صفحات العالم

أزمة المسؤوليّة في الوطن العربيّ

null
أنيس مصطفى القاسم
أمّ الازمات
الوطن العربيّ يعاني أخطرَ أزمةٍ يمكن أيَّ وطنٍ أن يعانيَها، وهي أزمةُ المسؤوليّة. وهذه لا تقف عند حدود “المسؤولين،” بل تمتدّ لتشملَ المجتمعَ، والأسْرةَ، والمدرسةَ، والسلوكَ الفرديّ والمجتمعيّ، والتربيةَ والثقافةَ (أمدنيّةً كانت أمْ دينيّة)، والنشاطَ الفكريَّ والاجتماعيَّ بمدلوله العامّ. هذه الأزمة أوصلتنا إلى ما نحن فيه. وما لم تتمّ معالجتُها بجدّيةٍ ووعيٍ كامليْن، فإنّ القرن الحادي والعشرين سيكون أخطرَ على هذه الأمّة من القرن العشرين الذي شهد هبوطَها إلى مستوياتٍ غايةٍ في التدنّي بمعايير التقدم الإنسانيّ. وفي هذه الدراسة نبحث جانبًا واحدًا ملحّاً من جوانب هذه الأزمة، هو مسؤوليّة الزعماء العرب المباشرة عن الأوضاع العربيّة السيّئة.

انفرادٌ بالقرار وشخصنةٌ للدولة والنظام
لقد تعمّدنا الحديثَ عن الزعماء لا عن الدول ونُظم الحكم لأنّ هذه اختُزلتْ في معظم أرجاء الوطن العربيّ في شخص الحاكم، لا فرقَ بين دولةٍ ودولةٍ ونظامٍ ونظام. واذا استثنينا لبنان، الذي استطاع أبناؤه أن يطردوا “الجيشَ الذي لا يُقهر” من معظم الأراضي اللبنانيّة المحتلّة من دون أن يوقّع بلدُهم معاهدةَ صلحٍ أو اتفاقَ سلام، ولا أن يُشَوِّهَ سماءَه علمٌ إسرائيليّ، أو تدنِّسَ أرضَه أقدامُ سفيرٍ إسرائيليّ…، فإنّ الحاكم في باقي الدول العربيّة هو الذي يتّخذ ما يريد من قرارات، وهو الذي يُنسب إليه كلُّ فضلٍ وخير.وهذه الشخصنة قد تستمرّ حتى في أحلك اللحظات، كما حصل في العراق عندما سُمّي الفدائيون بـ “فدائيي صدّام” لا “فدائيي بغداد (أو العراق)” كي ينصهرَ الشعبُ كلُّه في مقاومةٍ واحدةٍ تواجه المحتلّ.

الحاكم عندنا هو وحده الملهَمُ والملهِم. أما الملايينُ من البشر، فلا ذكرٌ لهم ولا دور. والحاكم يتقبّل هذا ويُسَرّ به، وأحيانًا يصدّقه، بل يتقبّل أن يُنسبَ إليه ما يَعلم أنه لم يصدر ْعنه. ولذا شاع النفاقُ، وصار من أهمّ الأسلحة التي تقوِّض مفهومَ المسؤوليّة وممارستها.
والزعماء العرب مسؤولون لأنّ السياساتِ التي تُرسم، والقراراتِ التي تُتَّخَذ، هي سياساتُهم وقراراتُهم. فالواقع أنّ لدينا رؤساء، لا حكومات. وكثيرًا ما يكون هؤلاء الرؤساءُ فاقدي الشرعيّة، ومع ذلك فهم باقون، يَدْعم بعضُهم عدمَ شرعيّة البعض الآخر… ويقرّرون.
ومسؤوليّة الزعماء المعاصرين مضاعفة لأنّ غالبيّتهم الساحقة قد أمضت في كرسيّ القيادة زمنًا يكفي لمعالجةِ ما ورثوه من أوضاع، والانتقالِ بالأمّة إلى مرحلةٍ أفضلَ لو أرادوا. غير أنهم فضّلوا الاستمرارَ على ما كانت عليه الأمور، بل زادوا من عندهم وبالاً على وبال، وإنِ ادّعوا أنهم تمرّدوا على الأوضاع البائدة. ولهذا فإنّ الأمة العربيّة هي الأمّةُ الوحيدةُ في العالم التي تبدأ القرنَ الحادي والعشرين وهي، نسبيّاً، أسوأ حالاً وأضعفُ مما كانت عليه في منتصف القرن العشرين.

