هل تكون الديموقراطية رحمة الشعوب المعاصرة؟ –
منى فياض
تتنازع مجتمعنا وجهتان، واحدة تنحو للإفادة من تجارب الماضي ومحنه ومن الاتجاه العام الذي يشهده التطور العالمي على صعيد حقوق الانسان وسيادة القانون والممارسة الديموقراطية، ليس فقط بمعناها السياسي الضيق، لكن كنمط عيش يتبين حتى الآن أنه الأفضل الذي استطاع الانسان ان يطوره عبر تاريخه الدامي. وثانية ذات اتجاه سلطوي، تأخذ قشور الديموقراطية وتعابيرها وتفرغها من فحواها.
هذا الاتجاه الأخير يجد جذوره، في نمط العيش الذي يتجدد في الكثير من عاداتنا وتقاليدنا، لكن المؤسف أننا نساهم جميعنا في مدّه بأسباب الحياة والاستمرار من طريق المؤسسة الأكثر انتشاراً، التي لم يعد من الممكن الاستغناء عنها في المدى المنظور، أقصد المدرسة. يكون ذلك عبر اعتماد طرق التعليم السلطوية بشكل واسع. ففي المدرسة التقليدية يتحصل النظام بجعل المهام أصعب فأصعب، حيث المعلم هو السلطان في قاعة الصف؛ والخضوع والطاعة لشروطه هما من الفضائل المدرسية الأهم من المبادرة والاستقلالية عند التلميذ. كذلك هو الوضع في بيئاتنا ذات الاصطفاف الجماعي والتبعية لسلطة أعلى. هذه الروح الاجتماعية التي تميز الصف، تميز الجماعات. فإذا كان التلامذة ينتظرون تعاليم المعلّم، فإنهم ينتظرونها من الزعيم أو المرشد أو القائد أو الجنرال. لا فرق هنا بين شيعي وسنّي ومسيحي ودرزي، إلا بقدر ابتعادهم عن مثل هذه الاصطفافات وتشكيلاتها، وهم ربما ليسوا قلة لكن وجودهم على الهامش يخفف ظهورهم.
أفضل مَن عرض دور التربية في نشر الديموقراطية، هو ديوي، في نظرية التربية المناسبة التي اقترحها لتكوين المواطن المتنور المقتنع بأهمية الديموقراطية لمعالجة مشكلات الحياة العامة من دون اللجوء الى العنف. تبدو هذه النظرية الأكثر مناسبة في وقت يجب أن تكون الديموقراطية اكثر من مجرد شكل للحكم. المجتمع الديموقراطي الحقيقي هو في الجوهر نمط حياة متشاركة وتجربة عامة تتقاسمها مكوّنات المجتمع الانسانية.
نحن في مرحلة تحصل فيها تغيرات متعددة، ولكي ينجح التغيير ولا يبقى على مستوى السلطة الخارجية فقط، يجب أن يترافق مع التغير الداخلي للاستعدادات الذهنية والاخلاقية. وحدها التربية يمكنها تحقيق مثل هذه التحولات. لكن التربية تحتاج الى وقت. من هنا يجب العمل الجدي على إيلاء المدرسة الدور المهم الذي يمكن أن تضطلع به لجعل الطفل يتشرب الروح الديموقراطية منذ صغره.
المجتمع الجيد هو المجتمع الذي نجد فيه أكبر نسبة من التجارب المتشاركة. شكل المجتمع الذي يملي أفضل من غيره هذه المميزات، هو المجتمع الديموقراطي. واذا كانت للديموقراطية عيوب، فهذه سوف تشفى من طريق المزيد من الديموقراطية. فالديموقراطية المصممة بهذه الطريقة، ليست مجرد شكل لنظام سياسي، إنها بالاحرى نمط حياة من الشراكة والترابط. ينطبق هذا الترتيب على الاسرة والكنيسة وعالم الأعمال، كما على السياسة والتربية.
الفوائد التربوية للمجتمع الديموقراطي واضحة وأكيدة. هنا يمكن إعطاء سبب سطحي: عندما يكون الشعب هو الحاكم، تتوقف الحكومة المتنورة على نوعية التربية التي للناخبين. أما السبب الأكثر عمقاً لدور الديموقراطية في التربية، فيأتي من الأولوية التي تعطيها لتعلم إنجاز النشاط على ضوء المشاركة الأوسع للتجربة لأكبر عدد ممكن من الناس. هذا لا يتطلب فقط الحرية الواسعة بهدف الاشتراك في التجربة، لكن ايضا قلب السدود القديمة التي تعوق حرية التواصل، من عرقية الى طبقية وطائفية.
بإتمام عمله بحسب هذه المبادئ، يمكن المعلم ان يتخلى عن كل فكرة تجعل منه ديكتاتورا أو مستبداً في صفّه. المدرسة الديموقراطية تسمح للاطفال باستبعاد مباشرة كل مشروع لا يهتم بالمشاركة فيه سوى المعلم الذي يأمر به. وهي تشجع، كبديل من هذه السلطة، الاستعدادات والاهتمامات الطوعية التي يباشرها الاطفال انفسهم. المبادئ الديموقراطية المطبَّقة في الصف، تطبَّق هي نفسها في النظام الاداري للتعليم، لكي تنمّي لدى الطفل مشاعر التعاون المتبادل ومشاعر العمل بطريقة إيجابية من أجل الجماعة. من هنا يتنمّى حس الترتيب والانضباط، ليس انطلاقاً من إملاءات المعلم، لكن انطلاقاً من احترام نابع من الطفل للعمل الذي ينجزه، ولوعيه المكتسب بالحقوق التي للأفراد الآخرين الملتزمين الأجزاء المتبقية من المهمة المشتركة. كذلك يتم البحث عن جعل الأنشطة المدرسية مشوّقة تماماً وبالطريقة نفسها التي للأنشطة خارج المدرسة، كما أن الجو المعنوي في المدرسة يتوقف على المشاركة في الحاجات المعنوية الموجودة التي نجدها في الخارج.
ان للديموقراطية في التربية معنى اخلاقياً في التحليل الاخير. ولا يشكل الأخلاقي والاجتماعي بالنسبة الى ديوي سوى واحد. العلامة الأخلاقية لمجتمع ديموقراطي هي انه يتعامل مع التجربة بشكل يشرك معه الشباب في إمكانات الادارة الذكية للأعمال الاجتماعية. وتتحدد التربية الملائمة في مشاركة الطالب ليس فقط في الرأسمال المستند الى التجربة البشرية، بل في تجربة عمل ونشاط بحسب قراراته الخاصة ايضا. في اساس هذه العقيدة، ثقة في الذكاء الانساني وفي حكمته في ادارة الأمور في عالم محفوف بالأخطار.
ان المدرسة الديموقراطية التي تعلم طلابها التصرف في جماعاتهم على ضوء المشاركة الممكنة الأكثر اتساعاً لتجربتهم، منذورة لأن تلعب دوراً في إعادة بناء النظام الاجتماعي. التربية والسياسة، من وجهة النظر هذه، هما شيء واحد من حيث أن لكل واحدة منهما مزاعمها في الإدارة الذكية للشؤون الاجتماعية. أما عن دور الدين في المدرسة فلا يكون من طريق الدروس التلقينية الجامدة. المدرسة الرسمية تقوم بعمل ديني ذي مغزى لا حدود له عند محاولتها القيام باستيعاب التلامذة من مختلف الطبقات الاجتماعية والتقاليد الوطنية والمذاهب الدينية. هنا توجد على الأقل بداية لوحدة اجتماعية، يجب ان ينتج منها، في المستقبل، كل تسامح ديني حقيقي ¶
النهار