نصيحة دمشق: حذارِ الفصل الثاني من المؤامرة
يواجه الرئيس سعد الحريري في المحكمة الدولية المحنة الأقسى. بعدما شاع أن القرار الظني يتهم حزب الله، لم يعد يسعه التشكيك في نزاهتها لأنها ستكشف قتلة والده الرئيس رفيق الحريري، ولا تبني قراراً كهذا يقوّض الاستقرار الداخلي
نقولا ناصيف
عندما عاد من دمشق، أوجز رئيس الحكومة سعد الحريري لحلقة ضيقة من القريبين منه في بيت الوسط خلاصة الاجتماعات الثلاثة التي عقدها مع الرئيس السوري بشّار الأسد الأحد والاثنين الماضيين، وكانت من شقين:
أول، اتصل باجتماع هيئة المتابعة والتنسيق السورية ـــــ اللبنانية برئاسته ونظيره السوري محمد ناجي العطري، وطبعته الإيجابية. ووصفه الحريري بأنه كان مهماً وممتازاً وضع العلاقات اللبنانية ـــــ السورية على طريق التعامل بين مؤسسات الدولتين لإرسائها على نحو صحيح، معرباً عن ارتياحه إلى نتائج الاجتماع الموسّع وإقرار الاتفاقات ومذكرات التفاهم الـ18 بين البلدين. وأبرَزَ التقدّم المطّرد في العلاقة الشخصية التي تجمعه بالأسد وتوطد الثقة بينهما يوماً بعد آخر.
وثانٍ، اتصل بالخلوتين اللتين عقدهما مع الرئيس السوري، بعد الاجتماع الموسع بينه وبين الوزراء اللبنانيين الـ13، وتناول المحكمة الدولية في اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، والسجال السياسي الساخن في لبنان بين الأفرقاء على أثر خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الجمعة المنصرم، وردود الفعل السلبية عليه التي فتحت باباً عريضاً على جدل، لم يكتم الحريري أمام الرئيس السوري قلقه من تصاعد نبرته.
في في حصيلة الانطباعات التي رافقت الاتصالات اللبنانية ـــــ السورية في الساعات الأخيرة المعطيات الآتية:
1ــ رغب الحريري في الاجتماع بالأسد أكثر من مرة تحت وطأة ردود الفعل المتناقضة حيال المسار الذي تسلكه المحكمة الدولية، وخصوصاً في ظلّ توقع إصدارها قراراً ظنّياً في أيلول أو تشرين الأول المقبل، يتهم أعضاءً في حزب الله بالتورّط في اغتيال الرئيس الأسبق للحكومة. بدت مفاتحة الحريري الابن الرئيس السوري في التوتر المستجد في لبنان محاولة للحصول على مظلة اطمئنان حيال احتمال تدهور الوضع إذا تصاعدت وتيرة الخلافات، وتفلتت من ضوابطها بإزاء المحكمة الدولية. ولا ترمي هذه المظلة إلا إلى أن يكون لسوريا دور إيجابي وفاعل في تقليص ردّ فعل حزب الله قبل صدور القرار الظنّي ـــــ إذا صدر ـــــ أو بعده، لأن كلمتها مسموعة لدى الحزب وأمينه العام.
سعى الحريري إلى دور إيجابي لسوريا حيال ردّ فعل حزب الله من المحكمة
2ــ لا يسع سوريا، ولا قيادتها، أن تفصل نفسها عن أي محاولة لاستهداف حزب الله، سواء من المحكمة الدولية أو من سواها، نظراً إلى أن الحزب يدخل في صلب استراتيجيتها في المواجهة الإقليمية مع إسرائيل، وهي استراتيجيا المقاومة والممانعة. والمطلعون على الموقف السوري يتحدّثون بكثير من الإسهاب عن أن دمشق تدرك خطورة توجيه الاتهام إلى حليفها القوي حزب الله بعدما كانت قد خَبُرت التجربة عندما وُجهت أصابع الاتهام المباشر إليها بمسؤوليتها عن اغتيال الرئيس الراحل بين عامي 2005 و2008، وخصوصاً من حلفاء رئيس الحكومة اللبنانية في قوى 14 آذار. وتدرك دمشق خصوصاً مغزى الفخّ المنصوب لحزب الله بالقول إن عناصر غير منضبطين ضالعون في اغتيال الحريري الأب، على غرار فخ كان قد نُصِبَ لها أيضاً حينذاك بالقول إن ضباطاً ـــــ مهما تكن رتبهم ـــــ تورّطوا في جريمة الاغتيال، ودُعيت إلى الإقرار بهذا الفخّ تفادياً لمواجهة مع المجتمع الدولي.
وكما أن اتهام ضابط في النظام السوري كان سيؤول حكماً إلى توجيه أصابع الاتهام إلى الرئيس بالاغتيال، فإن اتهام عنصر غير منضبط في حزب الله لا يمكن إلا أن يقود إلى استنتاج مماثل، وإن ضمناً، هو مسؤولية نصر الله عمّا حدث.
في هذا المغزى كَمَنَ إعلان الأمين العام، كما مسؤولون حزبيون آخرون، أن لا عناصر غير منضبطة في حزب الله. منذ ما قبل ما أوردته مجلة دير شبيغل الألمانية في 24 أيار 2009، بلغت إلى حزب الله وأمينه العام إشارات كانت ترجّح اتهام عناصر حزبيين باغتيال الحريري الأب، وأكثَرَ أفرقاء في قوى 14 آذار، بينهم أقطاب، في تداولها. بعض تلك الإشارات وصلته من الحريري الابن ـــــ ولم يكن رئيساً للحكومة بعد ـــــ مشيراً إلى معلومات لديه عن مسؤولية عناصر غير منضبطين في حزب الله اخترقتها الاستخبارات السورية ضالعة في اغتيال والده.
3ــ تريد سوريا الاستقرار للبنان ومساعدة الحريري وحكومة الوحدة الوطنية على الصمود في وجه التحدّيات الداخلية والخارجية. وتريد أيضاً طمأنة السعودية إلى استقرار لبنان، ونجاح رجلها رئيس الحكومة في مهمته على رأس أولى حكوماته، لكن من غير أن يمسّ الوصول إلى هذه الطمأنة الاستراتيجيا التي تخوض بها سوريا الصراع مع إسرائيل، ومن غير أن تمسّ حلفاءها الأساسيين، وأخصّهم المقيمون في هذه الاستراتيجيا أو الذين يمثّلون جزءاً لا يتجزأ منها كحزب الله. تالياً، إن أي تنازل يُقدّم إلى سوريا من حلفائها الجدد على صعيد العلاقات اللبنانية ـــــ السورية ينبغي بدوره أن لا يتعرّض لشعرة في حزب الله. في حال كهذه، لا يمكن دمشق الموافقة على أي محاولة تحيّدها عنه، أو تضعه في مواجهة تهديدات خارجية خطيرة من أي مصدر أتت.
عكست هذا الموقف العجلة غير المحسوبة في إنجاز مراجعة الاتفاقات الثنائية بين البلدين التي شقت طريقها بسهولة إلى هيئة المتابعة والتنسيق بين رئيسي حكومتي البلدين. ورغم أن الاتفاقات الأمنية ظلّت خارج التفاهم على رزمة الاتفاقات ومذكرات التفاهم الـ18 ـــــ وقد قبلت سوريا على مضض باستثنائها منها في الوقت الحاضر ـــــ إلا أن القيادة السورية لم تجد في هذا التحوّل السريع ما يجعلها تقرن إقرار تثبيت الاتفاقات، ولا سيما المعقود في مرحلة الوجود العسكري السوري في لبنان، بأي موقف من علاقتها بحزب الله ومن المخاوف التي أطلقها قبل أسبوع أمينه العام.
