الكوميديا الدموية
الياس خوري
يقول المنطق ان المنطق قد فقد نهائيا في لبنان، خصوصا حين يتعلق الأمر بحكاية قتلة رفيق الحريري. هكذا رست الأمور، كما يبدو، على تبرئة النظام السوري واتهام عناصر في حزب الله!
اما كيف ولماذا، فلا احد يعرف، لكن الجميع يعرفون. كأن نقول اننا لا نعرف قتلة كمال جنبلاط؟ والحقيقة اننا لا نعرفهم، لأننا نعرفهم! هذه هي اللعبة اللبنانية التي صارت كوميديا من الدم والألم.
لا اريد ان احلل قرارا ظنيا لم اقرأه، ولم يقرأه احد، رغم ان فصاحة البلهاء تسيطر على عقول اغلبية المحللين، ولا استطيع ان افهم كيف يتابع الجمهور تصديق هذا المسلسل الغرائبي الذي يسبق المسلسلات الرمضانية ويتفوق عليها. لكنني استطيع ان اقول ان التقارير التي صدرت في ايام المحقق الالماني ديتليف ميليس لا يمكن قراءتها اليوم من دون تخيّل لعبة جيمس بوندية تفوقت على خيال كتاب الروايات البوليسية وروايات التجسس جميعا.
من لعب بالتحقيق وضلله؟ ام ان تضليل التحقيق كان جزءا من التحقيق نفسه؟
لا ادري، لكننا في حاجة الى خيال خارق كي نركّب من جديد عناصر ‘البازل’ الميليسي كي نفهم هذه الضجة اللبنانية حول قرار ظني لم يصدر بعد؟
لا يستطيع احد التنبوء بما سيجري، لأننا لسنا امام معطى سياسي او قضائي عادي، نحن امام لعبة لا يمكن ان تدور في اي جمهورية في العالم، حتى وان كانت جمهورية موز، بل تحتاج الى دولة لا تمتلك مقومات الدول، وهي اشبه بالمتصرفية العثمانية، كي تكون ساحة لهذه الأفلام الدموية.
يستطيع المراقب ان يسارع الى تبرئة حزب الله او اتهامه، بحسب اهوائه السياسية، لكن لم يعد في استطاعة احد توجيه الاتهام الى النظام السوري. المايسترو نجح في التحول الى عنصر تهدئة لأن المحكمة الدولية، التي يتهمها حليفه اللبناني بأنها اسرائيلية، برأته. اما لماذا وكيف فلا احد يدري، وليس من المتوقع ان نعرف قريبا.
هذه هي لعبة الأمم مثلما اسماها السيد حسن نصرالله، وسبق لياسر عرفات ان اطلق عليها اسم استراتيجية ‘الاكورديون’. وعندما كان القائد الفلسطيني يُسأل عن سر معرفته بالآلات الموسيقية كان يجيب ‘اسألوا الثور’، محيلا الى مؤسس النثر العربي ابن المقفع الذي قطعوه ورموا اعضاءه في النار وهو حي، لأنه تجرأ على رواية حكاية الثورين.
اذا قبلنا الافتراض ان لبنان لم يخرج عن اطار كونه متصرفية، رغم توسيع حدود جبل لبنان زمن الانتداب الفرنسي، حين اطلق على الوطن الصغير اسم دولة لبنان الكبير، عندها نفهم لماذا لا نستطيع ان نعرف. اي نفهم ان الحلبة مسرح، وان اللعبة الداخلية اللبنانبة ليست مسرح دمى، مثلما يقول المتشائمون، بل هي مسرح خيال ظل. والفرق بين الدمية وخيال الظل يتجاوز مسألة تفوق الدمية في كونها ثلاثية الأبعاد، الى مسألة ان هناك من يهيمن في لعبة خيال الظل على محرّك الظلال، اذ يمتلك القدرة على التلاعب بالضوء واطفائه، وبذا يحوّل المحرك الى مجرد دمية اضافية.
السؤال ليس من يحرّك خيالات الظل، بل من يملك مفتاح الضوء؟ والجواب على هذا السؤال يعني انك لا تستطيع اتهامه، لأنه يملك القدرة على اطفاء الضوء، وتغيير قوانين اللعبة بأسرها.
نجح النظام السوري مستغلا حماقات السياسيين اللبنانيين في الخروج من المأزق، بل وفي امتلاك ورقة اضافية، هي نتاج التوافق السوري- السعودي- القطري. وعلقت الطوائف اللبنانية، التي سقطت في الفخ اياه، فخ صراعاتها على السلطة، وتحالفاتها الخارجية من اجل توجيه ضربات الى منافسيها الداخليين، من دون اي اعتبار وطني. صار لبنان في حاجة الى التدخل السوري والعربي من اجل نزع فتيل فتنة محتملة بين الطائفتين الكبريين في لبنان، اي بين الشيعة والسنة. كل هذا تحقق او هو في طريقه الى ذلك قبل صدور القرار الظني! وقبل قراءة لائحة الاتهام!
عدنا الى حيث بدأنا، الحَكَم نفسه، واللعبة نفسها، وتكرار يتكرر.
المأسوي في هذه الكوميديا الدموية هو انها تأتي مرة ثانية لتقول انه من غير المسموح للمقاومة، مهما كان اسمها وبصرف النظر عن ايديولوجيتها ان تكون خيارا استراتيجياً. هذا ما حدث للمقاومة الفلسطينية التي سقطت في حبائل ‘الاكورديون’، قبل ان تبتلعها اوهام التسوية، وهذا ما حدث للحركة الوطنية اللبنانية ومن بعدها جبهة المقاومة الوطنية. والفخ نفسه يُنصب اليوم للمقاومة الإسلامية التي كبرت وصار تحجيمها مطلبا ملحاً.
لا يهدف هذا التحليل الى تبرئة احد او اتهام احد. لكنه يسعى الى قراءة هذا الانقلاب الغرائبي الذي يستدعي قمة عربية مصغرة، لأهل الحل والعقد، من اجل الاستقرار اللبناني المهدد بفتنة القرار الظني.
انتظر قسم كبير من اللبنانيات واللبنانيين القرار الظني، على أمل ان تكون المحكمة الدولية الخاصة بلبنان اداة ردع من اجل ايقاف السياسة التي يفرضها منطق الاغتيالات. فاذا بهم على عتبة فتنة، وامام محاولات لاطفاء الفتنة قد تكون اقسى من الفتنة نفسها، لأنها تستهين بالعقل والمنطق، معلنة ان هناك من سيدفع الثمن، لا لأنه شارك في ارتكاب الجريمة، هذا اذا قبلنا الافتراض الشائع حول القرار الظني، بل لأنه يزعج اسرائيل والنظام العربي.