التديّن الإسلامي والحاجة إلى أخلاقية عامة
ياسين الحاج صالح
بينما هيمنت المقاربة التفسيرية في تناول دارسي «الحركات الإسلامية» التي عرفت موجة صعود في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، لم ينل التدين الإسلامي المنتشر اهتماماً تفسيرياً يذكر. قلما يجري التمييز أصلا بين الظاهرتين. من جهة هما متزامنتا المنشأ تقريباً، مع خفوت نسبي للأولى في العقد المنقضي من هذا القرن (لمصلحة كل من المفهوم الديني «المحارب» و«الإسلام الاجتماعي»). من جهة أخرى أغلب الدارسين «خارجيون»، يرون «الإسلام السياسي» لأن وسائل الإعلام تهتم به، فيما لا يرون «الإسلام الاجتماعي» الذي قلما تبلغ ظواهره عتبة اهتمامهم، ولا ينال تغطية إعلامية تذكر. في الوقت نفسه، هيمنت في العقد الأخير ما تسحق أن تسمى مقاربة تكفيرية مضادة حيال الظاهرة الإسلامية ككل، تفضل تشذيذ الظاهرة وتستحسن تحقيرها وترفض مبدئياً التمييز بين أوجه مختلفة فيها، كما تضيق ذرعاً بأي جهد تفسيري حيالها، ربما لأن التفسير يعني أن الظاهرة تاريخية وبشرية عادية، غير شاذة تالياً.
نقترح هنا عاملا تفسيرياً جزئياً، مبنياً على ملاحظة شخصية غير منظمة، وعلى رصد غير منظم بدوره للحياة الدينية خارج المصادر المعتادة: الانترنت ووسائل الإعلام الجماهيرية.
عدد كبير ومتزايد من الناس يجد في التدين الإسلامي مرجعاً أخلاقياً موجهاً للسلوك، وضابطاً لنوازع نفسية معذِّبة، ومبعث أمان وسكينة، لا يوجد ما ينافسه على نطاق واسع في مجتمعاتنا المعاصرة. يتعلق الأمر بـ «إثيقا» أو وجهة عامة للسلوك والتوجه في العالم، وليس فقط بأخلاق عملية تميز بين فضائل ورذائل، أو تحدد ما يصح من تصرفات وما لا يصح. للمسلمين المتدينين ممارسات أخلاقية منقودة مثل غيرهم، لكن مفهوم الإسلام يعمل لديهم كمرجعية أخلاقية لا يوجد ما يعادلها فاعلية عند غيرهم. نفتقر في العربية إلى تمييز بين الأخلاق كنظام معايير أو ضوابط عامة، ما تسمى في لغات غربية إثيقا (إثيكس)، ونرى أنها تتطابق في سياقنا هذا مع الإسلام، وبين الأخلاق كقواعد عملية تتصل بالسلوك القويم (موراليتي). قد يناسب أن نخصص كلمة أخلاقية للمدلول الأول، وكلمة أخلاق للمدلول الثاني الشائع. ورغم أن هذا التمييز ملتبس ومجادل فيه في الانكليزية، وأنه يشيع أن تستخدم الكلمتان كأنهما مترادفتان، فإننا نستفيد من وجود الكلمتين لنضمّن كلمة أخلاقية العربية دلالات تحيل إلى نسق من معايير عليا معقلنة، تشكل نظاماً أخلاقياً أو عالماً منظماً أخلاقياً، يمكن التوجه فيه بسداد ويستطيع الأشخاص تعريف أنفسهم وتحديد مواقعهم فيه بثقة أكبر.
ما يمنحه التدين لكثيرين عالم فيه مثل. يقدم لهم مثالا أعلى أخلاقياً يمكنهم من انتقاد أية ممارسات واقعية، بما فيها ممارساتهم هم التي قلما تطابق المثال المعلن. ولا يقلل عدم انضباط سلوكهم العملي بهذا المثال من حاجتهم له، بل لعله يزيدها. يمنح المثال الديني شعوراً بانتظام العالم حولنا، ويخفف التدين شعوراً بالإثم يتولد من عدم مطابقة السلوك للمثال. وحين يتعرض المرء لمحنة أو يعاني من أزمة نفسية أو روحية، وهذا شائع كثيراً في مجتمعاتنا، ثمة عالم بديل يجده في متناوله.
وما يجده مسلمون في التدين هو القيمة، الثقة، الوجود في عالم منظم وفي جماعة منضبطة عموماً. يجدون أيضاً مساواة عابرة لفوارق اجتماعية، وضرباً من التضامن الحي. ما يجدونه خارج تدينهم هو عالم فوضوي، قاس، غير موثوق، يبدو بلا ضوابط، وخلوا من التضامن. وفي هذا العالم لا يتاح غير وجود شتيت مخلخل، ناقص الكثافة، يحتمل أن بعضهم خبروه في بعض أطوار حياتهم. نريد القول إن التدين يمنح المؤمنين شعوراً بالقيمة والثقة والتوازن النفسي لا يتوفر معادل عام له في مجتمعاتنا المعاصرة.
لم تتكون لدينا أخلاقية غير دينية فاعلة، أو لم يتكون عالم أخلاقي منظم. خارج الدين ليس هناك عوالم معيارية واضحة، قد يمكن وصفها أنها حداثية أو إنسانية. في هذا الحداثة الغربية مختلفة كثيراً عن حداثتنا. إنها عالم معياري عالي الاتساق يوفر قدراً واسعاً من الحرية، ومعه قدر كبير من المسؤولية والانضباط. وفرت حداثتنا، بالمقابل، قدراً أقل من الحرية، وقدراً أقل بعد من المسؤولية والانضباط، وأقل أيضاً من المثل الواضحة، وقدراً معدوماً من القواعد القابلة للتعميم. ولم تطور أية تقاليد متسقة. يمكن لأفراد، مثقفين ومناضلين سياسيين بخاصة، أن يظهروا انضباطاً سلوكياً وشعوراً عالياً بالمسؤولية، قد يفوق قوة واتساقاً ما نجده لدى متدينين، لكن لم يتشكل مثالهم كمرجعية عامة أو قابلة للتعميم. ومن أسباب ذلك قلة اهتمام المثقفين والمفكرين الحديثين بقضايا الأخلاق وبالنقد الأخلاقي. هذا حين لا يصدرون عن موقف مبتذل يرى الأخلاق بذاتها قيداً على الحرية، على ما أظهر برهان غليون في كتابه «اغتيال العقل» (1985).
في «حداثتنا» ليس ثمة دعوات أخلاقية غير دينية. هذا نقص كبير. وهو أكبر اليوم حين نلحظ أن فاعلية الأخلاقية الإسلامية لا تتجاوز نطاقات مجتمعية محددة. ومن جهة أخرى تجنح هذه الأخلاقية إلى التشدد بدرجة تتناسب مع وفرة ما يعرضه العالم المعاصر من مستجدات وإغراءات لا تنتهي. يبلغ التشدد حد الرغبة في التدمير في حالات، أو انعزالا ومهاجرة لهذا العالم الفوضوي في حالات أخرى. ولعله لا شيء يظهر أكثر من الحجاب، وأكثر منه النقاب، الوظيفة الإثيقية للمفهوم الإسلامي المعاصر وحدود هذه الوظيفة معاً. قد تكون الإثيقا الإسلامية عالية الانضباط، لكنها خاصة وغير تحررية.
ونفترض أن هذا ينبغي أن يحفز الجهود من أجل تطوير أخلاقية (إثيقا) عامة أوسع وأرفع، تحوز درجة أعلى من الاتساق الذاتي ومن المساواة ومن قابلية التعميم. في هذا الشأن، كما في شؤون أخرى كثيرة، نرصد قصوراً ثقافياً كبيراً، شحاً في الخيارات الثقافية والفكرية والمعنوية التي توفرها ثقافتنا الحديثة والمعاصرة، وشحاً أكبر في المثل العليا المجردة، كما في القدوات المشخصة. اشتغل المثقفون كثيراً جداً لدينا على «العقل»، وقليلا جداً على النفس والضمير والروح. تبدو الثقافة لدينا «معرفة» و «عقلا» ولا شيء غيرهما. وإذ يبقى الدين الملجأ العام الأبرز من الأزمات النفسية، يغدو توقع الفوز في المعركة الثقافية وهماً كسولا.
قد يفضل كثيرون التماهي بالثقافة الغربية الغنية، لكن هذا ليس خياراً جزئياً وغير عام فقط، وإنما هو خيار نخبوي، يقود نسقياً إلى سياسات يمينية ودكتاتورية. وإذا لم ينجح المفهوم الديني، لا يبقى غير «عمل الثقافة» أفقاً لتجدد فكري وأخلاقي محتمل.
خاص – صفحات سورية –