لا توافق دمشق على أي محاولة تمسّ شعرة في حزب الله، أو تعرّضه لتهديد
في بضع مراسلات متبادلة بين الجهات المعنية في البلدين باتفاق الأمن والدفاع المبرم عام 1991، سجّل كل من الطرفين ملاحظات متناقضة أوجبت تأخير التفاهم عليها، إلى أن تقرّر استثناء اتفاق الأمن والدفاع من رزمة الاتفاقات ومذكرات التفاهم الـ18، وغياب وزير الدفاع الوطني الياس المرّ عن الانضمام إلى الوفد الوزاري الموسّع إلى دمشق. وكان التباين المحصور بالمسؤولين السياسيين اللبنانيين دون المسؤولين الأمنيين قد تركز على بنود رئيسية أبرزها إصرار سوريا على تسليم المطلوبين والمتهمين بالعمل على تقويض النظام إلى سلطاتها، والحظر على الإعلام اللبناني الخوض في ما تعدّه دمشق تهديداً لاستقرار النظام السوري. وكلا البندين تحفظ عنهما لبنان.
في واقع الأمر أتت رزمة الاتفاقات ومذكرات التفاهم تلك كي نؤكد مجدّداً أن ما كان صالحاً في زمن الوصاية السورية لا يزال كذلك بعد انقضائه.
4ــ أكدت دمشق أن ليس في مصلحة الوفاق الوطني اللبناني استكمال ما تنظر إليه على أنه الحلقة الثانية من المؤامرة التي كانت قد استهدفتها قبل سنوات، وتتوجه الآن إلى استهداف حزب الله. ومن غير أن تحدّد للحريري الخيارات البديلة من أجل المحافظة على الاستقرار الداخلي في لبنان وتماسك حكومة الوحدة الوطنية، ترى أن المحكمة تمرّ بمخاض شاق.
فهي أولاً تجد نفسها غير معنية بها، تعزّز حجتها في أن المحكمة لم تنجح في إبرام أي اتفاق مع أي دولة معنية بالتعاون معها في اغتيال الحريري الأب إلا لبنان. وتجد ثانياً أنها سلّمت أخيراً بحقائق كانت في صلب تسييس طاولها منذ المراحل الأولى من عملها. بعد فشل اتهام سوريا بالاغتيال، ثم الاشتباه بالضباط الأربعة كصورة لنظام أمني ترعاه دمشق ضالع في الاغتيال أيضاً، أتى تنصّل المحكمة من شهود الزور الذين بُنيت إفادتهم على اتهام سوريا واعتقال الضباط الأربعة كي يدفعها في منحى مغاير. في جلستها العلنية الأولى حتى الآن، في 13 تموز الفائت، لم تمثل المشكلة في إثارة شكوك حول وجود شهود الزور أو عدم وجودهم، بل في الكشف عن الإفادات التي أدلوا بها واتهامهم النظام السوري ورئيسه باغتيال الرئيس السابق للحكومة.
والواقع أن سوريا بدأت تلمس أن أفرقاء في قوى 14 آذار، حلفاء رئيسيين للحريري حليفها الجديد، عبر إثارة الغبار من حول مخاوف حزب الله وأمينه العام، يحاولون قطف الثمار السياسية لقرار ظنّي لم يصدر، كأنه قد صدر فعلاً.
تحت وطأة ذلك يلتزم الحريري الصمت حيال المحكمة الدولية. لم يشأ الكلام عليها في دمشق، وهو يؤكد بذلك الفصل بينها وبين سوريا. ولا يسعه في المقابل تجاهل المعركة السياسية الضارية التي قادها مع حلفائه، بداية، ضد سوريا وحزب الله منذ شباط 2005 حتى الأمس القريب. لا يسعه القول إنه لم يعد يريد معرفة قتلة والده ولا الاقتصاص منهم، ولا كذلك جعل الاستقرار والوحدة الوطنية ينهاران بين يديّ حكومته.
ولعلّ عبارة أسرّ بها رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط لشخصية رسمية بارزة، خير معبّر عن وطأة مأزق داخلي بات يحتاج الخروج منه إلى أعجوبة تدمج الرضى الشخصي بالتسوية السياسية، ولا تجرح كبرياء أحدهما.
قال جنبلاط: «نحن أوصلنا أنفسنا إلى هذه المشكلة».
الاخبار