترط ديناً ما لرئيس جمهوريتها.. وغيره مما لا يتسع المجال له هنا، فمنع النقاب خطوة في رحلة الالف ميل للوصول إلى علمانية حقيقية.
هناك فهم آخر لعلمانية الدولة وهو ما جاء في مقال لقيادي بارز في جماعة الإخوان السورية والناطق الرسمي بإسمهم في مقال انتقد فيه قرار منع “الحجاب”!! -وليس النقاب- في مدارس وجامعات سوريا واعتبره عدواناً على المواطنات السوريات “الحرائر.. المحصنات.. العفيفات..الغضيضات.. الملتزمات.. المستضعفات.. القانتات.. الطاهرات..”!! حسب تعبيره، في “بلد المآذن والقرآن”!! والقرار برأيه يأتي “تحت عنوان التأكيد على علمانية الدولة، بمفهوم لها هو جوهر المشروع الصهيو- أميركي في منطقتنا.. ينقلب على الإسلام ويحاصر رجاله ونسائه كما حوصرت المسلمة في غزة.. إقصاء وتجويع وحرمان.. على خلفية عقيدتهم الدينية.. “!!
مثل هذا التصريح الرسمي للجماعة يحوي مغالطات عديدة، أولها الحديث عن قرار بمنع الحجاب فيما هو محدد وواضح منعاً للنقاب. الناطق الرسمي مضطر لهذه المغالطة الصريحة لأن انتشار النقاب في سوريا محدود ولا يكفي وحده كمادة للتهييج، وهو لا يمكن اعتباره التزاماً إسلامياً مثل الحجاب، فغالبية العلماء ومنهم الشيخ القرضاوي المقرب من الإخوان، قالوا عن النقاب أن لا علاقة له بالعقيدة التي لا تفرض تغطية وجه ويدي المرأة. كما يغالط الناطق الرسمي في اعتبار القرار يستهدف “ال”مواطنات السوريات فيما هن “مواطنات” وبضع مئات. ويغالط في أن القرار جوعهن علماً بان المعلمات نقلوا إلى وظائف اخرى بنفس رواتبهن فلم يجوعهن أحد كما ادعى.
ومغالطة أخرى تصويره المنع على أنه ” انقلاب على الإسلام والمسلمين .. وتحد سافر لله ورسوله ولشريعته وكتابه..”، فالنقاب لم يمنع إلا في اماكن عامة محددة تتطلب لباساً محدداً، وهو ليس من صميم الدين ليكون انقلاباً عليه. هذا الاسلوب هو المتبع عادة من قبل الجماعة في مواجهة من يخالفها الرأي فتكفره على اساس ان تفسيراتها هي الدين الصحيح وما عداها من اجتهادات هو كفر وعدوان على الدين، وهذا ابتزاز من أسوأ الأنواع باسم النصوص الدينية.
أما اعتبار أن علمانية النظام هي جوهر المشروع الصهيو- أمريكي كما يقول، فيتناقض كلياً مع آخر ما صرح به المراقب العام للجماعة، البيانوني، من أن تعليق انشطة معارضة النظام “ما زال الموقف المعتمد للجماعة”، التي اوقفت معارضتها للسعي لمواقف موحدة مع النظام وحماس وحزب الله وإيران ضد المشروع الصهيو- أميركي، فهل انقلب النظام فجأة لتبني هذا المشروع؟ وإذا كان ذلك صحيحاً فلماذا تستمر مهادنة النظام؟. يقال عن الجماعة أنها براغماتية مرنة ولكن هذا التشقلب هو أقرب للعب على عدة حبال..
أما وصف الجماعة للعلمانية بأنها مشروع صهيوني اميركي فهو ليس مغالطة بل الموقف الحقيقي للجماعة منها، وهو الرأي السائد في أوساط تيار الإسلام السياسي، حتى أن الشيخ القرضاوي المقرب من الجماعة قال أن المسلم العلماني كافر يجب استتبابه وإلا يفرق عن زوجته.. رغم تناقض ذلك مع علاقات الجماعة الوثيقة مع حكومة أردوغان العلمانية التي لا تسعى لتطبيق الشريعة في تركيا، والتي وصفها الناطق الرسمي بانها أصبحت صاحبة قضية –فلسطين-، متجاهلاً أن تركيا لم تخرج من الحلف الاطلسي الذي يقود الحرب في افغانستان، وهي حرب تعتبرها الجماعة غزواً صهيونياً اميركياً.
ولكن أكبر المغالطات أن الناطق الرسمي يقول أن ” بنات الإسلام في سوريا يراودهن الظالمون..” لذلك يحرضهن على “الاستعانة بسهام الليل لانها لا تخطئ الظالمين..” كما يحرض علماء الشام على “القيام للإمام الظالم ونهيه وقتله..”. وفي مقال آخر على موقع الجماعة حرض أحدهم رجال الدين للغضب كما غضبوا قبل سنوات فدفعوا الغوغاء للقيام بحرق السفارة الدانماركية في دمشق. وهي دعوة للعنف والحرق والقتل مجدداً بما يتعارض مع ما سطرته الجماعة في برنامجها من رفضها للعنف وتبرأها من “تنظيم الطليعة المسلحة” الذي قام بأعمال إرهابية في الثمانينات، وادعائها أنه خرج عن الجماعة.
تبدو الجماعة متخبطة في سياساتها بين مهادنة النظام لمواجهة ما تسميه المشروع الصهيو- أميركي وبين معارضته واتهامه بتبني المشروع المذكور.. بين سوريا حديثة دبمقراطية كما جاء في برنامجها، وبين الرضوخ لتأويلات متخلفة للنصوص الدينية لم تعد ملائمة للعصر.. بين محاربة العلمانية كمشروع استعماري والإشادة بالنظام العلماني التركي.. وتناقضات اخرى.. ولكنها متأكدة من مسألة واحدة لاتشقلب فيها ولكن من أجلها، ضرورة عودة مهجريها للبلاد حتى لا تفوتهم فرصة ركوب موجة التطرف الديني الراهنة التي يأملون أن تكون عنصراً مهماً يمكٌن لهم من جديد في اوساط المجتمع.
* تجمع وطني ديمقراطي أم سلفي؟
خاص – صفحات سورية –