صفحات مختارةميشيل كيلو

عن القوة والعصبية بين ابن خلدون ومكيافيللي

ميشيل كيلو
على حـد علمــي، كان ابن خـلدون أول عالــم اجتمــاع وفيلسـوف حضـارة لفت الأنظار إلى ما أسماه العصبية، التي اعتبرها ضرورية لتأسيس الدول، وعدها مصدر قوة أية جماعة بشرية، وعد القوة واحدة من المظـاهر الملازمـة لها، فهي تكــون شديدة أو واهنة بقدر ما تكون العصبية التي تحمـلها قوية أو ضعيفة.
والعصـبية رابطة روحيــة/ عضوية، دينيــة أو دنيــوية، تؤسس في قوم أو جماعة شعـورا قويا بوحدة الانتماء والهدف، المواقف والتصرفات والغايات، طلبا لمصلــحة وسلــطان هنا، أو دفاعا عن مصلحة وأمر قائــم هناك، أو كسبا لمكانة لم تــكن لهــا في الحالــة الأولى، والمحافظــة على مكانـة وموقـع وتاليا مصالح في الحــالة الثانية. ومع أن الجـماعات قد توجـد دون عصبية كهذه، عندمــا تكون جــماعة خامــا أو في حال الطبيعة، فإنها تنتــقل مع تبلور عصبــيتها المتــصلة بغاية عــامة تتجـاوزها من حال الطبــيعة إلى حال السياسة، وتاليا حال السلطان والتحــضر، فلا ســياسة أو تحــضر دون عــصبية سياسية، أكانت دينية أم قبلية أم عضــوية. كمـا أن عقد الجمــاعة السـياسي لا ينفرط دون فقدان آصرة العصبية التي حملتها إلى الحكم، والتي يمهد تراخيها وضعــفها لحــلول عصبية أخرى محلها، تقبل عندئذ الانضواء فيها أو الرضــوخ لها، أو مغادرة إقليمها.
على حد علمي، لم يعرف ميكيافيللي مفهوم العصبية كرابطة فطرية تشد الجماعة وتلهمها. لكنه رأى جانبا آخر هو العصبية السياسية، عصبية الإمارة (السلطة)، التي أقام علــيها رؤيته الخاصة حول نمط من ممارستها يتكفل بجعلها ناجحة ودائمة، فكأنه رأى في السلطة عصبية خاصة بالأمير، وفي الأمــير تعبيـراً عن العصبية السياسية وتجسيماً لها، لذلك أوضح بأمثــلة تاريخية من الماضي والحاضر كيف يجب عليه بناؤها واستخدامها، كي لا يكون تحت سطوة أحد أو اعتبار، ويكون الجميع تحت سطوته وسلطانه.
ـ في الحـــالة الأولى، كان ابــن خــلدون يصــف ما جرى في واقع تاريخي عاشه أو تأملــه، ويقدم فرضــية عـن صعــود الممالك وانحدارها، والعوامل التي تسهم في الحــالتين، والمراحل التي تمر العصبية فيها، عـند الصعــود، وتلك التي تسبب انهيارهــا أو انحدارها، في حالتي الغلبة والملك. إنه، إذاً، وصف يتلمس قوانين تطور ما يمكــننا اعتــباره البنــية التحــتية والفوقية للجــماعــة، التي تلازم حالتين متلازمتين من السياسة هما الجماعة المزودة بدعــوة تنتج القــوة فالمــلك وتولدانهما من آصرة هي العصبية: الأرضية التي ينهضان عليــها وتخــترقهما، فإن كانت وطيدة وراســخة كــان المـلك قوياً وإلا تهــافت وترك مكانه لبديل تتوافر فيه تلك الشــروط، التي كانــت قد توافرت لها في طور صعودها، وستتوافر لمن يخلــفها في طور ضعــفها وهبوطها، القادم حتما، بقوة حقــيقة يؤكدها الواقع تقــول إن للملك دورة من مراحل خمس لا يتخطاها، تأخذه تدريجيا إلى نقطة ذروة يبدأ بعدها الانحدار والضعف، إلى أن يزول على يد عصبية جديدة.
أما في حالة ميكيافيللي، فإننا حيال طريقة في التأمل تنصب على بنية سياسية فوقية تشرحها أمثلة تاريخية مختلفة، يتباين قصدها كل التباين عن قصد ابن خلدون. يركز مكيافيللي على طرق إنتاج السياسة انطلاقا من الأمير، صاحب الملك ومجسد عصبية هو صانعها، فلا بد أن يكون مستقلا عن أي شيء: من اعــتبارات وأسس الحكم الأخلاقية والتقليدية، التي تلزمه بسلوك محدد لا يحيد عنه في مختلف الأحوال، إلى اعتباراته الشخصية والخاصة، وإلا ضعف وقيد يديه، وفشل في تحقيق أمر واحد يجب ألا يحيد عنه هو مصالحه المتغيرة من حــال إلى أخرى، وتتــطلب أنمــاطا من السلوك متبدلة بدورها تحددها حسابات بــاردة لا أثر فيها لعاطفة أو أخلاق. هنا، لا يكون الأمير قويا بقــدر ما تكون عصبية الجماعة التي تسانده فتية وقوية، مثلما هي حالها عند ابــن خلدون، بل يكون قويا بقدر ما تستقل سلطته عن أية عصبية خارجها، وخارج السلطة التي تستمد منه، وبقدر ما يكون هو نفــسه منبع أية عصبية ونقطتها المركزية، والجهة التي تنتجها، وتحدد طابعها وقوتها.
لا يريد ما سبق عقد مقارنة بين مكيافيلــلي وابن خــلدون. إنه يريد التذكير بنموذجين فكريين ربط أولهما بين الأميــر والقوة، التي هو منتجها ومصدرها، وثانيهما بين عصبية جماعة صاعدة إلى السلطة، وعصبيتها وهي فيها، ثم وهي تغادرها، وبين قــوة حكم وجد أن درجتها تتناسب وشدة العصبية وحيويتها. كمــا يريد التذكير بنظرة ترى في الجماعة محل القوة الناجمة عن العصبية، وأخرى مغايرة ـ مكيافيللي ـ تعتبر الأمير منتج عصبيته الخاصة، التي يفرضها على الجماعة. إلى هذا، يريد هذا النص التأكيد على أمرين:
ـ أن رابطة الوطنــية الحديثة هي ضرب من عصبية قد تؤهل جماعة ما لامتــلاك القــوة وقد لا تؤهلــها لذلك. ومثــلها العصبــيتان القومية والإنسانية. فالعصبية لا تنتج القوة إن لم تستند إلى دعوة تتخـطى بواسطتها ذاتها، وتنتقل إلى أشكال تتجاوز حالتها الطبيعية: أشكــال عامة، سيــاسية وحضارية تشارك الجماعة فيها. فإن لم تمتلك دعوة بدلالة الملك، كانت عصبيتها خاوية، فارغة، أقرب إلى حال الطبيعة منها إلى حال السياسة، وتاليا حال الحضارة، مثلما هي عصبيات العرب في أيامنا.
ـ إذا لم تمتلك العــصبية ـ أتراها بالأحــرى العــصبيات؟ ـ العربيــة دعــوة جديــدة تقوم على الإيمــان بضــرورة تخــطي حالها الراهن، انطلاقــا من بــنية تحــتية هي جماعة حديثة: وطنية وقومية، فإنها لن تبارحه، لأنها لن تجد حوافــز روحية ومعنــوية تدفعها إلى الخروج منه والانخراط في حال نقيــضة تتحول العصبية فيها إلى قوة سياسية وحضــارية تتفاعل وتتــكامل مكونــات الجمــاعة فيها بعضــها مع بعض، وتكتسب طابعا غائيا لم يكــن لها قبل العصبية، يحــفزها على الانتــقال إلى حال تمكنها من تحقــيق مقاصد كانت عاجزة عن بلوغها، لاختلاف بنيتها الاجتماعية المشــحونة بالعصبية عن سابقتها، واكتسابها قدرات تمكنها من إنجاز ضروب من التــقدم تتفق وحالتــها الجــديدة، في دورة تطــور حدها الأول استيعــاب ممكنات وقدرات لم تكن مألوفـة في ماضيها، وحدّها الثــاني انعكاس هذه الممكنات والقدرات عليها وتزويدهــا بمقــومات لم تكن لديها من قبل، وهكذا دواليك، مما يخالف فرضية المراحل الخمس، التي تبناها ابن خلدون وهو يقرأ تجارب الملك الملموسة في عصره.
ثمة هنا ملاحظة تفرض نفسها: بينما أدى ظهور الأمير العربي الحديث، الوطني أو القومي/ الاشتراكي، إلى تكريس نمط من الملك قاد شيئا فشيئا إلى تقويض الجــماعة والعصـبية العربيتين، أسس الأمير الأوروبي، الميكيافيللي الأصل، جماعة وطنية وقومية استند إلى عصبيتها، التي تبلورت وتوطدت على حساب عصبيته، التي غدت عصبية حكم غير فردي أو شخــصي، مثلمـا هي حالها عند أميرنا العربي الحديث. هكذا، انتقلنا نحن من عصبية جماعة يجسدها الملك إلى ملك لا هم له غير تقويض العصبية بتقويض حاملها: الجماعة العربية الحديثة. بينـما قبل الأمير الأوروبي عصبية أحلت الجماعة محلـه وجعلت ملكه مؤقـتا ومشروطا بقبولها.
وملاحظة أخيرة يضمرها المنطــق الخلدوني، هي أن العصبية التي لا تستخـدم تضعف إلى أن تبلى وتزول. ليست العــصبية قوة دفينة تحافظ على نفسها في القلوب كما تحافظ المياه الجوفية أو الثروات الباطنية على نفسها في الأرض. العصبية التي لا تستخدم تنفد، فإن استخدمت ضد عصبــيات أخرى دون أن يقترن استخدامها بدعوة غايتها الملك، انصبت على مشكلات صغيرة أو خلافات عابرة أو مصالح طارئة، وكانت عامل تمزيق وإضعاف لا عامل توحيد وقوة، وصارت، مثلما نلاحظ ذلك في واقعنا العربي، عصبية دنيا، تفتح أبواب الهاوية بدل أن تساعد على الارتقاء إلى حال أعلى.
لا قوة بلا عصبية تبعث عليها. ولا عصبية دون دعوة تعطيها مضموناً يتكفل بنقلها من حالة الطبيعة والركــود إلى حالة السياسة والحراك الحضاري. مشكلتنا، نحن عرب هذه الأيام، أننا بلا دعوة وحراك، وأن عصبياتنا الســائدة، بما فيها من طابع تشـتيتي/ تمزيقي، انقلبت إلى خناجر انغرست في قلوبنا، وأن العصبيات الدنيا الخاصة بكل جماعة ومجتمع من جماعاتنا ومجتمعاتنا، قوضت العصبية العليا الجامعة، التي لا نهوض لنا بغيرها، وأن الإمارة، التي ربط مكيافيــللي مصير الجماعة بمصيرها، وأوكل إليها مهمة توحيــدها وتقويتها، تحــولت إلى سلطة تشبه كثيرا ملك المرحلة الـخامسة الآيل إلى الزوال، فهي ضيقة الصدر محدودة الأفق، شخصية وغارقة في الفساد والفجور، لا تجد ما تديم من خلاله ملكها غير القضاء على أية عصبية مجتمعية يمكن أن تحمل بديلا منها، مع أنها تفشل في، أو تعجز عن وقف انغماسها في حال من التهتك هو آخر أطوار دورتها الحياتية، وعلامة دامغة على فساد دورها، الذي يطاول كل شيء: من مجتمعها إلى ملكها!
ربط مكيافيللي تقــدم الجماعة بالأمير ـ السلطة والدولة ـ وربط ابن خلدون الدولة بالجماعة، وجــعل عمرهــا من عمر عصبيتها، التي تنتــجها دعوة خاصــة تنفرد بتبنيها، تترجمــها إلى ما نسمــيه اليــوم «شأنا عــاما» هو شــرط بدء دورة حكــم جـديدة. ثم يقال لنا إن تاريخنا كان دوماً تاريخ الملوك أو الحكام الأفراد!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى