صفحات مختارة

أفول المثقف العضوي

د.خالد الحروب
تمتعت طلائعية المثقف وريادته ودوره في الشأن العام بدعم إضافي في النصف الثاني من القرن العشرين نتيجة انتشار الإعلام الجماهيري كالصحف، والإذاعة، ثم التلفزيون. وحدث هذا التغير الإيجابي في معظم المجتمعات وتجاوز تصنيفاتها المتنوعة كمتقدمة أو نامية. وفي كل وضع اجتماعي وعام بدا وكأن المثقف يتسنم دوراً متصاعداً جوهره الدفاع عن قيم العدالة والانتصار للمظلومين ونقد السلطات وبعض الأنظمة الإكراهية التي تنزع بالتعريف نحو التهام مساحات حرية الأفراد، ومصائرهم. وفي العالم المتقدم، أو الغرب، ومن رماد الحربين العالميتين اللتين أطاحتا بعشرات الملايين من البشر انتفض مثقفون ينطلقون من خلفيات متعددة ينتقدون السُّعار الذي قاد إليه العلم الحديث في إحلال الدمار الذاتي بالعالم والبشرية. وقد وضع مشروع الحداثة برمته على محك النقد والتفكيك لاستكناه جوانب الضعف الفلسفي التي تتيح لجبروت القوة وإغرائها وغطرستها أن يفلت من أية قيود كوحش قاتل قمين بالقضاء على كل جوانب الحياة. وكان السؤال الوجودي الذي أقض عقول جيل من المثقفين: كيف يمكن للعلم الذي راهنت عليه أوروبا للخروج من ظلام القرون الوسطى وسيطرة الدين الاستعبادية أن يدفع مجتمعاتها وقادتها إلى حواف الجنون والتدمير الذاتي والعنصرية وأنواع الاستعمار والحروب التي لا تنتهي. وكانت الحسابات والأفكار العقلانية “الكانتية”، نسبة لـ”إيمانويل كانت”، التي تبشر بعالم ينقاد نحو السلم العالمي في مسار الدمقرطة الجماعية الحتمية، قد ألهبت خيال كثيرين في القرن التاسع عشر، ودفعت بهم نحو تأمل عالم مثالي موحد. ولكن الهزيمة المدوية التي تعرض لها الفيلسوف “كانت” على أيدي واقعية ووحشية “توماس هوبز” وتقديمه للحرب والصراع في حياة البشر والمجتمعات والدول، كانت أكثر من كافية لتعيد الزج بكل الأفكار التفاؤلية أو خطية المبتدأ والمنتهى في أتون إعادة النظر والنقد والتشكيك.
وأهم نتائج إعادة النظر تلك كان في صك قانون الشك في القوة والسلطة وإحاطتهما بكل سبل التحوط والتقييد خشية الانفلات ثانية باتجاه الحروب والتدمير. وكانت تلك لحظة حاسمة وكبيرة من لحظات الاختبار الكبير للحداثة السياسية، بتمثلات وشطط قوتها الفائضة، سواء داخل أوروبا أو خارجها، وتمثلات بدائلها الآسيوية (وتحديداً التغول الاستعماري الياباني). وكان المثقف واقفاً في قلب تلك اللحظة وموجهاً لها: فلسفيّاً، وسياسيّاً، وقانونيّاً، وفنيّاً، وإعلاميّاً. وتطور وعي ما بعد الحرب النافر منها ومن كل السياسة التي تقود إليها، والمؤمن بإمكانيات الإنسان في إيجاد تزاوج ومصالحات بين المصالح المتنافسة والمتضاربة عوض حسمها بالحرب، أو على أقل تقدير حسمها بطرق سلمية وتفاوضية.
