فسيفساء توفيق كنعان
صبحي حديدي
قادتني مادّة، منشورة في الموقع الإلكتروني لـ’مؤسسة فلسطين للثقافة’، إلى معلومة جديدة، وثمينة تماماً، عن الطبيب والأديب والباحث والمؤرخ والأنثروبولوجي توفيق بشارة كنعان (1882 ـ 1964)، الفلسطيني الولادة، واللبناني الأصول: أنه جمع، خلال جولاته في أرجاء فلسطين خلال الأعوام 1905 ـ 1946، ما يقارب 1400 من نماذج الرُقى والحُجُب والتمائم؛ وأنّ أسرته تبرّعت بالمجموعة إلى جامعة بير زيت، التي حفظتها، وأقامت لها معرضاً بإشراف جيزيلا هيلميكه، من المتحف الإسلامي في برلين. والمعلومة تثلج القلب لأنّ بيت كنعان، في حيّ المصرارة بالقدس، كان قد تعرّض للنهب والإحراق على يد العصابات الصهيوينة سنة 1948، فضاعت معظم الكتب والمخطوطات والمقتنيات الثمينة.
هذه، إذاً، مساهمة أخرى جليلة في كتابة تاريخ فلسطين، الشعبي والقاعدي إذا جاز التعبير، من رجل كانت أعماله ـ وستظلّ، إلى أمد بعيد ـ ردّاً عملياً وعلمياً بليغاً على الحجّة الصهيونية التي قدّمت فلسطين في صورة أرض خراب، وجرّدت الفلسطينيين من أي تجسيد إنساني، ووضعتهم بين مزدوجات، أو أنكرت وجودهم كلياً. ومجموعة الرقى والحجب والتمائم برهان جديد على جانب مدهش في شخصية كنعان: أنه لم يكن يعبأ كثيراً بالبرهنة على وجود الشعب الفسطيني في أرض اسمها فلسطين، فتلك مهمّة تكفّل بها التاريخ دائماً؛ بل انهمك في البرهنة على أنّ لهذا الشعب تاريخه الغني الحافل، الطبيعي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والأدبي والأسطوري والأنثروبولوجي.
وإذا كان الفلسطيني ينتمي بقوّة إلى عمقه العربي والإسلامي (والتحليل هنا يصدر عن رجل مسيحي أرثوذكسي، للتذكير)، فلأنه لا يزعم أيّ نقاء عرقي، بل يفاخر بأنه جماع معقد ناجح لثقافات بابلية وعمورية وآرامية وكنعانية وفينيقية وفرعونية وعبرانية وهيللينية وإسلامية. وفي كتابه الهام ‘قضية عرب فلسطين’، الذي صدر أولاً بالإنكليزية وترجمه إلى العربية النهضوي العلماني المعروف سلامة موسى سنة 1936، وصف كنعان أهمية الفتح العربي الإسلامي لفلسطين في القرن السابع، وكيفّ تعرّب الفلسطينيون سريعاً وعلى نحـــــو بنيوي شــــامل، فولدت هويتهم وترسخت أكثر فأكثر مع الغزوات الخارجية اللاحقة (الصليبية والعثمانية والغربية)، دون أن تخسر عناصرها التكوينية الأولى.
ولد كنعان في بيت جالا، البلدة الفلسطينية التي تتّسم بتعددية مسيحية ـ إسلامية مميّزة، ودرس في دار المعلمين بالقدس، ثم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، وتخرج منها طبيباً عام 1905. هذا الطور الأول في مراقبة المحيط الفلسطيني والعربي المجاور أعقبه طور العمل الطبي الميداني الواسع، حتى عام 1947، حين عمل في مستشفيات فلسطين، وترأس دائرة الملاريا التابعة لمكتب الصحة العام، كما ترأس دائرة المختبرات الطبية العثمانية، التي يمتدّ نشاطها من بئر السبع في فلسطين إلى مدينة حلب شمال سورية. وتابع أثناء ذلك تعميق معرفته الطبية، فدرس علم الجراثيم والأمراض الإستوائية وأمراض الدرن على يد أطباء ألمان، وكان اتقانه لستّ لغات قد أتاح له توسيع معارفه النظرية، وكتابة المقالات في صحف بريطانية وألمانية وفرنسية.
