صفحات العالمما يحدث في لبنان

كل هذا الضجيج في لبنان وحوله!

نهلة الشهال
لا يوجد شيء يسر اللبنانيين قدر وجــود كل هذا الضجيج حــولهم. في الماضي، التقـط الشاعر الكبير سعيد عقل هذه الخاصية، متغنياً بـ«هل كم أرزة العاجقــين الكون»! أو لعــله كلام من قبيل النبوءة الــذاتية، الظاهرة المعـروفة في علم النفس. صحيح أن أهل لبنان ليسوا من استحضر منظمة التحرير بقضها وقضيــضها، ما انتهى باحتلال بيروت نفسـها، وهم ليــسوا من ركَّب بعــد ذلك، بوعـي على الأقل، معادلة حزب الله الذي هزم إسرائيل مرتين، بل تلك كلها كانت نتاج سيـاقات متراكمة، متشابكة ومترابطة، بحيث تفضي الواحدة إلى الأخرى، بانسجام أو بالضد، لا فرق… ولكنها أدت إلى وضع هذا البـلد الصغير في حالة دائمة من «المركزيــة»، وقد وجـد الهوس بها، اللبناني جداً، كل مــداه هــذه الأيام. جاء إلى البلد الملك السعـودي والرئيس السوري، معاً، ولحق بهما في اليوم نفسه أمير قطر، وسيليه الرئيس اردوغان، وهــناك شــائعات عن قرب وفود السيد أحمدي نجاد! الله أكبر!
وبالانتقال إلى الجد وإلى صلب الموضوع، فثمة بالطبع ما يستدعي هذا القــدر من الانشغال. فمرة أخرى جديدة، يحتضن لبنان جزءاً هاماً وخطيراً من مكونات الصيغة الســياسية الــعامة للصراع والتوازن القائمة في المنطقة. وهو يزاوج مرة أخرى جديدة بين متناقضات كبرى، ما يبدو أيضاً أنه يهواه: منذ ســنوات، حين كان وليد جنبلاط منظّر المعسكر اللبناني المقرب من واشنطن، قال إن على لبنان أن يختار بين أن يكون هونغ كونغ أو فيتنام، وأما جمعهما على سطح واحد فمستحيل. ورغم ذلك فقد اجتمعا وما زالا! وهي حالة مؤقتة تعريفاً، ولكنها من نوع المؤقت الذي يدوم. وبين حين وآخر، سلماً أو حرباً أو بين بين، يعاد طرح الأمر على بساط البحث. ويبدو أنه قد حانت واحدة من لحظات طرحه، عبر القرار الظني المتوقع صدوره في الخريف القادم، والذي تسربت أنباء عن أنه سيوجه الاتهام في اغتيال الرئيس الحريري إلى حزب الله.
[[[
والسؤال الأول يتعلق بمن قرر هــذه اللحظة الآن؟ يجيب مسؤولون من واشنــطن بجـد شكلي، بأن المحكمة الخاصة بلبنان التي أنشأها مجلس الأمن، مستقلة وإيقاعها ذاتي. أما السياسيون المحليون فيكشــفون «البئر وغطاءه»! فلأنهم كثر، ولأن لبنان بلد الصحافة الحرة، فلا سر محفوظاً، بل «يبــل يده» في كل أمر أصغر مختار حارة، ويجــري لوك كـل أمر إلى حد ابتذاله. يقول هؤلاء بلكنات متـعددة بأنها فرصة للخلاص من حزب الله حــيث سوريا رفعت يدها عنه. وهــنا تتفرع التفسيرات، بعضها يقول انه الثـمن الذي ارتضت دمشق دفعه لتتخلص من توجيه الاتهام إليها في اغتيال الحريري (ما كان سائداً في السنوات الخمس الماضية حد تحويله إلى يقين مقدس)، وبعضها الآخر يقول بأن دمشق قد قررت الانتقال، ولو تدريجا، إلى التقارب مع السعودية والابتعاد عن طهران بعد إقرار العقوبات الدولية بــحق هذه الأخيرة، وإن تسهيل ذلك لدمشق هو الثمن الذي تستلمه مقابل مساهمتها بتوفير شــروط عزلة إيران، وهي تدفع بالمقابل فاتــورة تــسوية هي التخلي عن حزب الــله! هكذا بكل بساطة، تمـاماً كما تجري الأمور في البـازارات والبورصات.
طيب! وماذا لو كنتم يا سادة قــد تسرعتم قليلاً، فنسيتم أنه لا يكفي أن تنقــلب دمشق على حزب الله ليصبح خـنقه متــيسراً. هذا أولا، وعلى فرض صحة حــصول الانقلاب ثانياً. فحزب الله بنية هائلة ومجربة، ونزع سلاحه بالترهيب، كما يبدو أن بعضهم قد صور لنفسه إمكان ذلك، مستحيل في حساب أبسط العلوم. هل كان حزب الله ليرتضي صفقة كالتي قال أمينه العام إنها عرضت علــيه عبر رئيس الوزراء سعد الحريري: أن تتهم «عناصر غير منضبطة» فيه باغتيال الحــريري الأب؟ من تخيل ذلك وخـطط له لا يعرف حــزب الــله بتاتاً (وليس جيداً!). فهذا، لو كان من هذه الطينة، لما تمكَّن من بناء ما بــنى ومن خــوض ما خاض. وهو إن كان لا يُرهــّب، ولا يسـتدرج إلى مساومات بائخة، فليس بحكم تصلبه الشديد، بل بالعكس من ذلك تماماً، بسبب حاجته التي طورها عبر السنين لتوفير شروط تعايش هونغ كونغ وفيتنام معاً، بحيث بات يمتاز بمجسات استشعار للخطر الفعلي فيستبقه، بينما يبدي أقصى الليونة في ما عدا ذلك.
[[[
لقد وفرت تل أبيب بســرعة دليلاً على هذا الكلام، إذ ظنت أنها ترفع العــيار، وتدخل بورقتها إلى الميدان، فسربت عــبر إعلامـها عشية القمة التي انعقدت في لبنان يوم الجمعة الفائت، أن قاتل الرئيس الحريري ليس سوى ناصر بدر الدين، أحد أركان الجهاز العسكري والأمني لحزب الله. أي «عنصر غير منضبط» هذا!
ما الأمر إذاً؟ السؤال الفعلي والوحيد الذي يتطلب إجابة، هو ذاك المتعلق بإمكان أو برغبة واشنطن وتل أبيب في شن حرب جديدة في المنطقة. وفي الحقيقة، فالــسؤال يتعلق بالولايات المتحدة، إذ إسرائيل مجبولة على إجرام بنيوي، وكذلك على جنون يصل بها دائماً إلى شفير الانتحار، بحيث إن عماها قد يدفعها إلى الحلم بالحرب. ولكن هل تريدها واشنطن؟ وهل تترك تل أبيب تشعلها وتورطها؟ الجواب المرجح على كلا السؤالين هو لا. ما الأمر إذاً؟ أسحابة صيف؟
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى