ثورة يوليو: دروس باقية!
ميشيل كيلو
لم يدرس العرب بعد ثورة تموز/ يوليو. ولم يعقد مثقفوهم مؤتمرات مكرسة لها وللحقبة التي أنجبتها وترتبت عليها، رغم إقرار معظمهم بأنها حدث مفصلي في تاريخهم، بالمعنيين السلبي والإيجابي. لم تنل ثورة يوليو حقها من الدرس والتأمل والنقاش، وهي تعامل بتجاهل حتى من الذين يحملون أفكارا وأهدافا تشبه أفكارها وأهدافها.
كما أنها تتعرض حتى يومنا هذا لحملات ضارية يشنها عليها خصومها السابقون من أنصار الفكرين الديني واليساري، والجدد من جماعات التوجهين الديمقراطي والليبرالي. يحدث هذا إما لأن واقعنا يحمل إلى أيامنا الكثير من بصماتها، أو لأنها كانت مشروع النهوض الأكثر أصالة وشمولا وعمقا وجدية الذي عاشه العرب في العصور الحديثة، بعد حقب صعود أنتجها المشروع الإسلامي التأسيسي العظيم، ثم حقب تقدم فتراجع أعقبت ذلك. وما ان جاء العصر الحديث بما حمله من استعمار وتحديات حضارية ومدنية كاسحة، حتى أيقنوا أن لا نجاة لهم بغير مشروع نهوض جديد، فكانت الناصرية هي هذا المشروع، الذي غير حياتهم إلى حد قلب توقفه أو فشله إلى كارثة هزت أركان وجودهم، فلم يبق شيء في واقعهم بعدها كما كان قبلها.
كانت ثورة تموز/ يوليو، كأي مشروع نهوض يستحق اسمه، ثورة مفصلية وشاملة، تواصلت مع عصرها من منطلق استقلالي أتاح لها التفاعل مع مشكلاته ومسائله وفكره دون انغلاق عليه أو استسلام له، ومكنها من إنجاز خطواتها في إطار محدد هو حاضنتها التاريخية الخاصة، التي عرف كيف يترجم كثيرا من مفرداتها بطرق تناسب الزمن الراهن ومتطلباته، فأحدثت حركة إحياء عربي تخطى مصر، بذلت جهدا خارقا للحاق بعصرها دون أن تتخلى عن ذاتيتها أو ترفض الراهن والمستقبلي فيه، ومزجت فكرة العدالة الاجتماعية التي كرسها الإسلام مع فكرة الاشتراكية، التي اعتبرت بديلا تاريخيا حتميا لرأسمالية كونية ظالمة، تسيطر على العالم. ومع أن نقاد التجربة الناصرية عابوا عليها في السنوات الأخيرة أخذها بنموذج في الحكم والممارسة قريب من النموذج الذي كان سائدا في المعسكر السوفييتي، فإنهم تناسوا أمرين مهمين: أولهما أن هذا النموذج كان يبدو ضاربا ومستقبليا، يقدم أدوات وخططا تناسب حاجات الشعوب الفقيرة والمتأخرة، التي لا خيار لديها غير الهلاك بسبب الرأسمالية العالمية ومنتجاتها المحلية أو العمل للنجاة بأي ثمن، بما في ذلك القفز من فوق ضرورات يكبح غيابها هذا العمل، أهمها مسألة الحريات وما يترتب عليها من تنظيمات سياسية واجتماعية وإنجازات فكرية وثقافية. وثانيهما أن الرأسمالية كانت خصما يعني الانخراط في منظومته إضعاف الذات التي تواجهه، مع أن الخلاص منه غايتها وهدفها ومفتاح الاستقلال الوطني والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، فلا يجوز الاستسلام أمامه أو تمكينه من اختراق الثورة، وإلا عاد كاستعمار من الشباك بعد أن طرد من الباب، ووقعت كارثة لا مصلحة لأي فرد أو جماعة فيها، من شأن وقوعها سحق الفرد والجماعة بقسوة أشد من القسوة والعنف، اللذين عرفتهما الحالة الاستعمارية السابقة.
كان خيار الثورة النهوض بالانفكاك عن النظام الرأسمالي من جهة، وانتهاج سبيل الاشتراكية، التي كانت تبدو كخيار إجباري للشعوب الفقيرة والمتأخرة من جهة أخرى. والنهوض، في هذه الحالة، عملية شاملة يراد منها ردم الهوة التي تفصل العالم المتقدم عن العالم المتأخر، تطاول بالضرورة الدولة والمجتمع والمواطن / الفرد، وإلا لن تصل ثمارها إلى هؤلاء، ولن تتم بقدراتهم مجتمعة ومتآلفة، مع إعطاء أولية تحتمها الظروف السائدة للدولة : قاطرة التقدم وضامنة إنجازه، التي تضع خططه وتصوراته، وتتدبر الأموال اللازمة لإنجازه، وتحدد أدوار المساهمين فيه، وتتحمل النتائج المترتبة عليه. بسبب موقف رأس المال العالمي والمحلي من الثورة، مع أنها أعلنت عزمها على إقامة ‘رأسمالية وطنية’، ونتيجة لمواقف الرأسمالية العالمية من ثورة جعلت هدفها إخراجها من المجالين الوطني والقومي، وتعبئتهما بحضورها السياسي والاقتصادي والأيديولوجي/الثقافي والعسكري، وبسبب نقص في خبرة القيادة الثورية ووعيها، وقعت بلبلة في أوليات العمل الثوري أدت إلى تركيز شبه حصري على دور الدولة وتلاشى دور المجتمع، الفقير والمتأخر والعاجز عن النهوض بقدراته الخاصة، وتقوض وجود المواطن/الفرد، القانوني والسياسي والتنموي، وتحول إلى مجرد أداة بيد الدولة، فكان تشوه العلاقة بين مكونات الحداثة الثلاثة هذه سببا رئيسيا لما ارتكب من أخطاء وأصاب الواقع في عموميته من انحراف جعله واقعا سلطويا: معاديا أكثر فأكثر للحريات، متوجسا أكثر فأكثر من المجتمع، عاجزا أكثر فأكثر عن السيطرة على أجهزته وكبح تناقضاتها وصراعاتها الداخلية ومجافاة مصالحها ونظراتها لمصالح الثورة ورؤيتها. هذا الحال المأزوم، انكشف خلال حرب عام 1967 وما تلاها من هزيمة واحتلال استنزفا قدرات مصر المادية وقوضا طاقتها الروحية وثقتها بنفسها، بعد أن بدا وكأنها تدار من قيادتين متصارعتين : واحدة علنية يمسك بأعنتها جمال عبد الناصر، تفقد بصورة متزايدة قدرتها على التحكم بالأمور رغم صواب خياراتها وصدق التزامها بمصالح الوطن والشعب وتأييد المجتمع في أغلبيته الساحقة لها. وأخرى خفية، تدفع نحو فشل الناصرية، لعبت دورا مباشرا في هزيمة حزيران/يونيو، وجوفت الوضع وحاصرته وشدته إلى دروب تقوض إمكانية إخراجه من مآزق كاشفة قدر ما هي قاتلة. بعد موت عبد الناصر، بان هذا الواقع على حقيقته، وظهر أن الرجل كان في الحقبة السابقة والتالية للهزيمة مجرد رمز كبير يطفو على سطح النظام، إلا أنه لم يكن ما اعتقده الخلق: اليد التي تمسك بأعنته، والعقل الذي يقرر شؤونه، والإرادة التي تحدد مساره ومصيره. لا عجب أن النظام أسفر عن وجهه الخفي، الحقيقي، بمجرد أن غاب الرجل، بينما افتضح أمر ما كان يسمى ‘مراكز القوى’ الموالية له، والتي تبين أنها ‘مراكز ضعف’ لا حول لها ولا طول، تغلب السادات عليها بمجرد أن ألقى يوم 15 أيار/مايو من عام 1971 خطبة أعلن فيها عزلها من مناصبها واعتقال رموزها؛ خطبة لم يقتصر تأثيرها على مصر، وترددت أصداؤها في عدة بلدان عربية، حيث وقعت انقلابات ساداتية أظهرت من جانبها حقيقة السلطة الخفية هناك، وكانت تكتفي بكبح عمل السلطة، فانتقلت إلى حسم ازدواجية السلطة بين ‘حاكمين ‘ تبين أنه لم يكن بيدهم شيء، و’أتباع ‘ لهم أمسكوا بمفاتيح ومفاصل الأمر القائم وترقبوا لحظة مناسبة لإطاحتهم.
عين الظرف الدولي بصراعاته الكبرى بين الرأسمالية والاشتراكية، والشرط المحلي بطموحه إلى التحرر من سلطان الخارج، وتنمية الداخل في حاضنة تعزز الاستقلال الوطني والدولة السيدة والحرة، إطار العمل العام، دون أن يعين تفاصيل الخيارات أو يفرض عليها طابعا خارجيا : اشتراكيا كان أم رأسماليا. بسبب هذا الوضع، تعرض النظام الناصري إلى قصف مركز انهال عليه من يساره ويمينه، من أنصار الاشتراكية والرأسمالية، وعاش حالة شد وجذب خارجي وداخلي، تضافرت مع تطور داخلي تعارض مع وعوده، فدخل في حقبة من البلبلة والضياع، جعلته لا يرى في أحيان كثيرة حقيقة ما كان يبنيه من نظام: اشتراكي في الظاهر رأسمالي في المضمون، ويدافع عن واقع مجتمعي يحمل قدرا كبيرا مما اسماه أستاذنا ياسين الحافظ ‘التأخراكية’، أي نظام اشتراكي منتج للتأخر، وقف على أقدام واهية في مواجهة نظام أراد الحلول محله هو التأخرالية، النظام الذي يذهب إلى التأخر عن طريق الرأسمالية. اعتقد عبد الناصر أن النظام إما أن يكون اشتراكيا أو رأسماليا، فإذا بنظام مصر ينقلب أكثر فأكثر إلى رأسمالية تنتجها سلطة تقيم مجتمعا رأسماليا مافيويا غطته ببهارج كلامية اشتراكية الألفاظ، وعملت لإيهام الشعب بأنه نقله إلى حال تعوضه بالعدالة الاجتماعية عن الحريات. لكن تطور الوضع كشف عن حقيقتين مهمتين، هما:
– أن ما كان يسمى الاشتراكية لم يكن كذلك. وأن ما اعتمد لبلوغه لم يكن الطريق التي توصل إليه أو إلى العدالة الاجتماعية، وأن التضحية بالحريات قوضت الثورة وأهدافها، وهمشت دور الشعب، الذي منحها تأييدا غير مسبوق في التاريخ العربي، كان الاستقواء به سينهي على الأرجح ازدواجية السلطة وسيفتح طريق تقدم حامله المجتمع، وسيغلب كفة قوى التغيير داخل السلطة على التعطيل والرجعة، التي توطدت بمرور الوقت وتعثر التجربة السلطوية، إلى أن كانت لها الكلمة الفصل، بعد غياب الزعيم.
– أن الثورة ليست، ولن تكون إطلاقا، مشروعا قابلا للنجاح، إن انفردت السلطة بحملها أو فرضتها من فوق: بأدواتها ووسائلها المركزية والبيروقراطية. كما أن الرأسمالية العالمية لا تخرج من البلدان المتخلفة بقرار يصدر عن قياداتها، وهي تملك من المفاتيح والقدرات ما يمكنها من اختراق هذه البلدان، فكيف إذا كانت آليات العمل الثوري تجدد النظام القديم في حاضنته الخاصة، وتستعيده وتمكنه من التكيف مع نمط جديد من الرأسمالية، شرقي وسلطوي ومركزي وتابع، لا يشبه في طابعه وآليات اشتغاله نمطها الأوروبي، لكنه أشد قسوة وفسادا من الرأسمالية القديمة، غير السلطوية، التي تم الإجهاز عليها بالتأميم!.
تلاشى النظام الناصري، لكننا نرى اليوم أيضا واقعنا بدلالته، لإيماننا الخفي بأنه كان النظام العربي الوحيد الذي جعلنا رهانه، فجعلناه، بعد الاعتبار بتجربته وأسباب فشله، جزءا من وعدنا الآتي!.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي