دمشق تخشى المعارضين بطبيعتها لا بسبب الواقع
ما من مبرر حقيقي لخوف حكومة دمشق من المحامين والناشطين الموالين للديمقراطية، ومن المؤسف أن هذا النظام لم يعرب أخيراً عن تقبّل يُذكر للانتقادات الداخلية، فبعد سنوات من العزلة يبدو أنه اليوم أقوى من أي وقت مضى.
حكمت محكمة عسكرية سورية قبل أيام على هيثم المالح، محامٍ ومراقب لحقوق الإنسان في التاسعة والسبعين من عمره، بالسجن ثلاثة أعوام، وفي سؤال عن التهمة الموجهة إليه، قال المالح في مقابلة معه على التلفزيون إن السلطات السورية ‘تختبئ وراء قوانين لا منطق لها ولا شرعية ولا أسس عادلة’.
وفي شهر يونيو، حكمت محكمة سورية أيضاً على محامٍ آخر يُدعى مهنّد الحساني بالسجن ثلاث سنوات، بعد أن أُدين بتهم ‘إضعاف الروح الوطنية’ و’نشر أخبار مغلوطة داخل سورية قد تزعزع معنويات الأمة’.
على نحو مماثل، وجه المسؤولون السوريون تهماً جديدة إلى علي العبدالله، كاتب خرج لتوه من السجن بعد أن أمضى فيه 30 شهراً لأنه حضر في عام 2007 اجتماعاً حض على الإصلاح السياسي. أما اليوم فقد يواجه محاكمة جديدة بسبب مقالة جديدة كتبها في السجن، انتقد فيها النظام الثيوقراطي في إيران، حليفة سورية.
ولكن لمَ تخشى حكومة الرئيس السوري بشار الأسد هؤلاء المحامين والناشطين الموالين للديمقراطية؟ ما من مبرر حقيقي لخوفها هذا.
من المؤسف أن نظام الرئيس الأسد لم يعرب أخيراً عن تقبّل يُذكر للانتقادات الداخلية، فبعد سنوات من العزلة التي فرضتها إدارة بوش وحلفاؤها العرب على سورية، يبدو النظام السوري اليوم أقوى من أي وقت مضى، وخلال السنة الماضية، أطلقت سورية هجوماً دبلوماسياً هدفه استمالة الدول الأخرى، فقد عقدت اجتماعات على مستوى رفيع مع دبلوماسيين أوروبيين ومسؤولين من إدارة أوباما. ومنذ ذلك الحين، لم يمر أسبوع لم يستقبل فيه الرئيس الأسد قائداً أو موفداً أجنبياً في دمشق.
وفي شهر فبراير، عيّن أوباما روبرت فورد، دبلوماسياً خدم بلاده في الجزائر والعراق، أول سفير أميركي إلى سورية منذ عام 2005، (سحبت واشنطن آخر سفير لها بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، لأن إدارة بوش حمّلت سورية المسؤولية). ولكن في شهر مايو، أعاق الجمهوريون في مجلس الشيوخ الأميركي تعيين فورد، ما هدد بإفشال جهود أوباما للتقرب من سورية.
على الرغم من هذه النكسات، يبدو أن هذه الرياح الدبلوماسية المواتية قد أكسبت نظام الرئيس الأسد جرأة إضافية، فرأى هذا النظام الفرصة سانحة لتضييق الخناق في الداخل عوضاً عن تحسين سجله في مجال حقوق الإنسان، فكان الهدف من المحاكمات الأخيرة البعث برسالة إلى الناشطين الموالين للديمقراطية في سورية، مفادها: الزموا الصمت ولا تتعاملوا مع الغرب.
خلال حملته الرئاسية، تعهد أوباما بالتحاور مع ما دعتهم إدارة بوش أنظمة ‘مارقة’، مثل سورية وإيران. صحيح أن هذه المقاربة ضرورية، ولكن يجب ألا تنفَّذ على حساب حقوق الإنسان.
تُعتبر قضية المالح مقلقة حقاً لأنه مسن وضعيف، ولأنه ينتقد النظام السوري منذ عقود (سُجن سبع سنوات في ثمانينيات القرن الماضي)، ويخشى داعموه من أنه قد يموت في حال سُجن لثلاث سنوات إضافية.
لسورية تاريخ طويل في سجن المنشقين بدأ خلال عهد والد بشار، الرئيس حافظ الأسد، الذي وصل إلى السلطة عقب انقلاب عسكري في عام 1970، وعندما توفي حافظ الأسد في شهر يونيو عام 2000، خلفه ابنه، ومع أن كثيرين اعتبروا أن بشار سيعجز عن موازنة أوراقه الإقليمية بالبراعة نفسها كما والده، تحوّل إلى شخصية سياسية قوية واسعة النفوذ.
بعد تسلّم الأسد الابن سدة الرئاسة، وعد بالتغيير، فشهدت سورية فترة من الانفتاح عُرفت بـ’ربيع دمشق’، لكن الحريات التي اكتُسبت كانت محدودة: تجمعات متواضعة في المنازل لمناقشة مسائل الديمقراطية والإصلاح، وكتابات وخطابات تنتقد الفساد وإخفاقات الحكومة (من دون التعرض مباشرة للرئيس الأسد أو عائلته)، ولقاءات لمجموعات صغيرة تُعنى بشؤون المجتمع المدني، لكن معظم هذه الحريات المتواضعة قد أُلغيت.
بحلول عام 2005، وسعت سورية دائرة تضييق الحريات لتشمل ناشطين ومحامين وكتاباً ظنوا أنهم في منأى بسبب مركزهم الرفيع أو صلاتهم مع الغرب، لكن الولايات المتحدة وأوروبا لم تحمياهم، أو لم تستطيعا حمايتهم.
في شهر نوفمبر عام 2005، اعتُقل كمال لبواني، عالم فيزياء ورئيس مجموعة موالية للديمقراطية، في مطار دمشق إثر عودته من واشنطن، حيث التقى مسؤولين في إدارة بوش، فحُكم عليه بالسجن 12 سنة بتهمة ‘التواصل مع بلد أجنبي وحضه على شن اعتداء ضد سورية’، ويُعتبر الحكم الذي صدر بحقه في شهر مايو عام 2007 أقصى عقوبة فُرضت على منشق منذ تسلم الرئيس بشار الأسد زمام السلطة، وشكّلت قضية لبواني تحذيراً للناشطين السياسيين الآخرين. لكن المالح تجاهل هذا التحذير، فقد زرته مرات عدة خلال تلك الفترة، ووجدته متحمساً دوماً لمناقشة تعديات النظام، ويعمل المالح في مكتب في بناء متداع شُيّد خلال العهد العثماني في وسط مدينة دمشق، إذ ضمت غرفة الاستقبال ‘كنبات’ مغطاة بقماش مزيّن بزهور، و’لمبات فلورسنت’، ومروحة في السقف لا تكف عن الصرير، وعلى أحد الجدران علّق المالح شهادة قدمها له عام 2006 وزير الخارجية الهولندي: نيشان غوزن، الذي يحمل اسم منشقين هولنديين في القرن السادس عشر حاربوا الاحتلال الإسباني، لكن النظام السوري لم يسمح للمالح بالسفر إلى هولندا ليستلم الجائزة شخصياً، إلا أنه يفتخر بها جداً لدرجة أنه صنع بطاقات بريدية تحمل نسخاً منها، فضلاً عن شعاره: ‘معاً للحرية والشرعية’.
لا شك في أن المالح حزن جداً، غير أن ذلك لم يمنعه من التعبير عن رأيه بصراحة، فقد أخبرني في شهر مايو عام 2007: ‘لا أعتقد أننا مستعدون للتغيير… فالمعارضة ضعيفة والنظام قوي والوضع الإقليمي يميل لمصلحته، وقد سُلبنا كل تغيير أو تقدّم ديمقراطي أُحرز خلال السنوات القليلة الماضية… عدنا اليوم إلى خانة الصفر، أو حتى تحت الصفر’.
اليوم، يقبع المالح ومنشقون آخرون في أحد سجون دمشق، وأملهم الوحيد في الحصول على الحرية هو الضغط الدولي على النظام السوري.
محمد بازي* – صحيفة الناشيونال
*عضو في مجلس العلاقات الخارجية في مدينة نيويورك وبروفسور متخصص في الصحافة في جامعة نيويورك.
الجريدة الكويتية