الدولة العربيّة وإشكاليّة الشرعيّة
كرم الحلو *
لعلّ الإشكال المركزي الذي أعاق حركة الحداثة العربيّة وأربك الخطاب السياسي العربي الحديث والمعاصر راجع في شكل أساسي إلى تعامل هذا الخطاب مع مقولة الدولة، ورهنها بما يسبغ عليها شرعيّتها من خارجها، باعتبارها في ذاتها مفتقدةً الشرعيّة، مفروضة على المجتمع، قائمة بإرادة غير إرادته، لا تعمل من أجله ولا تتماهى مع تاريخه ولا مع أماني جماهيره ومصالحهم، إنّها النقيض لأفكار الحداثيّين الليبراليّة وأماني القوميين الوحدويّة ومصالح الجماهير الطبقيّة. لا هي الدولة الحديثة ولا هي دولة الأمّة ولا هي دولة الجماهير ولا دولة الطبقة ولا الدولة القوميّة.
في خطاب الحداثيّين الليبراليّين الدولة العربيّة مفتقدة الشرعيّة الحداثيّة الليبراليّة، فهي مفروضة بالقوة والغلبة، ولم تقم بعقد اجتماعي أو بإرادة ديموقراطيّة شعبيّة يُركَن إلى نزاهتها وصدقها. لا هي تراعي المساواة المواطنيّة ولا هي تخضع للمساءلة الدستوريّة والقانونيّة، ليس هاجسها حقوق المواطن والإنسان، ولا تأبه لمبدأ تداول السلطة ولا للفصل بين السلطات.
وفي الخطاب الديني تفتقد الدولة العربيّة الشرعيّة الدينيّة، فهي ليست الدولة الممثِّلة لمجموع الأمّة ولا ترتكز بالكامل إلى المبادئ والقيم الدينيّة، بل هي في رأي بعضهم «دولة مارقة» تستلهم القوانين الوضعيّة الغربيّة المنافية لجوهر الدين القويم.
وفي الخطاب القومي الدولة العربيّة مفتقدة الشرعية القوميّة، إنّها دولة التجزئة القطرية «البغيضة»، دولة سايكس – بيكو المصطنعة والمركّبة من قبل الاستعمار، في مقابل الدولة القوميّة العربيّة المنشودة، دولة الوحدة العربيّة الشاملة، والتي من دونها لا تقدّم استقلالاً حقيقياً ولا ديموقراطيّة فعليّة.
وفي الخطاب الاشتراكي، الدولة العربيّة مفتقدة الشرعيّة التمثيليّة للأكثريّة الشعبيّة، إذ هي من منظور هذا الخطاب دولة القهر والعنف الطبقيّين، دولة القلّة المهيمنة على المنافع والثروات في مواجهة الأمّة المحرومة والمغلوب على أمرها، بل إنّها «شرّ يجب التخلّص منه» من أجل الخلاص من حالة الاغتراب الفردي والجماعي، وإنّها التناحر الطبقي والصراع بين الأمم والشعوب.
وتعاني الدولة العربيّة من اللاشرعيّة الوطنيّة، فهي ليست دولة «الوطن» بكل مكوّناته الاجتماعيّة، الإتنيّة والدينيّة والطائفيّة والقبليّة. إنّها في الغالب دولة «فئة» أو «جماعة» مغتصبة كلَّ المكوِّنات الأخرى، تهيمن عليها زوراً وخداعاً باسم «الوطن» مقدمة مصالحها الفئويّة على المصلحة الجماعيّة.
أما اللاشرعيّة الأدهى التي تحيق بالدولة العربيّة، فهي اللاشرعيّة الأخلاقيّة التي تهدّدها من داخلها، فالبلدان العربيّة في أكثرها تحتلّ مواقع متقدّمة في تقارير منظمة الشفافيّة الدوليّة عن حالة الفساد في العالم، إذ ثمة فساد ماليّ وإداريّ كبير، وثمة استغلال للنفوذ من أجل مراكمة الثروات ولو على حساب مصالح المواطنين وسلامتهم، وثمة استنسابيّة وزبائنيّة في الوصول إلى المراكز ومواقع القرار، ولو من خلال التضحية بكل القيم الأخلاقيّة، لكأنّ مقولة عبدالرحمن الكواكبي «أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفة ورتبة» لا تزال هي القاعدة التي تحكم سلوك الدولة العربيّة إجمالاً.
إنّ إنهاء لا شرعيّة الدولة العربيّة يكون بإعادة الاعتبار إلى مقولة «الدولة» بوصفها الإطار المواطنيّ المتقدّم والجامع على رغم كل التناقضات البنيويّة التي تعتورها، والتعامل معها على أنّها الشكل الأرقى للتنظيم الاجتماعي الذي خطا خطوات جبّارة بانتقاله من التجمّعات السلاليّة والعشائريّة والإقليميّة إلى مجتمع الوحدة المدنيّة والمواطنيّة. ما يوجب إنهاء حالة الحرب بينها وبين الأمّة، والعمل تالياً في إطارها ومن داخلها، إذ لا نهضة ولا تقدّم ولا إصلاح ولا ديموقراطيّة ولا عدل اجتماعيّ إلا في الدولة التي من دونها الفوضى والارتكاس إلى الوراء وتمزّق المجتمع إلى عصبويّاته، وعليه فالمعركة الفعليّة يجب أن تتوجه أولاً، لا إلى الدولة، بل إلى المعوقات التي تهدّد شرعيّتها وكيانها ووحدتها، بإزالة الغربة والعداء بينها وبين الناس، ومصالحتها مع المجتمع بتحوّلها إلى دولة حديثة. في بوتقة الدولة وحدها يمكن إيجاد الأجوبة لكل الإشكاليّات التاريخيّة المتمادية، أما مناصبتها العداء فاستمرار لأزمة العالم العربي بشكل ينذر أكثر فأكثر بالانزلاق نحو الحرب الأهليّة وإبقاء كل أسئلة النهضة والحداثة معلَّقة ومؤجَّلة.
* كاتب لبناني.
الحياة