حزب الله ليس تنظيماً شيوعياً
وسام سعادة
لا يكتفي “مناهضو العولمة”، أو “الممانعون أمام الهيمنة”، بالتمييز بين اسلام سياسي يمالئونه بحجة أنه يناهض الامبريالية، وبين اسلام سياسي يبرزون له “أنيابهم العلمانية” بحجة أنه متواطئ مع الامبريالية. انهم، علاوة على ذلك، يقيمون فلسفة كاملة للتفريق بين نموذج الجهاد القومي الديني، من طينة “حزب الله”، وبين نموذج يعرضون عنه، أو بالأحرى يسكتون عنه، من نوع تنظيم القاعدة، وكل حيلتهم حياله أنه “مشبوه” وفأل شؤم.
الفارق شاسع بطبيعة الحال بين “حزب الله” وتنظيم القاعدة. وغرضنا تجذير هذا الفارق لا طمسه. انما لا ينفع مع ذلك منظار “مناهضي العولمة”، أو “الممانعين أمام الهيمنة”، وهو منظار يحكم سلباً على “تنظيم القاعدة” من “النشأة”، كونه نشأ في أحضان المخابرات المركزية الأميركية، وربما كان سبب مقارب ما زال يبعد “مناهضي العولمة” عن الاحتفاء بنموذج “حماس”. أما حزب الله فيؤرخه “مناهضو العولمة” لحركة وطنية دينية على غرار ما تروي الأناجيل سيرة يسوع المسيح. حدث الولادة ثم السكوت عن زمن المراهقة واليفاعة، والانتقال رأساً الى زمن النضج. كما لو أن حزب الله لم يكن موجوداً بين 1983 و,1990 ولم يكن مشاركاً في الحرب اللبنانية، ولم يفتح مشكلة ايرانية سوفياتية في لبنان الثمانينيات.
كل ما هناك في مقال “مناهضي العولمة”، النظر الحصري الى حزب الله في اطار مواجهة خالصة وأبدية على أرض الجنوب، بينه كحركة “على الطريقة الزاباتية”، وبين “الاحتلال الاسرائيلي”، وهو منظار يسخّف مرارة الاحتلال الاسرائيلي من أصل، فيبرز الاحتلال كمجرّد سالب تقليدي للأراضي من سكانها الأصليين. أما حزب الله، بالاستناد الى هذا المنظار، فقد جبلته “المعركة الوطنية” تماماً بلونها، جنباً الى جنب مع “التيار الوطني الحر” وقوى الممانعة، الى درجة لم يعد فيها الحزب أصولياَ. وهو ان كان يسمّي نفسه حزباً لله فللتمويه، ذلك أن حقيقته هي حزب للشعب.
حزب الله في عرفهم حالة زاباتية بامتياز. المندفع الغربي الى “مناهضة العولمة” بأثر من أيديولوجية فوضوية يخال أن كوادر حزب الله تقرأ في سرّها رسائل باكونين وكروبوتكين وتجدد الحلم التحرري ب”الغاء الدولة”. ومن دفع الى “مناهضة العولمة” بأثر من عقيدة ماوية، يرى الى حزب الله، كحزب للفلاحين يحاصر المدينة سوليدير سدوم وعمورة، بالأرياف والضواحي. ومن دفع الى “مناهضة العولمة” بلوثة تروتسكية، يرى الى حزب الخمينيين اللبنانيين كأحد تجليات “الثورة الدائمة” التي تتفجّر لا أحد يعرف من أين والى أين. أما الأكثر اعتدالاً، فيشخص الى حزب الله على أنه قابل للاندماج دون صعوبات تذكر في جهاز الدولة، وسيهم بإلقاء سلاحه حالما يسمح الأمر بذلك.
تغيب عن كل هؤلاء بداهة البداهات: ان حزب الله ليس تنظيماً شيوعياً أممياً يعتمد الاسلام كحجاب، وانما هو جزء من الحركية الاسلامية المعاصرة. في الحقيقة، فان بقايا اليسار العربي المنبهرة بصنيع الحركات الجهادية، هي التي تعتمد يساريتها كحجاب، للتستر اما على خوائها، واما على مسار مفض الى أسلمتها السياسية، على غرار ما حدث لمعظم الحالة القومية منذ عاصفة الصحراء.
ثم أن الفارق الشاسع بين حزب الله وتنظيم القاعدة، لا يلغي واقعة أنهما ينتميان في نهاية المطاف الى محدّدات مشتركة للحركية الاسلامية المعاصرة، سواء انتظما في حلف واحد للمستضعفين على ما اقترحه الشيخ أيمن الظواهري، أو كفرا بعضهما بعضاً، ولا تشذ عن هذا السياق سابقة ادانة قيادة حزب الله ذات يوم لجرائم تنظيم القاعدة في العراق على أنها جرائم من “القرون الوسطى”، في أطرف اعتماد لمصطلح غرباوي من قبل تنظيم حريص على “الأصالة”، كما لو أنه يقرّ بالتمركز الأوروبي للتاريخ أولاً، أو أنه ينحاز الى الأزمنة الحديثة ثانياً، بالضد من القرون الوسطى.
ليست المحددات الجامعة بين حزب الله وتنظيم القاعدة مقتصرة على مؤثرات عامة أو فضفاضة. انهما ينتميان الى الجيل نفسه. جيل أفول الحرب الباردة واقتراح الاسلام كبديل بعد انقضاء الحرب الباردة.
لقد مرّت الصحوة الاسلامية بأربع مراحل. في المرحلة الأولى جرى استنطاق “الهُم” (لماذا يتقدم الغرب والمسيحيون ويتأخر الشرق والمسلمون). في المرحلة الثانية، تم استنطاق “النحن” (بمعنى أن التأخر الحقيقي هو الانفصال عن ذاتنا، والحل في اعتماد معيار للأصالة يكون هو معيارا للرقي ومصفاة تنتشلنا من ضياع الخلافة وتقطع أوصال الأمة). في المرحلة الثالثة، اقترح الاسلام كبديل “وسطي” ضد كل من كسرى وقيصر الروم، ضد الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كنمط انتاج وحياة “لا اشتراكي ولا رأسمالي”، كمخرج من الحرب الباردة. ومنذ الثمانينيات، ورغم كل الفارق بين نموذجي القاعدة وحزب الله، فان ما يقترح هو اسلام لحل أزمة الحضارة العالمية برمّتها، وقلقها الدائم وانغماسها في اللذائذ وتسوّلها على أعتاب العدم.
ربّ قائل إن هذا المنحى محصور في “الأيديولوجيا” الدفينة، ولا يؤثر مباشرة على الواقع. الا ان هذه الحجة تخفي تحت طياتها أن نموذج حزب الله “متأثر سرّا” بأيديولوجيا أخرى، أي أنه ماركسي خلسة يقرأ السياسة اللبنانية في كتاب “الحرب الأهلية في فرنسا” وتجربة كومونة باريس. طبعاً، يحب ماركسيو “مناهضة العولمة” أن يروا تجلي الماركسية في صنيع غيرهم، ثم في “لاوعي” غيرهم، بعدما لم يعودوا يرون تجلياتها في أنفسهم ولا في وعيهم.