السياسة الخارجية السورية استثمار في الجغرافيا
غازي دحمان
سوريا هبة الجغرافيا المعقدة، ربما بقدر ما هي مصر هبة النيل، وعلى مدار عشر سنوات من حكم الرئيس بشار الأسد أثبتت الجغرافيا حاكميتها وفعاليتها مكونا أساسيا وثابتا في الإستراتيجية السورية تجاه البيئتين، الإقليمية والدولية، والعكس أيضا.
فالجغرافيا نفسها كانت الشرط الشارط في إستراتيجيات تلك البيئات تجاه سوريا، فجميع المخططات والمشاريع التي صيغت في دوائر القرار الدولي بهدف تغيير الأوضاع في المنطقة، اصطدمت بحقيقة مركزية سوريا الجغرافية، وأن التغييرات التي قد تحدث بها من شأنها التأثير في استقرار المنطقة وبواقع المصالح الدولية بها، عند هذا المنعطف تمت فرملة عجلات مركبة (المحافظين الجدد) السريعة العدو، ومن زاوية النظر تلك بنت إدارة أوباما جزءا من رؤيتها للحل في المنطقة.
لقد تميزت سياسة سوريا الخارجية تجاه بيئتها الإقليمية والدولية بكونها نتاج عوامل موضوعية تكمن في أوضاعها التاريخية والجغرافية والثقافية، من دون أن يعني ذلك استبعاد الطابع والتأثير الشخصي لقادتها في صوغ سياستها الخارجية، من جهة أخرى، شكلت الخصائص الجيوسياسية لسوريا، لجهة موقعها ومركزيتها في الصراع العربي الإسرائيلي فضلا عن محاذاتها لتركيا والعراق وإيران، دورا مؤثرا في توجهات السياسة الخارجية السورية، لجهة بناء تحالفات سياسية معينة.
وترافق ذلك مع تميز صانع السياسة الخارجية بحس إستراتيجي عال، طالما تطابقت تصوراته لمركز سوريا مع توقعاته لحجم التغيير الدولي المحتمل في النسق الدولي، وذلك في إطار حسابات شاملة للعلاقة بين الأهداف والوسائل (الإستراتيجيات المتبعة)
واجهت سوريا إثر تسارع المتغيرات الدولية عقبات كبيرة في وجه دورها الإقليمي وتوجهاتها وسياستها الخارجية عموما، وكان ذلك نتيجة متغيرات مهمة في بنيان النسق الدولي وتوجهات السياسة الدولية في عصر هيمنة القطبية الوحيدة، وتراجع دور الأنساق والنظم الفرعية كالنظام الإقليمي العربي، وتراجع دور المنظمات والمؤسسات الدولية التي طالما استندت عليها دول العالم الثالث. وقد استجابت سوريا لتلك المتغيرات بمزيج من المرونة والصلابة، وهو ما حتم عليها اتباع تكتيكات مختلفة خلال مراحل متعاقبة.
غير أن التجاذبات الدولية والإقليمية المتعلقة بالصراع على الدور والمكانة في الشرق الأوسط أثارت التساؤل بشأن إمكان احتفاظ سوريا بدورها الإقليمي التقليدي، في ضوء التحولات في العلاقات الدولية وفي المنطقة العربية.
إنه الموقع والجغرافيا الذي توجد فيه سوريا في قلب منطقة تموج بالأزمات وعوامل الانفجار، خاصة مع تداخل ملفات إسرائيل وإيران والعراق أو تصادمها مع المصالح الدولية، خاصة ما يتعلق أخيرا بالملف النووي الإيراني. واستفادت دمشق من هذا الموقع الإستراتيجي وأهميتها لأمن هذه المنطقة سواء دوليا أو إقليميا في لعب أوراقها السياسية والقفز فوق الأزمات.
ولا شك أن إدراك صانع السياسة الخارجية السورية لعمق الموقع الجيوسياسي (بالتمركز غرب العراق الممتد إلى واشنطن بسبب وجود القوات الأميركية فيه، و«شمال» إسرائيل الممتدة أيضا إلى أميركا وأوروبا بحكم عملية السلام وجماعات الضغط اليهودية، وقرب لبنان التي حاولت واشنطن إدخاله في استقطاب إقليمي مستولد من لعبة دولية، وجنوب تركيا حليفة “ناتو” تاريخيا التي راحت تنظر إلى دورها بطريقة مختلفة وخلاقة في المنطقة، وشمال الأردن المجاور لإسرائيل والجسر الرابط مع الخليج ).
هذا الموقع المتولد من حتمية الجغرافيا قد ساهم في تقوية أوراق التساوم السورية، بل جعلها الورقة الأقوى من أي رهان آخر، وهو الذي ساعدها على التغلب على الانكشاف الإستراتيجي الذي حدث بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي، وذلك عن طريق بناء التحالفات والروابط مع القوى الإقليمية كتركيا وإيران.
وفي محاولة بدت على أنها استثمار في الوضع الجغرافي، سعت سوريا إلى إعادة تعريف دورها الإستراتيجي والاقتصادي في ظل الانفكاك من الهيمنة الخارجية على الإقليم. وإعادة تشكيل الوضع في المنطقة، طرحت سوريا مشروع (ربط البحور) كرؤية إستراتيجية لمستقبل المنطقة، وقد أوضح الرئيس بشار الأسد في العام 2004 من إسطنبول عند افتتاح المنتدى الاقتصادي السوري-التركي، هذه الرؤية بقوله “عندما نفكر لاحقا في أن هذا الفضاء الاقتصادي سيتكامل فنحن نربط بين البحر المتوسط وما بين بحر قزوين والبحر الأسود والخليج العربي”، وأضاف “نستطيع أن نتكامل في هذا المجال عندما نربط هذه البحار الأربعة، ونصبح العقدة الإجبارية لكل هذا العالم في الاستثمار وفي النقل وغيره”، ولا شك أن هذا الطرح يتقاطع مع حراك أميركي تركي إيراني، لذلك ما زال كثير من المحللين ينحو للنظر إلى هذا الحراك من زاوية تمحوره حول السياسات النفطية الإقليمية، حيث يتنافس اللاعبون ليس للسيطرة على مناطق جغرافية بعينها بل على خطوط الأنابيب وممرات الناقلات والعقود النفطية، كجوائز لهذه اللعبة الكبرى. وتبرز بالفعل أهمية الإقليم “جسرا للطاقة” يربط موارد الخليج مع آسيا الوسطى مع قزوين، إضافة إلى أن افتتاح خطوط نقل النفط والغاز يجعل من هذه البلاد من دون شك مهمة للطاقة العابرة، ما يعزز موقعها على الرقعة الدولية.
ونزولا عند منطق الجغرافيا واستجابة لمتطلباتها، وثقت سوريا علاقاتها مع إيران وتركيا وقطر، وأصلحت العلاقات مع السعودية، وأحيت الجزء الأكبر من نفوذها في لبنان، وأبقت على الروابط مع حزب الله، ومع حركة المقاومة الإسلامية (حماس). واستجابة لهذا المعطى الجغرافي سعى الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى التحاور مع سوريا والاستعانة بمساعدتها في تحقيق الاستقرار في العراق وفي مساعي السلام في المنطقة، ونجحت سوريا في العامين الماضيين بإخراج نفسها من عزلة دولية استمرت لعدة سنوات.
وتبدي واشنطن مزيدا من الاستعداد للانخراط مع سوريا بعد سنوات من تجنبها، ويرى كثيرون أن سوريا تتمتع بوضع مريح اليوم قوة إقليمية.
هي الجغرافيا إذن، أهم أوراق سوريا (منذ أيام طريق الحرير، وتوسطها مفترق طرق في جغرافيا القرن العشرين دولتين أكبر هما تركيا والعراق، ودولتين أصغر هما لبنان والأردن بحدود برية مشتركة. وهي أسواق واعدة للتجارة والاستثمار، يمكن أن تخلق -إذا توفرت الأدوات والفكر الصحيح- منطقة اقتصادية تموج بالنشاط بما يحسن دخل الفرد ويخلق وظائف جديدة ويطور التكنولوجيا)، كما أنها في الوقت نفسه تحمل الكثير من مكونات الانفجار والصراع، لوجود القضية الفلسطينية، وبالتبعية العامل الإسرائيلي، ناهيك عن عوامل الصراع الأخرى النابعة من المكونات الإثنية والطائفية التي تشكل العنصر الأساسي للمنطقة، التي من شأن إثارتها وإشعالها تهديد أمن واستقرار المنطقة برمتها، من قلب أوراسيا والشرق الأوسط وصولا إلى أفريقيا وربما أوروبا.
ستبقى سوريا عاملا إقليميا لا يمكن تجاوزه طالما بقي للجغرافيا دورها وبقيت السياسة السورية فاعلة في محيطها, وهذا ما يستوجب منها البقاء على اتصال بجميع الأطراف الإقليميين والدوليين, وستبقى السياسة الخارجية السورية من أهم مصادر مشروعية الدور السوري عربيا, طالما بقيت ملتزمة بالمصالح العربية والقضايا القومية.
الجزيرة نت