في الجزء الآخر من العالم، أي في العالم الثالث أو النامي، وقف المثقف في قلب عملية تحول تاريخي أخرى متمثلة في التحرر ونزع الاستعمار، والاستقلال الوطني. وفي معظم، إن لم يكن في كل، حركات التحرر الوطني في العالم المُستعمَر برز مثقفون مناضلون كانوا ضمن “الطليعة الثورية” التي حملت على عاتقها عبء مقاومة الاستعمار، وعبء النهوض بمجتمعاتها من حقبة التخلف. وقد انضوى هؤلاء في معظمهم تحت تعريف المثقف العضوي، أو المثقف الغرامشي، المنتمي إلى طبقة أو حزب أو مجتمع، والمدافع عن حقوقه والمنافح عنها ضد الاستغلال وقواه متنوعة المصدر. وانخرطت أجيال من المثقفين العضويين في الصراع الدامي خلال حقبة التحرر، وكانت المعركة المزدوجة، ضد الاستعمار من جهة والاستبداد من جهة ثانية، طويلة ومريرة ومكلفة.
ومع انقضاء حقبة الحروب الغربية المليونية وانتهاء مرحلة الاستعمار المباشر تسيَّدت مفاهيم النقد ما بعد الحداثي في النقد السياسي، وتموضعت معاول التشكيك والتفكيك بجهوزية دائمة مدعومة بإعلام مفتوح وشبه حر للهجوم على تغولات السلطة والقوة. ومع حلول حقبة الاستقلال الوطني في العالم المُستعمَر سابقاً، ومرور عقود على تسلط جديد من الحكم الوطني واستبداداته وفشله، تسيّدت مفاهيم جديدة من النقد الذاتي تتجاوز الشكوى المرَضية المتجذرة بإحالة كل أنواع الفشل على الاستعمار والعدو الخارجي. وقد اختلطت الأمور بشكل أكثر تعقيداً مع عولمة الإعلام وتفرع جهاته وأدواته وعبوره الدائم نحو حدود جديدة. وبشكل تدريجي تمكن الإعلام من انتزاع دور النقد وهو الدور التقليدي لمثقف القرن العشرين سواء في العالم المتقدم أو العالم النامي. وبسبب السطوة الكبرى لهذا الإعلام، واتساع نطاق التواصل الجماهيري الذي حققه فإن المثقف وإنتاجاته النقدية وغير النقدية تحولا إلى مادة تحاول إيجاد موطئ قدم لها في إمبراطوريات التواصل الدعائي الجديدة. صحيح بطبيعة الحال أن المنتج النقدي، أو الكلمة، بقي هو أس الإعلام، وأن الجوهري في العملية الإعلامية ظل معتمداً على النص، ولكن هذا النص ومع اقتحام الصورة له على وجه التحديد، اضطر إلى أن يتنازل كثيراً عن عمقه الفلسفي، وأحياناً عن نبرته التحريضية، وفي كل الأحوال عن إسهاباته وتوسعاته التي لا تسمح بها العملية الإعلامية المُعتمدة على الإيقاع السريع والمحددة بسيف الوقت في كل الأحوال. وهكذا وقعت العملية النقدية ودور المثقف معها في أسر اشتراطات الإعلام الجديد الذي وحده يصل إلى الجمهور بأوسع نطاق. وبقي الدور التقليدي للمثقف قائماً في مساحات أخرى من الإعلام نفسه كالصحافة وإنتاج الكتب وسواهما. ولكن درجة تواصلية تلك الأدوات مع الجمهور تعرضت وما تزال تتعرض لأزمة حقيقية مع تسيُّد الإعلام المتلفز والعابر للحدود والقارات. كما تزايد أفول دور المثقف وتأثيره التقليدي أمام بروز أنماط إعلامية ونجومية وشعبوية جديدة قدمت أولوية إيصال ثقافة مسطحة على نطاق واسع على أولوية تقديم ثقافة معمقة لكن محدودة الانتشار والتأثير. وكان ذلك وما زال عودة إلى جدلية قديمة وصراع متأصل بين الثقافة الأفقية الهشة والثقافة العمودية الرصينة. والمثقف الواقع تعريفاً، والمنحاز بداهة، مع أنماط الثقافة العمودية والعميقة يجد نفسه الآن في حيرة وأزمة حقيقية بين الاندراج في التسطيح الواسع الانتشار، أو البقاء مع التعريف التاريخي محدود التأثير.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى