ظاهرة التكسب السياسي في الوسط الفني السوري

نجوم التمثيل والغناء ادوات ويفهمون السياسة علي انها تصفيق وولاء:

دمشق ـ القدس العربي ـ من محمد منصور: من خلال متابعتي الطويلة لأحوال الوسط الفني في سورية، وقفت علي العديد من الظواهر المرضية التي تشكل إما نسيج العلاقات الفنية بين الفنانين عموماً والأوساط السياسية والإعلامية والاجتماعية، أو تلك التي تشكل مادة لما يحدث في كواليس هذا الوسط.

الفنانون لا يحبون التحدث عن الكواليس، وهم يترفعون عنها رغم أنها تشكل محوراً هاماً من صراعاتهم لإثبات الذات وحماية مكتسبات الشهرة والنجومية… لكن رغم ذلك لا يمكن فهم وتكوين الصورة الحقيقية لأي وسط فني، دون الدخول في كواليسه الخفية… ليس بقصد التشهير والإثارة، وإنما من أجل معرفة الدوافع الحقيقية للسلوك الفني الذي يعتمد في كل شيء علي ثنائية المعلن والخفي.

ومن هذا المعلن والخفي، يمكن الحديث عن علاقة الفنانين بالسياسة، لأنها تمثل أخطر الظواهر التي تكشف عن طبيعة تفكير وسلوك أبناء هذا الوسط… وربما الأوساط الفنية العربية عموماً، التي تبقي مقاربة السياسة بالنسبة لها، أشبه بحقل ألغام، يحذر الفنانون التوغل فيه، ويفضلون إن خاضوا فيه أن يكونوا في صف الأنظمة الحاكمة عموماً… فظاهرة الفنان المعارض للسلطة، وخصوصاً إذا تحدثنا عن نجوم التمثيل والغناء حصراً، أي أولئك الذين يمتلكون أكبر قاعدة جماهيرية، تبقي ظاهرة محدودة واستثنائية، إما حفاظاً علي مكاسب الفن، أو خوفاً من الحصار الذي يمكن أن يضرب حول الفنان، في وسائل الإعلام المملوكة للأنظمة… أو في مراكز العمل الفني والإنتاجي التي تحتاج بشكل أو بآخر إلي رضا أجهزة الدولة الرسمية عليها.

نبيل المالح: الفنان أكبر من الأحزاب!

المخرج السينمائي نبيل المالح، ميز في الحديث عن علاقة الفنانين بالسياسية بين نوعين من الفنانين:

ـ الأول: الفنان المبدع صاحب المشروع، أي المخرج والكاتب…

ـ الثاني: الفنان النجم من مشاهير الممثلين والمطربين.

فيما يخص الفئة الأولي، رأي المالح أنه (ليس صحيحاً أن الفنان يمارس السياسة من منطق الولاء والتأييد والتصفيق، فهناك الكثير من الفنانين الذين يحملون موقفاً سياسياً وفكرياً، وإنما يتم إبعادهم أو إخفاؤهم أو إقصاؤهم عن العمل الثقافي الذي يحمل رؤية سياسية… فالعمل السياسي لا يكون فقط عبر الانتماء لحزب سياسي، أو نظام حاكم، وإنما هو موقف سياسي ومشروع تنويري… وهؤلاء سواء أكانوا ظاهرين ومتواجدين علي الساحة أم غائبين أو مغيبين، فهم سياسيون بالأساس… وهم لهم مشروعهم الخاص لأن الفنان يجب أن يكون أكبر من الأحزاب).

أما في ما يخص الفئة الثانية من نجوم التمثيل والغناء فقد رأي نبيل المالح أن هؤلاء طوال عمرهم ـ ومع الاعتذار منهم ـ ليس لديهم موقف سياسي… هم أدوات يعملون ويتقاضون أجراً، وكثير منهم لا يعنيهم حتي توجه العمل وماذا يريد أن يقول، يهتمون بالأجر والظهور… وبالتالي لا نستغرب أن يفهموا السياسة علي أنها تصفيق وولاء .

ويبدو أن نبيل المالح، يصر علي أصالة الموقف الخاص للفنان المبدع… فحتي مسألة حصار الأنظمة للفنان في حال اتخذ موقفاً سياسياً معارضاً لها، لا تبدو مبرراً كافياً من وجهة نظره: (بعض الفنانين يتذرعون بأنه تسهل محاصرتهم، أو هم يسمحون بأن يحاصروا، أو أنهم يرغبون أن يكونوا ضمن القطيع).

المخرجة نائلة الأطرش: حرب

علي الصوت الفني المعارض!

المخرجة والممثلة المسرحية السورية، التي عرفت بمواقفها المعارضة، وسبق لها أن منعت من السفر، لتوقيعها علي بعض البيانات السياسية، تنظر للمسألة من وجهة نظر مختلفة، وإن كانت تتقاطع في الجوهر مع ما قاله نبيل المالح، إذ تقول في هذا السياق:

أنا لا أستطيع أن أفصل حالة الفنانين عن حالة مجتمع، وعن حالة شعب كامل وهي ترجع الانطباع السائد عن ان الفنانين يمارسون السياسة من باب التكسب إلي مسألة (أن هناك حرباً علي إسماع الفنان لصوته المعارض… فالشيء الذي يمكن أن تسمعه في وسائل الإعلام، هو أصوات الفنانين المرضي عنهم عادة… ولهذا يحدث تكريس لآراء هؤلاء ومواقفهم، ويظن الناس أنها تمثل توجه كل الفنانين… بينما الجزء الآخر هو معتم عليه، ولا يستطيع إسماع صوته لأنه لا يمتلك قنوات إعلامية خاصة .

لكن نائلة الأطرش تعترف في الوقت نفسه: الفنانون المعارضون هم الأقل وليسوا الأكثرية… وهذا يعود في جزء منه برأيي إلي الخلفية الثقافية والفكرية التي جاءوا منها، والتي هي عموماً أدني من فئات أخري تتعاطي السياسة… لأننا لو أخذنا بعين الاعتبار كيف بدأ الفن في بلادنا، وكيف شق الفنانون طريقهم، فإننا ندرك أن كثيراً منهم لم يأخذ القسط الكافي من المعرفة الذي يمكن أن يشكل أرضية للوعي السياسي… وباعتبار أن الفنانين تسلط الأضواء عليهم بكثرة في المناسبات، فإنك تشعر أنهم يمارسون السياسة من منطق الولاء والتصفيق والتكسب… لكن التطبيل والتزمير ليس من الفنانين فقط، فبقية فئات المجتمع ليسوا استثناء من هذه الحالة).

وتكشف المخرجة نائلة الأطرش عن جوهر المفارقة في تعاطي الفنان مع السياسة فتقول: أشعر أن هناك مفارقة في هذا السياق، فبينما الفن في الأساس هو حالة معارضة، وبينما الناس تطالب الفنان بأداء رسالة لأن الفنان النجم بحد ذاته هو منبر… نجد ان الفن السائد عموماً هو اصطفاف وراء السائد… فالأنظمة تستخدم الفنان في حملات الترويج السياسي والتدجين لأنه حالة جماهيرية محبوبة، ولأن كثيرا من الناس ممكن أن يسمعوا له ويقلدوه ويصدقوه .

لكن نائلة الأطرش تعود لتؤكد في النهاية أن الحالة السورية ليست مقياساً: (كثير من الفنانين في الوطن العربي، سواء في المغرب وتونس والجزائر او مصر أو لبنان يشكلون صوتاً معارضاً لما يحدث في بلدانهم، وهم صوت مؤيد وداعم لأي مد شعبي له علاقة بحقوق الإنسان والحريات… ربما تجد في سورية هذا قليلا نسبياً لكن التعميم يظلم حتي جهود ومواقف هذه القلة .

الممثل فارس حلو: الفصل

بين مواطنية الفنان ومهنته!

الممثل النجم فارس حلو.. يشكل حالة قريبة من المعارضة، ليس بالمفهوم الحزبي والتنظيمي، بل بالمفهوم الوطني والتنويري… فقد وقع علي كثير من البيانات التي تطالب بإطلاق سراح سجناء الرأي، وكانت له مواقف مميزة قياساً لزملائه الفنانين المنضوين تحت راية سياسة التأييد المطلق… وهو يتجه في حديثه معنا نحو نقد أكثر شفافية لدور الفنان الذاتي، حيث يقول:

الفنان حين يمارس التكسب السياسي فلأنه ببساطة يريد أن يوظف السياسة خدمة لمصالحه الشخصية… وأنا أري أن الفنان يحق له أن يكون صاحب رأي في ما يجري من أحداث، لكن عليه أن يفصل بين مواطنيته ومهنته الفنية. الأنظمة (تتعربش) علي الفنانين وتدفعهم للظهور لتختبئ خلفهم، وخصوصا في الأزمات السياسية. وفي الوقت الذي يجب عليهم أن يظهروا أمام الناس كي يشرحوا لهم ما يجري، فإنهم يظهرون يتباكون ويبررون علي التلفزيونات الرسمية… وقد مرت أحداث وأزمات، شاهدنا فيها غياباً للمسؤولين وظهوراً للفنانين وكأن الفنان يملك حزباً أو رأياً .

ويري الفنان فارس حلو أن الخلل يكمن (من حاجة الفنان للنظام، ومن حاجة النظام للفنان وبئس هذه المجتمعات… فالفنانون يفترض أنهم سفراء فن وثقافة، وليسوا سفراء للأنظمة والأزمات السياسية… وعلي الفنان إذا تعرض لسؤال في أزمة سياسية أن يفصل بين مواطنيته وبين مهنته .

فنانون في مجلس الشعب!

تشمل كواليس العلاقة بين الفنانين والسياسة في الوسط الفني السوري أشكالا عديدة… فمن الظهور في المناسبات السياسية، ومن الاصطفاف الأعمي في حالة الأزمات… إلي الصداقات التي تربط بعضهم مع بعض الأجهزة الأمنية، وكثيراً ما استخدم بعض الفنانين هذه الصداقات للنيل من خصومهم من الصحافيين، أو لدعم عرض أعمالهم في رمضان علي شاشة التلفزيون السوري… وفي حالة دخول أبناء بعض المسؤولين علي خط الإنتاج التلفزيوني، كان الفنانون عوناً لهؤلاء في بناء شركات إنتاجية، اتخذت سلوكاً سلطوياً فاقعاً لا علاقة له بالفن لا من قريب أو من بعيد… وبمباركة من هؤلاء الفنانين الذين تبوأوا إدارة تلك الشركات، ووصل بعضهم من خلالها إلي مناصب أخري.

إلا أن الباب الشرعي الأبرز لمقاربة الفنانين للسياسة كان من خلال دخول هؤلاء كنواب إلي مجلس الشعب… وتحفل هذه الظاهرة بأسماء عديدة من أبرزهم (محمود جبرـ هاني الروماني ـ صباح فخري ـ أيمن زيدان ـ صباح عبيد) في حين رشح العديد من الفنانين أنفسهم ولم يتسن لهم الدخول كالفنانة مني واصف والفنان رفيق السبيعي والمخرج خلدون المالح والفنان عبد الفتاح مزين والفنان صالح الحايك. وقد ظهر الفنان ايمن زيدان في برنامج (مجلة التلفزيون) علي شاشة التلفزيون السوري ذات مرة ليشكر القيادة السياسية التي سمحت للفنانين بالدخول إلي مجلس الشعب… فنفي بذلك دور صناديق الاقتراع في تحقيق هذا المكسب.

وقد سألت المخرج نبيل المالح عن رأيه بالفنانين الذين دخلوا مجلس الشعب فقال:

هذه ظاهرة جيدة… أن يكون للفنانين صوت وممثل عنهم في مجلس الشعب، لكن ضمن مواكبتي ومعايشتي لتاريخ هؤلاء وأدائهم، أعتقد أنهم كانوا أصغر من هذه المسؤولية… علي الرغم من المكاسب الكبري التي تحققت للفنانين في سورية من إصدار قوانين وتشريعات، والتي لم تكن بأي حال من الأحوال بفضل نضال زملائهم تحت قبة البرلمان، بل بفضل النجاحات التي حققتها الحركة الفنية السورية علي الصعيد المهني .

أما الفنان فارس حلو… فقد قال عن هذه الظاهرة: ليس عندي مانع من أن يدخل أي مواطن مجلس الشعب… ولكن المطلوب أن يحقق نتائج لمن يمثلهم. للأسف الفنانون الذين دخلوا البرلمان لم يستطيعوا أن يدافعوا حتي عن مهنتهم… دخلوا المجلس كفنانين، واجتمعوا فيه كمواطنين بائسين .

ثمن باهظ!

في كل الأحوال تبقي تجربة الفنانين السوريين مع السياسية أسيرة أداء سياسي واجتماعي عام… وتلعب المصلحة الشخصية للفنان، ومسألة حب الظهور والشهرة، والبحث عن دور خارج مهنته أحياناً، من دون أن يضحي بمكتسبات هذه المهنة في الوقت نفسه… تلعب هذه المسائل دوراً في تحجيم الفنان، وفي تعزيز أداؤه وفهمه المنضبط والحذر لعلاقته بالسياسية في بلده وخارجه أيضاً… فالثمن يبقي باهظاً، وكلما كبرت جماهيرية الفنان وتوسعت مصالحه… كبر الخوف في داخله… وآثر الصمت أو التصفيق.