وفي هذا الطور سوف تتكامل ملامح كنعان الأنثروبولوجي، بالمعنى الدقيق لفروع علم لم يكن قد دخل إلى العالم العربي بعد، لأسباب تاريخية وثقافية (ذات صلة بالقراءة الدينية لأصل الإنسان والتكوين)، واجتماعية (على رأسها أنّ العلم بدا عنصرياً وغربي التمركز في حديثه عن الأقوام البدائية وشعوب آسيا وأفريقيا). ففي فرع الأنثروبولوجيا الجسمية الفيزيقية وضع كنعان كتباً في الطبّ المحض (مثل ‘حبّة حلب’، و’التهاب السحايا الدماغية والشوكية في القدس’، و’عدوى الجذام’)؛ وفي علم اجتماع الطبّ أيضاً (مثل كتابه المدهش ‘الطبّ الشعبي في أرض الكتاب المقدس’، ومقالتيه ‘علم النبات في الخرافات الفلسطينية’ و’طاسات الرعبة العربية’)، وهي مؤلفات تدرس تاريخ العلاقة الوثيقة بين العلاج المادي عن طريق التداوي بالأعشاب، والعلاج النفسي عن طريق توظيف رموز الخرافة الشعبية وأساطيرها.
وفي فرع الأنثروبولوجيا الثقافية كتب كنعان عشرات المقالات التي تناقش ظواهر أنثروبولوجية ثقافية مباشرة: النور والظلام في التراث الشعبي الفلسطيني، والطفل في الخرافات العربية الفلسطينية، و’ماء الحياة’ في الخرافات الفلسطينية، و’اللعنة’ في التراث الشعبي الفلسطيني، ورموز الطلاسم العربية، و’الينابيع المسكونة’ و’الشياطين المائية’ في فلسطين… كذلك امتدت نشاطاته البحثية لتشمل الدراسات الجغرافية والطبوغرافية والأركيولوجية والمعمارية، فتناول طرق القوافل العربية الفلسطينية، وأهمية منطقة النقب في التكوين الجغرافي والتاريخي والاقتصادي لفلسطين قديماً وحديثاً، وطبوغرافية البتراء وخصوصيتها الأركيولوجية، وعمارة البيت الفلسطيني التقليدي، والأنساق المعمارية للمزارات الإسلامية ودلالاتها الروحية.
وتبقى إشارة إلى الجانب النضالي في شخصية كنعان، الذي اعتبر ‘الإمبريالية البريطانية’ شريكة مع ‘الصهيونية العالمية’ في الإستيلاء على فلسطين، فعمدت سلطات الإنتداب البريطانية، سنة 1939، إلى اعتقاله، مع زوجته وشقيقته، بالتهمة الكاذبة الرائجة آنذاك (الدعاية لألمانيا الهتلرية)، وزُجّ به في سجن عكا. ولم تكن مفارقة كبيرة أن يقتسم الطبيب والأنثروبولوجي والمؤرّخ المسيحي، التهمة ذاتها مع الحاج أمين الحسيني… المسلم والشيخ ومفتي القدس. وهاهنا، أيضاً، تمسك الرجل بحقيقة ظلّ يتعقب آثارها، ويلهج بمزاياها وامتيازاتها: أنّ الفلسطيني الواحد/ المتعدد حيّ وحيوي، يسكن هذه الفسيفساء العبقرية التي ‘كانت تُسمّى فلسطين/ صارت تُسمّى فلسطين’، وهكذا تظلّ… أياً كانت المزدوجات!
حاص – صفحات سورية –