سلام الكواكبيصفحات العالم

في الدفاع عن الصحافة… ضد ساركوزي

سلام الكواكبي
في الأسابيع الأخيرة، ازداد تعرّض النموذج الديموقراطي الفرنسي لمجموعة من الخضّات التي جعلت المراقبين يحذّرون من الأخطار المحدقة بالديموقراطية في هذه الحقبة الساركوزية. وقد برز ذلك خصوصاً في ما يتعلق بالجدل القائم حول محاولات رئيس الجمهورية، مع من يحيط به من ساسة ومن متمولين، للسيطرة على أهم وسائل الإعلام الفرنسية المقروءة والمسموعة والمتلفزة. وقد بدأ نيكولا ساركوزي، الحامل نظرة برلسكونية في دور الإعلام، ومنذ وصوله إلى قصر الإليزيه عام 2007، بمحاولات حثيثة، نجح بعضها وفشل البعض الآخر، في وضع المحسوبين عليه وعلى تياره السياسي في المراكز الإعلامية المفصلية. وبدأت أولى هذه الممارسات بالمكرمة التي أدّاها لوزير خارجيته الإشتراكي “المتيمن” برنار كوشنير بأن أسند إلى زوجته الصحافية كريستين أوكرنت مسؤولية إدارة الإعلام الفرنسي الموجه للخارج وهو أداة سياسية فعّالة تضم “إذاعة فرنسا الدولية” و”إذاعة مونت كارلو الدولية” و”قناة تي في 5″ وآخر العنقود، “قناة فرنسا 24”. وقد برزت إنجازات أوكرنت من خلال عمليات “التطهير العقائدي” التي قامت بها في هذه المحطات وكان من أهم ضحاياها رئيس تحرير في إذاعة فرنسا الدولية، المقرّب من القضايا العربية ريشار لابيفيير والصحافية أنييس لوفالوا في “تلفزيون فرنسا 24” والتي كانت مسؤولة عن القسم العربي. إن ما قامت وتقوم به أوكرنت من عمل منهجي يصب أساساً في إطار سياسة رسمها الإليزيه مبدئياً، ولكنه يعتمد أيضاً على أسلوب المحاباة العالم ثالثي والذي برع الإشتراكيون المنتقلون إلى المعسكر اليميني في تطبيقه أكثر من اليمين ذاته في مختلف المراحل المعاصرة للجمهورية الخامسة.
وقد برز أيضاً دور أوكرنت في “أدلجة” الإعلام الخارجي بمحاولة، نجحت غالباً، في فرض نجوم التحليل السياسي المتعارف عليهم والمرضي عنهم عرباً وعجماً، والذين تُعرف محتويات مداخلاتهم حول مختلف الأمور حتى قبل استضافتهم، كما برنار هنري ليفي، صديق كوشنير وعائلته، وراكب الدبابة الإسرائيلية ليزور غزة إبان اجتياحها للتعرّف عن كثب على الدور الإنساني لـ”جيش الدفاع” في تدمير البنى التحية والمشافي وقتل المدنيين، والذي منح نفسه دور المدافع الشرس، بل الأشرس، عن السياسات الإسرائيلية المتطرفة حتى في وجه الإسرائيليين أنفسهم.
ومن مظاهر البرلسكونية الساركوزية المتنامية أيضاً وأيضاً، تعيين رئيس التلفزيون الرسمي من قبل القصر الرئاسي وهو ما لم يكن متعارفاً عليه سابقاً حيث كانت هذه العملية تتم من قبل المجلس السمعي والبصري، وكذلك، تعيين رئيس الإذاعة الفرنسية الرسمية من قبل “القصر” حيث قام فور مباشرته العمل بالبدء بعملية تطهير على شاكلة زميلته أوكرنت. وما يجمعهما هو القدوم من الأوساط اليسارية إلى أحضان اليمين وهذا مرض لعين يصيب الكثير من مثقفي فرنسا ويذكرنا بفئة لا بأس بها من بعض اليساريين العرب الذي إما “تنفّطوا”، من النفط، أو أنهم، “تلبرنوا”، من الليبرالية، دونما أن يمحوا أميتهم في مجال الاقتصاد الحر إلا من طريق التعرّف المباشر والمحسوس على المساعدات العينية والرواتب المغرية. أو أنهم أخيراً، اختاروا العودة إلى “الصراط المستقيم” وإطلاق اللحى وارتياد المجالس الدينية ليساهموا في تأصيل الوعي الغارق في سباته الطويل.
وبالعودة إلى الإعلام الفرنسي، حتى لا تسرقنا أوجاعنا العربية الكثيرة والمتشعبة من موضوعنا الفرنسي، وفي إطار التوجه الساركوزي التسلطي ذاته، جرت أيضاً محاولة السيطرة على أعرق اليوميات السياسية (الموند) من خلال دفع بعض المقربين من الرئيس الفرنسي لمحاولة شرائها فقام العاملون فيها، وهم مساهمون أيضاً في الملكية ولكن بنسب ضئيلة، بالتصويت ضد هذه العملية وقبول عرض متمولين بعيدين عن خط المحافظين الساركوزيين الجدد.
من جهة أخرى، فقد اقترح الرئيس ساركوزي ومستشاروه القانونيون إلغاء دور قاضي البداية الذي يعتبر من أساسيات النظام القضائي الفرنسي مؤشراً كبيراً على استقلاليته، وكانت الوزيرة السابقة رشيدة داتي عرّابة هذا القانون الكارثة، ولعلّ الحذر من شغب قضاة البداية وخصوصاً حول الأمور المتعلقة بالفساد وباستغلال المناصب هو الدافع الأول لمثل هذه المحاولة وليس السبب بالتأكيد ما تقدم به أصحابها على أنها رغبة في تخفيف الإجراءات القضائية. وقد برز دور قاضي البداية جلياّ في القضية المتفجرة حالياً في باريس والمتعلقة بضرائب مستحقة وغير مدفوعة لإحدى أكبر الثروات الفرنسية وكذلك إمكان وجود علاقة منفعة لصاحبة هذه الثروة مع أحد الوزراء الرئيسين في الحكومة الحالية. وقد اضطر المدعي العام، المقرّب من الرئيس، إلى الأخذ بطلب قاضية بداية في إحدى الدوائر القضائية وطلب فتح التحقيق الذي يظهر نتائج هائلة ويتدحرج ككرة الثلج في اتجاه من حاول تهميش دور القضاء. وكذلك ساهمت الصحافة الساخرة ذات الصدقية التي تكاد تكون الأولى في وسائل الإعلام الفرنسية ممثلة بأسبوعية “الكانار أونشينيه”، بتعرية الموضوع ومنح المواطن صورة شبه كاملة عما يجري في أروقة صنّاع القرار المالي والسياسي والمصلحي.
فالإعلام والقضاء استيقظا وبحزم ووقفا في وجه العبث المستحدث بالديموقراطية الفرنسية العريقة، ولم يعد بالإمكان أن يتم تجاوزهما في هذه المرحلة بالذات. ولم يمنع هذا الموقف ذو الصدقية بعض المتضررين من المسؤولين من القيام بشتم الصحافة وتسميتها بمختلف الألقاب غير اللائقة. وآخر العنقود في تعزيز الأمل بدور الإعلام الواعي مهما كثرت هناته، هو الحديث المتلفز الذي أجراه مذيع أخبار الثامنة في القناة الرسمية مع الرئيس ساركوزي واعتقد المراقبون بأن هذا الحديث سيمثل فرصة “متفقاً عليها” لتحسين صورة الرئيس الذي يفقد شعبيته بسرعة كبيرة. وبالنتيجة، فلقد كان المذيع هادئاً للغاية ولكنه طرح أسئلة قاسية ولم يستسغ بعض الأجوبة فأضاف تعليقات مرّة أثارت الرئيس الذي حاول الحفاظ على هدوئه المصطنع. لقد اتهم ساركوزي المذيع فيليب بوجاداس، بأنه يستخدم خطاب اليسار تارة، وبأنه لا يطرح الأسئلة التي تهم الفرنسيين تارة أخرى، ولم يساهم ذلك في زعزعة المذيع ومنعه من سؤال الرئيس حتى عن كيف أنه يسمح لنفسه في بلد ديموقراطي كفرنسا بتعيين مدير التلفزة الرسمية.
إن استمرار الإعلام الفرنسي وخصوصاً صحافته المكتوبة بممارسة دورها الرقيب والمُحاسب والمُسائل والمُشاكس يعتبر بحد ذاته أكبر دليل على أن الديموقراطية بخير، ولا سبب اساسياً للخوف عليها في المدى المنظور، وصناديق الاقتراع في 2012 ستكرم من احترم مستخدميها وستهين من ازدراهم أو خذل ثقتهم فيه.
وفي التعبير عن الخوف على الديموقراطية حتى في أعرق الديموقراطيات كفرنسا، كتب عبد الرحمن الكواكبي في طبائع الإستبداد منذ نيّف ومئة عام “أن الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشَّديدة والاحتساب اّلذي لا تسامح فيه، (…) كما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل الّنياشين وبناما ودريفوس”. وبالتالي، فالصحافة الفرنسية الحيّة والحرّة نسبياً هي أفضل أساليب الرقابة والاحتساب إلى جانب القضاء المستقل، ربما.

(استاذ جامعي مقيم في باريس)

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى