أسئلة إشكالية حول مفهوم اليسار والوطنية
عبد الكريم أبا زيد
أود أن أشير أولاً إلى أنني أطرح هذه الأسئلة للمناقشة دون أن يعني ذلك أنني أتبناها كلها. فأسلوب طرحي لبعض هذه الأسئلة قد يوحي للقارىء أنني أتبناها كلها، ولكني في الواقع أطرحها بأسلوب ندوات “الجزيرة” بهدف إثارة النقاش، وإلقاء الأضواء التفصيلية لتسهيل مناقشتها. ولهذا فإنني أرجو أن يكون النقاش في إطار الأفكار المطروحة وليس رداً عليَّ. فالأفكار عندما تطرح تصبح ملكاً للجميع، وعندما يتحول النقاش إلى مناكفة يفقد قيمته المنهجية والغاية المرجوة منه، وإن أسوأ أنواع النقاش هو الذي يُفقد صاحبه الحجة المنطقية فيتحول إلى “نِقار” شخصي ظاناً أنه بلغ ” سِدرة المنتهى”… لا يوجد، برأيي، مفهوم واحد لليسار. فما يعتبر موقفاً يسارياً في بلد ويحتاج إلى نضال مرير، قد يبدو ساذجاً ومضحكاً في بلد آخر. وعلى سبيل المقال، فإن اليساريين في السعودية يطرحون ويناضلون في سبيل السماح بسماع الموسيقى في الأماكن العامة وفتح دور للسينما والسماح للمرأة أن تقود السيارة وأن يمشي شاب وفتاة في الشارع يضحكان معاً دون أن تلقي عليهما القبض دورية “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، “بالجرم المشهود”، وتودعهما السجن مع الجلد. وقبل أن استرسل في طرح الأسئلة، أود أن أطرح سؤالاً إشكالياً: هل اليسار مفهوم عقائدي أم مفهوم سياسي؟ فإذا كان عقائدياً فليس هناك من يساري، بنظر العقائديين، سواهم، عدا الإسلاميين طبعاً، الذين هم إلى جانب الماركسيين والقوميين، يشكلون التيار العقائدي الذي يعتبر نفسه وحده على صواب والآخرين على خطأ. ولهذا فإن هذه الأحزاب عندما تستلم السلطة تعلن حالة الطوارىء والأحكام العرفية وتحل الأحزاب إلا حزبها، وتغلق الصحف إلا صحفها. وبما أنها لا تؤمن بتداول السلطة، فإنها تُجري انتخابات شكلية تكرس ديمومة سلطتها، وبالتالي فإنها “مضطرة” لملء السجون بذوي الأفكار المناوئة لها وتلصق بهم تهماً جاهزة: عملاء، خونة… إلخ أما إذا اعتبرنا مفهوم اليسار سياسياً، وأنا مع هذا المفهوم، فإن الأحزاب التي تدعي اليسارية ضمن هذا المفهوم، لا تُعتبر يسارية لأن من أول شروط اليسارية الإيمان بالديموقراطية وتداول السلطة. ففي البلدان البورجوازية الديموقراطية التي تعتبر اليسار مفهوماً سياسياً لا عقائدياً، هناك أحزاب يسارية وأحزاب يمينية، وأحزاب يسار الوسط وأحزاب يمين الوسط، وكلها تؤمن بتداول السلطة عن طريق صناديق الانتخاب، وتتنافس فيما بينها في البرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تطرحها على المواطنين. أما في البلدان التي تحكمها أحزاب عقائدية، فلا حاجة لبرامج انتخابية لأنه لا يوجد من ينافسها على السلطة اللهم إلا بعض البرامج والخطط الشكلية التي لا يعيرها الناس اهتماماً. هل الشيوعيون في بلدان المعسكر الاشتراكي كانوا يساريين، والمعارضون كانوا يمينيين؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يدافعوا عن أنظمتهم الاشتراكية التي حققت بالفعل الكثير من المنجزات الاجتماعية والذين كان تعدادهم عشرات الملايين وبيدهم أجهزة الدولة والجيش وأجهزة الأمن؟ هل طالبان التي أعادت أفغانستان إلى العصور الوسطى، فمنعت تعليم البنات وأغلقت مدارسهن، كما منعت المرأة من الخروج إلى الشارع إلا مع “مُحْرّم” والتي تنتج أكثر من 60% من حشيش العالم يوزعه تجار المخدرات في جميع أنحاء العالم، والذين حطموا أعظم تراث إنساني في أفغانستان وهو تماثيل بوذا، ذلك التراث الذي حافظت عليه الحضارة العربية الإسلامية طيلة قرون، هل طالبان هؤلاء وطنيون لمجرد أنهم يقاومون الاحتلال؟ إن من يقاوم الاحتلال يجب أن يعد الشعب بنظام يجعل الناس يشعرون بأن هذا النظام أمَّن لهم حياة أفضل، لا أن يجعلهم يترحمون على أيام الاحتلال. قد يمسكني أحدهم بالجرم المشهود قائلاً: ها أنت تبرر الاحتلال!! لا يا سادة! أنا لا أبرر الاحتلال، بل أدعو إلى مقاومته واعداً الشعب بحياة أفضل لا اسوأ. إن هؤلاء الملالي في أفغانستان الذين يعيشون مع الجواري ويعدون شعبهم بإعادته إلى حياة القرون الوسطى ليسوا وطنيين. إن الوطني هو من يحترم شعبه ويعيد إليه كرامته وحريته ويسمح له بالتعبير عن رأيه. هل “بول بوث”، جزار الشعب الكمبودي الذي أباد أكثر من مليونين من شعبه بطريقة وحشية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، يساري، لمجرد كونه يعلن أنه ماركسي، وماركس منه براء، فماركس إنسانّي قبل كل شيء وليس جزاراً. هل ابن “كيم ايل سونغ”، الذي ورث الحكم عن أبيه ويورثه الآن لابنه والذي أوصل شعبه إلى حافة المجاعة بحيث تقدم له المنظمات الإنسانية الغذاء ويصرف ثروات الوطن على صنع اسلحة وصواريخ وقنابل نووية لا تسمن ولا تغني من جوع بدل أن يصرفها على رفع مستوى معيشة هذا الشعب، ويجري استعراضات عسكرية بلباس لا يقدر عليه الجيش السويسري، ويسوم شعبه سوء العذاب، هل هو يساري لمجرد ادعائه أنه يتبنى الماركسية؟
أذكر، قبل ثلاثين عاماً أن سألني أحد أصدقائي: هل النظام في كوريا الشمالية أفضل من النظام في السويد؟ قلت له طبعاً، فالنظام الكوري الشمالي اشتراكي وقد سبق السويد بمرحلة تاريخية كاملة، فالشعب الكوري الشمالي يرفل في نعم الاشتراكية بينما الشعب السويدي لا يزال يرزح تحت نير الرأسمالية!! أليس الشباب والشابات البورجوازيون الذين يسافرون على نفقتهم الخاصة إلى كندا وسياتل وبرلين وغيرها من المدن التي تعقد فيها دول مجموعة العشرين، الأغنى في العالم، مؤتمراتها، فيصطدمون مع رجال الأمن ويسقط منهم عشرات الجرحى ويدخل مئات منهم السجون، احتجاجاً على نهب الاحتكارات العالمية للشعوب، أليسوا يساريين رغم أنهم لا يؤمنون بالماركسية. أليس دعاة حماية البيئة (حزب الخضر) الذين شكلوا أحزاباً غير ماركسية وأصبح لهم نواب في البرلمانات وينادون بإيقاف تخريب البيئة مطالبين أصحاب المعامل الكبرى بالتقليل من إنبعاث الغازات التي تلوث الجو وتسبب الانحباس الحراري، أليسوا يساريين، رغم أنهم غير ماركسيين؟
وأخيراً، هل الحزب الشيوعي السوري بأجنحته المتعددة يساري؟ وإذا كان كذلك، فما هي البراهين التي يقدمها للشعب السوري لإقناعه بأنه يساري.
* كاتب سوري