حصانةٌ من المساءلة
وخلافًا للقاعدة التي تقول إنّ المحاسبة تُلازِم المسؤوليّة، فإنّ الحاكم العربيّ يرفض أن يحاسبَه أحدٌ، ولا يجرؤ أحدٌ على محاسبته أصلاً، ولا تُخضعه أيّةُ نصوصٍ دستوريّةٍ أو عرفيّةٍ للمساءلة عمّا يَفعل. ولقد قال وزيرُ أوقاف عن السادات تكريمًا له: “أنتَ لا تُسأل عمّا تفعل،” فلم يعترض الرئيسُ المؤمن على ذلك. ولذا فإنّ النظام العربيّ، الذي فيه مجالسُ نيابيّةٌ ومجالسُ شورى، يمتاز بين باقي الأنظمة بأنّ الشخص الذي يتّخذ كلَّ القرارات الخطيرة (والصغيرة إذا شاء) لا تجري مساءلتُه عنها مهما كانت نتائجُها، لأنّ جميعَ الدساتير العربيّة تنصّ على أنّ رئيسَ الدولة مصون. والغريب أن يوجد نصٌّ كهذا في دساتيرَ تعلِن أنّ الاسلامَ دينُ الدولة الرسميّ، وأنّ الشريعةَ الإسلاميّةَ هي مصدرٌ رئيسٌ (أو المصدرُ الرئيسُ) للتشريع، في حين أنْ لا الاسلام ولا الشريعة يعترفان بحصانة الحاكم من المساءلة!
ويزداد الوضعُ سوءًا مع اننشار ظاهرة محاولة الانفراد بالحكم مدى الحياة، وانقراضِ ظاهرة تداول السلطة، وإساءةِ ممارسةِ المسؤوليّاتِ الدستوريّة والقانونيّة لتحقيق ذلك؛ وكلُّها أمورٌ أفقدت القيمَ الدستوريّة والقانونيّة ذلك الاحترامَ الذي يُؤَمِّنُ تماسكَ المجتمع وانضباطَه في إطار مفاهيمَ ومعاييرَ كانت محلَّ احترامٍ والتزامٍ من جميع شرائح المجتمع. ونتيجةً للاستخفاف بهذه القيم أصبح من أيسر الميسورات تعديلُ الدساتير، بل الذهابُ إلى “الاستفتاء الشعبيّ” بطرقٍ ملتويةٍ لتحقيق أغراضٍ شخصيّةٍ أو لتجنّب رفض الجماهير لسياساتٍ معيّنة، مثل “الاستفتاء” الذي أجراه السادات على معاهدة السلام مع إسرائيل، و”الاستفتاء” الذي يُعدّون له لخديعة الشعب الفلسطينيّ.

آثار التسلّط وانعدام المحاسبة
هذه الاستهانة بالقيم الدستوريّة والقانونيّة وبالإرادة الشعبيّة ذاتُ مردودٍ سيّئ على حركة المجتمع في مجمله. وعندما يقترن ذلك بالانفراد بالسلطة، تنفتح الأبوابُ للانشغال بالمصالح الشخصيّة، وانتشارِ الفساد. وهذا ما نشهده في وطننا العربيّ. فعلى الصعيد القطْريّ حالت هذه العناصرُ دون التوجّه نحو ممارسة المسؤوليّة بأيّ قدرٍ يتناسب مع احتياجات المجتمع وتنميةِ إمكانيّاته لمواجهة الحاضر وبناء المستقبل. ويكفي أن نجري مقارنةً بسيطةً بين القفزات التي حقّقتْها دولٌ مثل أندونيسيا وكوريا الجنوبيّة والهند والصين وتركيا وإيران في الثلاثين سنة الأخيرة، بما وصل إليه تردّي الأوضاع في معظم أقطار الوطن العربيّ. فماليزيا لم يكن فيها عام 1970 سوى جامعةٍ واحدة، ثم أدّى تداولُ السلطة إلى وصول مهاتير محمّد إلى الحكم، فإذا بماليزيا تصبح نمرًا من النمور بفضل التوجّه نحو العلم. وليست في كوريا الجنوبيّة مصادرُ طبيعيّةٌ تعتمد عليها، شأنها شأن اليابان، ولكنّ الكوريين قرّروا أنّ ما يستطيع اليابانيون صنعَه فإنهم قادرون عليه هم أيضًا، وهكذا كان. وقد تقدّمتْ هذه الدولُ نتيجةً لممارسة المسؤوليّة ممارسةً سليمةً تتيح الفرصةَ لتجديد الأفكار والسياسات ومراجعتها، بغضّ النظر عن نوع نظام الحكم. السلطة المسؤولة هي التي غيّرت المنهجَ حرصًا على الصالح العامّ. ولم تكن جميعُ هذه الدول غنيّةً بمواردها الطبيعيّة، إلاّ أنها قرّرت الاستفادةَ بأثمن موردٍ طبيعيّ، وهو الإنسان، فكان أن استثمرتْ فيه عن طريق العلم.

إننا هنا نحْجم عن الإشارة إلى الأوضاع في الأقطار العربيّة على حدة خوفًا من أن نظلم هذه الدولةَ أو تلك بذكرها وحدها دون غيرها. ويكفي أن نشير إلى ما يُهدر من مالٍ لشراء أسلحةٍ ثَبَتَ أنها لن تُستعمل، بدلاً من استثمار هذا المال في إنشاء صناعة أسلحةٍ قويّةٍ نعتمد عليها في الملمّات، فلا نعتمد على الغير الذي يتحكّم فينا كيف يشاء ويبتزّنا. أما نظرتُنا إلى العلم ودورِه في مجتمعنا، فيكفي أن نشير إلى مثالٍ واحدٍ في إساءة ممارسة المسؤوليّة: وهو أنّ الدكتور أحمد زويل، الحائزَ جائزةَ نوبل في العلوم، قد مضت عليه سنواتٌ وهو يدعو إلى إنشاء معهدٍ متقدّمٍ للتكنولوجيا في مصر، وتمّ وضعُ حجر الأساس لهذا المعهد قبل أكثر من عشر سنوات؛ ومع ذلك فلا يزال حجرُ الأساس هذا هو الجانبَ الوحيدَ الذي تحقّق، مع أنّ زويل حشَد لدعم المعهد عددًا هائلاً من العلماء.
هذا التردّي في الأوضاع الداخليّة بسبب إساءة ممارسة المسؤوليّة أتاح الفرصَ للتدخّلات الأجنبيّة على المستويين القطْريّ والقوميّ. فعلى المستوى القطريّ، مثلاً، ما أذاعه محمد حسنين هيكل نقلاً عن مسؤولٍ مصريٍّ كبير لم يستطع إنكارَ أنّ منصبَ رئاسة مصر مرهونٌ بموافقة أمريكا ورضاء إسرائيل. أما على المستوى القوميّ فأمريكا هي التي تقرّر: تقرّر غزوَ العراق فتُفتح لها الأراضي والأجواءُ والمياهُ الإقليميّةُ في الأقطار العربيّة التي تريدها، في حين تَرفض تركيا السماحَ لها باستعمال مطاراتها (مع أنها حليفتها في الناتو). والقضيّة الفلسطينيّة سُلّمتْ إلى القرار الأمريكيّ، الذي هو القرارُ الإسرائيليّ، وتخلّى عنها معظمُ الرؤساء. والسيّدة ليفني تزور المغربَ (حيث رئاسةُ “لجنة القدس” التي شكّلتها منظمةُ مؤتمر العالم الإسلاميّ) للمشاركة في مؤتمر ولزيارة المدن الأثريّة، في حين تلغي زيارتَها إلى بريطانيا خشيةَ أن يُقبض عليها بتهمة ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانيّة في غزّة. وثمة رؤساءُ عربٌ يتحالفون مع إسرائيل ضدّ إيران وسوريا وحزب الله وحماس، ويشاركون إسرائيلَ حصارَها لقطاع غزّة.

هذه الحالات تؤيّد صدقَ تصريحٍ أدلى به وزيرُ خارجيّة قطر في أواسط سبتمبر 2002 من أنّ العرب عاجزون عن فعل أيّ شيءٍ لمواجهة التهديدات الأمريكيّة للعراق. وتؤيّد صدقَ تصريحه قبل ذلك بأنّ علينا استجداءَ أمريكا لوقف العدوان الإسرائيليّ على الشعب الفلسطينيّ. هذان التصريحان لم يوضحا سببَ العجز والاستجداء، ولكنهما يعبّران عن عمق الأزمة في المسؤوليّة التي بلغتْها القياداتُ العربيّةُ، وعن الانغلاقِ المطبقِ على أوضاع الترهّل، وكأنّ هذا هو القدرُ المحتومُ الذي لا فكاكَ منه. وما زال قادتُنا ورؤساؤنا يستجدون ويقدّمون فروضَ الطاعة لأمريكا وإسرائيل، رجاءَ أن تَقْنعا بما حصلتا عليه. وفي 6/3/2010 جاء الردُّ الإسرائيليّ على قبول “لجنة متابعة مبادرة السلام العربيّة” الدخولَ في مفاوضاتٍ غير مباشرةٍ مع إسرائيل: استباحةً للمسجد الأقصى، وهجومًا على المصلّين، لتخويفهم وطردِهم منه تمهيدًا لإعلانه جزءًا من التراث اليهوديّ كما فعلوا مع المسجد الإبراهيميّ في الخليل وجامع بلال بن رباح في بيت لحم؛ كما أَعلنتْ إسرائيل عن قرارات بناء أحياءٍ سكنيّةٍ جديدةٍ في القدس، وعن توسيع الاستيطان في الضفّة. حدث هذا وبقيت العلاقاتُ على حالها من حسنِ الجوار واحترامِ المعاهدات مع إسرائيل، لكي تطمئنّ هذه الأخيرةُ إلى أنّ قرار “السلام العربيّ” هو فعلاً “قرارٌ إستراتيجيّ” ولن يتأثّر بما تفعله بالمقدَّسات والأرضِ والشعبِ والحقوق!

تحجّر المواقف العربيّة… وتدهورها
لم يتغيّر المنهجُ العربيّ الرسميّ في التعامل مع القضيّة الفلسطينيّة، وهو منهجٌ يحدّده القادةُ والرؤساء. ولم يتغيّر منهجُ التعامل العربيّ ـ العربيّ. وكلاهما يمثّل تحجّرًا فكريّاً وعمليّاً عند أوضاعٍ سادت على مدى معظم السنوات الستين الماضية، وكانت نتائجُه ما نشهده اليوم، حيث تقف القياداتُ العربيّةُ مشلولةَ الفكر واليد، قد أعجزتْ نفسَها أمام ما يتعرّض له الوطنُ العربيُّ من مخاطرَ واستلاب. وهذا ما أدركه المعلّقون الإسرائيليون. ففي 15/1/2010 نشرت القدس العربيّ ترجمةً لمقالٍ كتَبَتْهُ عينات وايزمن في معاريف، بعنوان “مقلوب” ـ وهو عنوانٌ لافتٌ لأنّ المقال يتحدّث عن أوضاعٍ وُجدتْ عكسَ ما يُفترض أن تكون عليه. تحدّثتْ وايزمن عن الجدار الفولاذيّ الذي تغرسه السلطاتُ المصريّةُ تحت الأرض على الحدود مع غزّة فقالت إنه “سيُنهي المهمّةَ التي بدأتها إسرائيل. سكّانُ غزّة سيكونون مغلقين ومنغلقين من كلّ صوب، محشورين بالبؤس والعوَز، جوْعى، مرضى، ودون سكنٍ مناسب.” هذه، إذنْ، هي النظرةُ الإسرائيليّةُ للجدار: إنه يكْمل المهمّةَ التي بدأتها إسرائيل، وهي أن يصبح حالُ سكّان غزّة على ما وصفته الكاتبة، وربما يصبحون، نتيجةً لذلك، “أطفالاً طيّبين ومطيعين كما تحبّ الدولة [أيْ اسرائيل] أن يكونوا.” وتستهزئ الكاتبة ممن يتصوّرون أنّ هذا الهدف غيرُ أخلاقيّ، إذ تعتبره هدفًا ساميًا، “والدليل على ذلك أنّ من ينفّذ بناءَ السور يتعاون مع الجيش الأكثر أخلاقيّةً في العالم [كما تصف إسرائيلُ جيشَها]. ليست دولةُ إسرائيل هي التي يمكنها أن تنال الحظوةَ على محاصرة الفلسطينيين وتعذيبهم، بل الرئيس المصريّ، اليد اليمنى للمخابرات الإسرائيليّة والمنفّذ الأكثر مفاجأةًَ لرؤيا الحائط الحديديّ من مدرسة جابوتنسكي.” وتتابع: “لا تعوّلوا بعد اليوم على عقلكم السليم؛ فالمتعاونون الأكثر حماسةً مع إسرائيل في هذه الأيّام هم السلطة الفلسطينيّة ومصر.” وفي 19/1/2010 ترجمت القدس العربيّ أيضًا مقالاً طويلاً كانت جريدةُ يديعوت الإسرائيليّة قد نشرته في اليوم السابق بقلم أليكس فيشمان، وعنوانُه الطويل هو: “المصريّون يتحدثون إلى حماس بلغاتٍ عدّة، إحداها سلسلةُ الأسوار التي تُبنى على الحدود، ومعنى ذلك بسيط: سَتُخْنَقُونَ إذا لم تَرضخوا. أجل، هكذا يُبنى السور.” وتحت عنوانٍ فرعيّ، “أنابيب وجدران،” يشير فيشمان إلى زيارة رئيس الوزراء الإسرائيليّ إلى القاهرة واجتماعِه الانفراديّ بمبارك، ويتحدّث عن أدوارٍ تحدّدتْ في ذلك الاجتماع: “أحد الأدوار التي قبلها المصريون،” على حدّ قوله، هو “محاولةُ إلباس أبي مازن قدرًا كافيًا من الدروع تجيء به لمفاوضة إسرائيل. ومن أجل ذلك يتحدّثون [أي المصريون] إلى حماس بعدّة لغات.” هناك، إذن، تقاسمٌ للأدوار، لكنْ ليس في المقال ما يشير إلى التزامٍ إسرائيليّ بوقف الاستيطان أو التوقّفِ عن تهويد القدس كدرعيْن يتقوّى بهما أبو مازن في مواجهة خصومه. الضغوط كلّها يجب أن تتوجّه إلى الفلسطينين ليرضخوا أو يُخنقوا.

ليست أمريكا هي المسؤولة
إنها أزمةٌ عميقةٌ في المسؤوليّة، أضاع القادةُ العربُ الطريقَ للخروج منها. وهم وحدهم المسؤولون لأنهم عزفوا عن استثمار ما لدى الأمّة من إمكانيّات. فليس سبب الأزمة الهيمنة الأمريكيّة، أو التعنّت أو التفوّق الإسرائيليّ؛ فهذه أمورٌ متوقّعة يمكن الاستعدادُ لمواجهتها. والتفوّق الإسرائيليّ لم يمنع القواتِ المصريّةَ الباسلة من خوض حرب الاستنزاف ثم العبور، بعد أن أتمّت الاستعدادات للمواجهة بشعورٍ عميقٍ بالمسؤوليّة والمهنيّة. كما هُزمتْ إسرائيلُ في معركة الكرامة عام 1968 على يد المقاومة الفلسطينيّة والجيش الأردنيّ، وهزمتْها القواتٌ المصريّةُ المسلّحة عام 1973، وهزمها حزبُ الله عام 2006، وهزمتها المقاومةُ الفلسطينيّةُ في غزّة عام 2009. المشكلة، إذن، هي في غياب الموقف المسؤول. ولمّا كان المسؤولون العرب المعاصرون قد قرّروا التخلّي عن مسؤوليّاتهم، مع البقاء في السلطة لضمان وصول سياساتهم إلى أهدافها، فإنهم يحرصون على طمسِ هذه الإنجازات، ومقاومةِ ما تبقّى منها، مثل الاستعدادات الشعبيّة للمقاومة، فيلتقون في ذلك مع أهداف أمريكا وإسرائيل.
وحتى لا يظنّ أحد أنّ مواجهة أمريكا وإسرائيل ضربٌ من الخيال أو الانتحار السياسيّ، فإنه يفيد أن نتذكّر أنّ تركيا واجهتْ أمريكا وإسرائيل عندما تعرّضتْ مصالحُها أو كرامتُها للخطر. وهي لم تسمحْ لأمريكا باستعمال مطاراتها لغزو العراق أو لتقديم الإمدادات، مع أنها طرفٌ في الحلف الأطلسيّ وتحتاج إلى الدعم الأمريكيّ كي تنضمّ إلى الاتحاد الأوروبيّ. وهي استدعتْ سفيرَها من واشنطن عندما قرّر الكونغرس التصويتَ على قرارٍ يفيد أنّ تركيا ارتكبتْ مجازرَ ضدّ الأرمن، فأوقف التصويت في 6/3/2010. وأما موقفُ تركيا من إسرائيل فلا يحتاج إلى تذكير. وتركيا ليست أقوى من اثنتين وعشرين دولةً عربيّةً وثلاثمائة مليون عربيّ؛ ولكنّ الشعور بالمسؤوليّة، والالتزامَ بممارستها على الوجه الصحيح، وعدمَ التخلّي عنها لتحقيقِ الهدف المطلوب، هي التي وفّرت القوةَ الفاعلةَ لاتخاذ الموقف المناسب… خلافًا لما يفعله الزعماءُ العرب الذين اشتُهروا بالتخلّي عن “الخطوط الحمراء” التي يعلنون عنها كلّما اقتربتْ منها أمريكا أو إسرائيل.

الاستجداء ليس الطريق لاسترجاع الحقوق
أما العلاقة بالمجتمع الدوليّ فإنّ هذا المجتمع، بما فيه أمريكا، لا يحترم إلاّ من يتمسّك بحقوقه ولا يتوقف عن الاستعداد لاستردادها إذا اغتُصبتْ منه. المجتمع الدوليّ اتّخذ العديدَ من القرارات لصالح قضايانا، سواءٌ في مجلس الأمن أو الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة أو محكمة العدل الدوليّة أو المنظّمات الدوليّة المتخصّصة. فماذا فعل زعماؤنا لضمان تنفيذ هذه القرارات… سوى الاستجداء؟ ومتى كان الاستجداءُ إلاّ استجداءً؟ ولو أنّ العالم شعر بجدّيّة الموقف العربيّ، التي يعبِّر عنها حشدُ الجهود والإمكانيّات والمبادرات العملية المقْنعة، لكان له موقفٌ آخر.

مع العالم الإسلاميّ: شراكةٌ أمْ تبعيّة؟
نستغيث بالعالم الإسلاميّ ونلومه على التقصير. ولكنْ عندما يتحرّك، كما تحرّكتْ إيران، يبادرها القادةُ العربُ بالعداء والتحالف مع أمريكا وإسرائيل، بدلاً من السعي إلى التفاهم والتنسيق معها. العالم الإسلاميّ يتطلّع إلى قيادةٍ من الأمة العربيّة، وإلى مشاركةٍ حقيقيّةٍ تستثمر فيها قدرات العالمين العربيّ والإسلاميّ في خدمة قضاياهما، لا إلى تبعيّةٍ في مواقفَ وسياساتٍ تهدر الحقوقَ وتستسلم للأعداء. ومن حقّنا أن نسأل عن القرارات التي تتخذها منظمةُ المؤتمر الإسلاميّ: ألا تمثّل هذه القرارات هوانَ الأمّة العربيّة في نوعية ما يُطلبُ من المنظّمة إقرارُه، لا قوةَ العالم الإسلاميّ؟ تُرى لو كان مهاتير مخمد هو رئيسَ “لجنة القدس” التي شكّلتها المنظمةُ في أعقاب حريق المسجد الأقصى، أما كان بإمكان هذه اللجنة أن تُنتجَ أكثرَ مما أُنتِجَ حتى اليوم؟ لقد فشل الزعماءُ العربُ في تحمّل هذه المسؤوليّة تجاه العالم الإسلاميّ ومعه. ولو أنّ العرب أثبتوا وجودَهم الفاعلَ والمؤثّر على الساحة الدوليّة في الدفاع عن حقوقهم وكرامتهم أو في مجالات التقدّم الحضاريّ، لأتاحوا الفرصة أمام العالم الإسلاميّ لتحرّكٍ فاعلٍ ومؤثّرٍ في الحياة السياسيّة الدوليّة.

استخفافٌ بالالتزام العربيّ ـ العربيّ
والقادة العرب هم المسؤولون عن عدم تنفيذ العديد من الاتفاقيّات التي أبرموها فيما بينهم، أو في نطاق جامعة الدول العربيّة. أقرّوها، ثم لم يلتزموا بها. بل ما يدعو إلى الدهشة أن تسمعَ زعماء عربًا، بعد انفضاض مؤتمرات القمة وبعد صدور قراراتٍ وافقوا عليها جميعًا، يصرّحون بأنّ كلّ دولةٍ حرةٌ في أن تلتزم أو لا تلتزم بما اتُخذ من قرارات. لماذا إذنْ قرّروا؟ وما هو وزنُ قراراتهم إذا كانت أصلاً غيرَ ملزِمة؟ وإنه لمن المضحك المبكي أن تصدرَ عن الوزراء المختصّين أيضًا قراراتٌ يناشدون فيها حكوماتهم تنفيذَ هذه الاتفاقيّة أو تلك، بدلاً من أن يباشروا هم تنفيذَ ما أبرموه باسم حكوماتهم في إطار اختصاصهم. لقد أقاموا في إطار جامعة الدول العربيّة العديدَ من المجالس المتخصّصة، فماذا فعلتْ هذه المجالسُ على مدى الخمسين سنة الماضية؟ المسؤول هو الحكومات العربيّة، والحكومات في وطننا هي الزعماء، هي القادة.
وها إنهم الآن يحاولون تقليدَ السوق الأوروبيّة المشتركة بالبدء في الجوانب الاقتصاديّة، متناسين أنّ أوروبا وأمريكا قد سبقتا تلك الخطوةَ بإقامة حلف شمال الأطلسيّ، فضلاً عن مؤسّسات الدفاع الأوروبيّة، لتوفير الحماية لكلّ تطوّرٍ نحو القوة ولمشروعات التنمية والتوحّد التي يقرّونها. ويخطئ الزعيمُ العربيُّ الذي يتوهّم أنه يستطيع التخطيطَ للتنمية الجادّة أو المضيّ في تنفيذ مشروعاتٍ تنقل البلدَ نقلةً نوعيّةً من دون توفير القوة القادرة على حمايتها. وما تدميرُ معدّات ومنشآت سدّ الوحدة على نهر البيرموك عام 1964، وضربُ المفاعل الذرّيّ العراقيّ، وضربُ ما قيل إنه مفاعلٌ ذرّيّ سوريّ، سوى أدلّةٍ على ذلك.
ومع هذا فإنّ العمل العربيّ المشترك ما زال بعيدًا عن التفكير الجدّيّ والتخطيط العقلانيّ السليم والالتزام لدى الزعماء العرب، وما زالت النزعاتُ الفرديّة هي المسيطرة. وكيف يمكن أن يتحقّق عملٌ عربيٌّ مشترك له صفةُ الدوام والتطوّر ما دام الزعماءُ لا يلتزمون بتنفيذ ما يقرّرونه هم أنفسُهم في مؤتمراتهم، وما دامت المتابعةُ الجادّةُ للتنفيذ منعدمةً، وما دام أيُّ خلافٍ طارئ يَنقض كلَّ ما تمّ من اتفاقيّات وجهودٍ على طريق التكاتف؟
وكما أفشل الزعماءُ تنفيذَ اتفاقيّات العمل العربيّ المشترك، وأفشلوا تنفيذَ قراراتهم في مؤتمرات القمّة، فانهم أفشلوا أيضًا التحرّكاتِ الوحدويّة التي وقعتْ أيّام المدّ القوميّ، وكانت استجابةً منهم له. أين الجمهوريّة العربيّة المتحدة (بين مصر وسوريا)، واتّحادُ الجمهوريّات العربيّة (بين مصر وسوريا وليبيا والسودان على ما أظنّ)، والاتحادُ الهاشميّ (بين الأردن والعراق)، والجمهوريّةُ الإسلاميّة (بين تونس وليبيا)، واتحادُ الدول العربيّة بين مصر واليمن؟ لقد أماتها الزعماءُ من دون الرجوع إلى الشعوب التي استُفتيتْ عليها أو أيّدتها. وماذا كان مصيرُ إعلان دمشق بين دول الخليج ومصر وسوريا؟ ولماذا لم يقم تعاونٌ وثيقٌ، على الأقلّ، إنْ لم نقل وحدةً أو اتحادًا، بين العراق وسوريا بعد أن تولّى حزبُ البعث الحكمَ في القطرين، وقامت بينهما بدلاً من ذلك قطيعةٌ استمرّت سنواتٍ طويلة؟ أتكون أمريكا أو الاستعمار المسؤول عن هذا كلّه؟! ألا نخجل من تكرار مثل هذه العبارة، وكأننا لسنا سوى دمًى يلعب بها الآخرون؟
إنّ النتيجة التي توصّل إليها كثيرون، ولاسيّما الزعماء، هي أنّ الظروف ليست مواتيةً للعمل العربيّ الوحدويّ، أو أنّ المدّ القوميّ لم يكن بالقوة والوعي كما يجب. وفي رأينا أنّ هذا فرارٌ من مواجهة السبب المؤثّر المؤدّي إلى الفشل، وهو الزعماءُ أنفسُهم. فقد كانوا هم أصحابَ القرار في جميع هذه الأمور، ولو ارتفعوا إلى مستوى المسؤوليّة وقرّروا والتزموا ونفّذوا، لرحّب الشعبُ العربيُّ كلُّه بذلك، ولوجدوه إلى جانبهم. كلّ مشروعٍ عربيّ مشتركٍ تعرّض للانتكاس، وانتكس فعلاً إذا حدث ما يعكّر الأجواءَ بين الزعامات العربيّة، لا بين الشعوب، ثم ينشغل منهم بعد ذلك مَن ينشغل “بتنقية الأجواء العربيّة،” حتى أصبح هذا البندُ مستديمًا في جدول أعمالهم. وإذا زالت الغمامة، فإنّ ما سبق الاتفاقُ عليه يُعتبر بحكم المنتهي! ولهذا السبب توقّفتْ معظمُ المشاريع العربيّة المشتركة أو لم تنفّذْ.
وعبثًا يتعلّم الزعماءُ الدروس من تجاربهم أو تجارب غيرهم لكي يستعدّوا ويخطّطوا بالاعتماد على القوة الذاتيّة العربيّة، التي أثبتتْ فعّاليّتها عندما حُشدتْ على الوجه الصحيح في معركة العبور عام 1973 وحربِ تمّوز عام 2006 وحربِ غزّة عام 2009. ولقد تساءل الجنرال ديغول في أعقاب نكسة 1967، حسب رواية هيكل، “ما الذي يخيفنا ولدينا الموقعُ والامكانيّات؟” لقد بدأت الشعوبُ تتحرّك. وهذا يفسّر ما يجري من بطشٍ وانتهاكٍ لحقوق الإنسان، وتسارعٍ للتصالح مع الأعداء. ويبدو أنّ الشعب العربيّ قد تفهّم الدروس التي يرفض الزعماءُ تعلّمَها. وهو يتحرّك لاسترداد حقوقه وكرامته بنضاله الذاتيّ، لا بالاعتمادِ على الآخرين. لقد قال الشعبُ “كفى،” وتحرّك.

لكنْ…أين المعارضة المسؤولة؟
غير أنّ “كفى” و”كفاية” لا تكفيان. إنهما صوت ٌاحتجاجيٌّ لا بدّ منه، ولكنه يتطلّب فِعلاً يجعله واقعًا. وهذا الفعل يجب أن يأتي من معارضةٍ تتمتّع، هي الأخرى، بمفهومٍ واعٍ للمسؤوليّة، وبالتزامٍ بها. وهذا ما غاب طويلاً مع الأسف، الأمرُ الذي سمح للأوضاع القائمة بأن تتجذّرَ وتؤسِّسَ لمصالحَ تستقوي بها. ثم إنّ المعارضة التي ظهرتْ حتى الآن، تعاني، في معظمها، الأمراضَ التي تعانيها نظمُ الحكم: من شخصنةٍ وفرديّةٍ واستئثارٍ بالموقع. ومالم تمارس الأحزابُ المسؤوليّةَ، وتلتزمْ بما تقتضيه، وتربِّ أجيالاً يكون الالتزامُ بالمسؤوليّة أمرًا غريزيّاً لديها، فستظلّ عاجزةً عن تقديم بديلٍ يستقطب الجماهيرَ التي بدأتْ في الانطلاق في أرجاء الوطن العربيّ تبحث عمّن يقودها نحو التغيير. ونرجو مخلصين ألاّ يستولي عليها مغامرون بسبب غياب الأحزاب والحركات التي تقدّر المسؤوليّة وتنهض بها.
لندن
* محامٍ ومستشار قانونيّ فلسطينيّ مقيم في لندن. من مؤسّسي منظمة التحرير الفلسطينيّة. رئيس اللجنة القانونيّة سابقًا في المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ. الأمين العامّ للمنظمة الدوليّة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصريّ (إيفورد) www.anisalqasem.com
مجلة الآداب » ٤-٥/ ٢٠١٠ »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى