إصلاح الإسلام : دراسته وتدريسه بعلوم الأديان
حديث مع العفيف الأخضر
بقلم: ناصر بن رجب ووريغ لحسن
نشر “الأوان” مقالا للكاتب العفيف الأخضر “لماذا إصلاح الإسلام” وكان المأمول –كما أوحى به المقال- أن يكون مقدّمة سلسلة محورها “إصلاح الإسلام”… لكنّ الظروف الصحّية لم تيسّر إنجاز هذه السلسلة. فكان أن اتّصل به الأستاذ ناصر بن رجب وهو كاتب وصحفي تونسيّ والأستاذ وريغ لحسن، سكريتير تحرير الأحداث المغربية، وأجريا معه حوارا طويلا شاملا كان فرصة للتطرّق إلى نظرة العفيف الأخضر إلى مسألة الإصلاح بما يسهم في تحقيق الانتقال مما يسميه مدرسة اللامعقول الديني إلى مدرسة العقلانية الدينية الإسلامية.
1 – مبرّرات إصلاح الإسلام
الفكرة الشائعة أن الإسلام لا يقبل الإصلاح، فعلى ماذا تراهن؟
برهن الإسلام في تركيا منذ 1924 حتى الآن وفي تونس منذ 1956 حتى اليوم، على قدرته على إصلاح نفسه. فما الذي يمنعه من البرهنة على هذه القدرة في باقي البلدان؟ إصلاح الإسلام اليوم ضروريّ وممكن. ما ينقص هو الشجاعة السياسية. صحيح أنّ عتاقة النخب الدينية سواء في الإسلام التقليديّ أو في الإسلام السياسي لا تسهّل التكيّف الضروريّ مع العالم الذي نعيش فيه. لكنّ الشجاعة مطلوبة لمثل هذه الحالات. شجاعة النخب التي تملك رؤية واضحة للمستقبل الذي تقود إليه شعوبها بعزم. حسب ابن قتيبة، الإجماع، إجماع نخب الأمة وسلطاتها التشريعية بالمفهوم المعاصر، “أهمّ من الحديث في التشريع”. إذن إصلاح الإسلام لا يحتاج إلى نص، بل إلى إجماع صنّاع القرار على أنه ضرورة ومصلحة. وكما يقول الشاطبي : حيث المصلحة فثمّة شرع الله.
هناك من يقول إنّ إصلاح الإسلام ليس أولوّية في عالم عربيّ مليء بالمشاكل والتحدّيات. فما هو رأيك أنت الذي تعتبره أولوّية الأولويّات؟
إصلاح الإسلام هو أولويّة الأولويّات لأنّ الشروع في إصلاحه يتوقّف عليه نجاح الورشات الأخرى التي تبدو في الظاهر غير ذات علاقة به، كورشة الإصلاح الاقتصادي مثلا. ورشة إصلاح الإسلام لا تتنافى مع فتح الورشات الأخرى بل تتكامل معها وتقتضيها. ورشات الإصلاح جميعا يأخذ بعضها برقاب بعض كما يقول القدماء. فورشات الإصلاح السياسي والاجتماعي والتربوي… جزء لا يتجزّأ من ورشة إصلاح الإسلام. القاسم المشترك بينها أنّها جميعا تتطلّب كأولويّة مطلقة إصلاح صناعة القرار. سبب الأسباب لتخلّفنا -أو بما هو أدقّ لتخبّطنا الطويل في أزمة الحداثة التي نجتازها وعدم خروجنا منها سالمين حتّى الآن -هو سوء صناعة القرار الذي مازال في تسعة على عشرة على الأقل من البلدان العربية لا تصنعه المؤسَّسات صناعةً علمية يكون الكمبيوتر أوّل صانع له. بل تصنعه نزوات وهذيانات الحاكم الفرد. واحد من بين عشرات الأمثلة، صدّام حسين الذي افتخر بأنّ القرار الكارثي عليه وعلى العراق وربّما على الشرق الأوسط كلّه، أعني قرار ضمّ الكويت، اتّخذه بناء على حلم رآه في المنام مُضيفا، اعتمادا على حديث محمّدي، بأنّ الحلم الصادق جزء من أربعين جزء من النبوّة. لكن الملاك الذي أوحى إليه بالحلم نسي أن يوصيه بطرح السؤال المركزي الذي توجبه صناعة القرار “وماذا في صباح اليوم التالي؟”. وهو السؤال الذي لم يطرحه قبله جمال عبد الناصر عندما طرد القوات الدولية المرابطة على الحدود المصرية الإسرائيلية في مايو 1967 والذي كان سبب حرب الستة أيام، ولم يطرحه بعده السيد حسن نصر الله عندما خطف الجنود الإسرائيليين الثلاثة فتسبّب في حرب 2006، ولم تطرحه حماس عندما رفضت تجديد الهدنة مع إسرائيل فتذرّعت بها حكومتها لشنّ حرب غزّة سنة 2007. في الحقيقة طريق هزائم العرب والمسلمين منذ اصطدامهم بالاستعمار كان غالبا مفروشا بالقرارات الانفعالية التي يصنعها الفكر السحريّ الذي يطلب من أضغاث الأحلام أن تتحوّل إلى رؤى صادقة، ومن التخييلات أن تتحوّل إلى حقائق. جميع منجزات الحداثة منذ خمسة قرون إلى الآن صنعتها قرارات سياسيّة شجاعة وذكيّة مازالت بالنسبة للنخب العربية برسم الاكتشاف.
ماذا تعني بشجاعة وذكية؟
أعني واقعية، تستلهم واقع عصرها. عكس القرارات المتهوّرة والغبيّة التي تُرتجل تحت ضغط الأحداث والتي طالما اكتوينا بنارها لأنها تستلهم عادة مخاوف صانع القرار اللامعقولة أو ردود فعله الهاذية، خاصة والبارانويا هي أعدل الأشياء قسمة بين حكام أرض العروبة والإسلام. العالم الذي نعيش فيه معقّد وغير قابل للتّوقّع، ومقاربته بالقرارات المرتجلة واللامعقولة تساوي الانتحار بشقّ البطن. أن تكون شجاعا وذكيّا هو أن تعترف بأنّ الواقع والرغبة قلما يجتمعان. أي أنّ مبدأ اللذّة ومبدأ الواقع نقيضان. وهذا ما لم يدركه بعد الإسلاميون والقوميون الذين مازالوا يتفاوضون مع أنفسهم ويغالطونها في حقائق العصر الذي يعيشون فيه.
هلا وضّحت أكثر علاقة الإصلاح الديني بصناعة القرار؟
هي علاقة وثيقة. صناعة القرار العربية قلّما احترمت المبدأ الأوّل لهذه الصناعة الذي هو التعريف الدقيق، دقّة المعادلات الرياضية، للمصلحة القومية والحساب الدقيق للتكاليف والمكاسب، أي للخسارة والربح في كلّ قرار. وتجاهلت المجالات الإستراتيجية الأربعة : أعني إصلاح الإسلام، والبحث العلمي، والتجديد التكنولوجي، والتعليم الجيّد بالمعايير الدولية. صنع قرار الإصلاح الديني اليوم يفترض التفكير في مخاطر النهاية المأساوية لأيّ مشكلة تطرح نفسها علينا من أجل تغيير الاتجاه في الوقت المناسب. بقاء الإسلام من دون إصلاح، أي من دون فصل الدين عن الدولة، لتفادي مخاطر الحروب الطائفية والدينية خاصة الحرب السنيّة الشيعيّة التي قد تتحول في إحدى مراحلها إلى حرب ذرية؛ ومن دون فصل الشريعة عن القانون الوضعي ليغدو الوحيد المُطبَّق، سيُسقط العالم الإسلامي في همجيّة تطبيق العقوبات البدنية التي ينطبق عليها وصف فرويد للممارسات النازيّة بأنّها “همجية ما قبل التاريخ”barbarie préhistorique ؛ ومن دون فصل البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني عن الرقابة الدينية سيبقى “الاشتباك بين القرآن والعلم”- كما أسماه د. عبد الصبور شاهين دائما-؛ ومن دون الفصل بين المؤمن والمواطن سيبقى المسلمون ماثلين أكثر فأكثر في قفص اتهام المجتمع المدني العالمي لهم بالانتهاك المتكرر لحقوق الإنسان والمواطن، وبمعاملتهم المرأة كحشرة مُؤذية وأقلّياتهم كأهل ذمّة والعالم كدار حرب موعودة بالجهاد الذي أخذ منذ الآن اسم الإرهاب الإسلامي… والذي تنعكس صورته سلبا على الإسلام نفسه عند الرأي العام العالمي وعند قطاع من المسلمين أنفسهم.
يستمد الإصلاح الديني مشروعيّته من إمكانية قطعه للطريق على مخاطر هذه النهايات المأساوية. ومن تكييف الإسلام مع عصره الذي يتّجه في السيناريو المتفائل إلى حضارة بشرية واحدة تتعرّف على هويتها في القيم الإنسانية الكونية المشتركة وفي الضوابط الأساسية للعيش معًا في عالم مُعَولَم تشابكت فيه مصائر البشرية في السرّاء والضراء، إلى درجة أن سؤال الحكومة الإقليمية والحكومة العالمية أو “الكونفدرالية العالمية” كما يسمّيها الفيلسوف والأنتروبولوجي ادغار موران Edgar Morin أصبح سؤالا مشروعا لمواجهة تحديات يتوقف على رفعها بقاء الحضارة بل وربما بقاء النوع البشري نفسه.
ما هي نقاط الضعف في الحالة الإسلامية التي يمكن علاجها بالإصلاح الديني؟
ما زال الإسلام لم يرفع حتى الآن تحدّي عوائقه الثلاثة التي شخّصها رينان Renan في القرن التاسع عشر : احتقار العلم الوضعي Le dédain de la science ورفض البحث العلمي العقلاني la négation de la recherche rationnel في نصوصه بما هي كلام الله المُنزّه عن المساءلة العلمية، والخلط بين الروحي والزمن La confusion entre le spirituel et le temporel. وهي عوائق دينية وذهنية ونفسية تحالفت على كبت الإبداع الديني والسياسي والاقتصادي والعلمي والأدبي والفني؛ مثلا الرسم والنحت والموسيقى مازالت محرّمة في الإسلام. اليهودية التي أخذنا عنها هذه المحرّمات الهستيرية تناستها، لحسن حظّ اليهود. ونحن مازلنا متسمّرين فيها. تناست أيضا حدّ الرجم الدموي الذي أخذناه عنها. بالرغم من عدم وجوده في القرآن وتهافت الروايات عن رجم النبي لزناة… إيران والسعودية و”شباب الشريعة” في الصومال مازالوا يرجمون. الأمير خالد بن سلطان، وزير الدفاع السعودي، منعني سنة 2001 من الكتابة في “الحياة”، التي كانت مصدر عيشي الوحيد. لماذا؟ لأنني طالبت في “الجزيرة” بتدخّل دولي لمنع الرجم في إيران، محتجّا بأنّ السعودية هي أيضا ترجم فتكون إذن مشمولة بمطلب التدخل الدولي. رئيس “النهضة”، راشد الغنوشي، اعتبر في مقال وقّعه أنّ العقوبات البدنية الإسلامية كالجلد أرحم من السجون الأوروبية. فلماذا لا يعتبر الرجم أيضا أرحم من السجون الأوروبية؟
عالم الإسلام مازال يمشي على رأسه ونريد “بإصلاح الإسلام” أن نجعله يتعوّد المشي على قدميه.
لكن جمال الدين الأفغاني ردّ على رينان بأن جميع الأديان وليس الإسلام وحده هو المعادي للعلم؟
صحيح أنّ جميع الأديان التوحيدية على الأقل تنطبق عليها تهمة رينان، لكن اليهودية والمسيحية قبلتا أخيرا، طوعا أو كرها وبالأحرى كرها، رفع تحدّيات رينان الثلاثة. مثلا كشف علم الأركيولوجيا في إسرائيل أنّ ما كان يُظَنّ وقائع تاريخية في أسفار العهد القديم لم يكن إلاّ أساطير، مثل الخروج من مصر، وشقّ البحر الأحمر بعصا موسى، وهيكل سليمان الذي اتّضح أنّه شخصيّة أسطورية، والملك داوود الذي كان يُعتبر شخصية تاريخية اتّضح أنه شخصية نصف أسطورية. لا بأس في هذا الصدد من ترجمة كتاب La Bible dévoilée (الكتاب المقدس وقد تَعرّى) تأليف الاركيولوجيين الإسرائيليّين I. Finkelstein و N. A. Silberman. احتجّ المتعصّبون من رجال الدين اليهودي، لكنّ العلماء الإسرائيليين لم يُقدّموا للمحاكمة كما حوكم د. نصر حامد أبو زيد في مصر، ولا صدرت ضدّهم فتاوى بالقتل كما يفعل رجال الدين الإسلامي، ولا بالطبع اغتيل أيّ عالم منهم كما اغتيل فرج فودة وأيّد اغتياله بتهمة الردّة محمد الغزالي أحد نجوم الإسلام السياسي. مؤخرا طالب مجلس البحوث بالأزهر بمحاكمة سيد القمني وحسن حنفي من أجل أفكارهما. مازلنا نعيد صلب الحلاج وسلخ السهروردي، علمي الإسلام الصوفي.
لماذا عجز إسلام الفقهاء عن رفع هذه التحديات؟
بسبب افتقاده للقدرة على التكيف مع العالم الحديث. ديناميته الأولى الجهادية تحولت إلى عائق وعجز عن اكتساب دينامية جديدة تتطلبها الحقبة التاريخية. هي دينامية التكيف مع جديد التاريخ. عندما يفتقد الدين القدرة على التكيف والدينامية يسقط في الجمود الديني.
ما المقصود بالجمود الديني؟
هو تحريم السؤال وفرض الأجوبة الجاهزة الصالحة للجميع ولجميع الأزمنة وجميع الأمكنة، هو اليقين الجامد والتفكير الساذج وإيمان العجائز. إيمان العجائز يصلح للعجائز ولكنه لا يصلح للباحثين. هو العجز عن التطور وإنتاج الأفكار المجددة. وهو في الوقت نفسه محاربة القلة المجددة التي تظهر من حين لآخر مثل الشيخ نجم الدين الطوفي الحنبلي الذي سُجن وأُتلفت كتبه، وكبار المتصوفة الذين راموا إصلاح الإسلام في عصرهم وكلفهم ذلك أحيانا حياتهم مثل السهروردي والحلاج. ومحمد عبده الذي رفض الأزهر لنصف يوم صلاة الجنازة عليه، والطاهر الحداد الذي شيّع جنازته بضعة أصدقاء…
وأنت ماذا تتوقع بعد عمر طويل؟
تبرّعت بأعضائي وأنسجتي لمن يحتاجون إليها لزرعها. ووهبت جثّتي للعلم. لكلية الطبّ في أيّ بلد أموت فيه. عندما سلّمت وصيتي لرئيسة الممرّضات في أحد المشافي الباريسية قالت لي هذا إذا قبلتها كلية الطبّ التي كثيرا ما ترفض لكثرة المتبرّعين. قارن هذا مع تحريم فقهاء الجمود الديني تشريح الجثث. في 1973، كانت كليات الطبّ السورية تستورد من الصين الجثّة بألف دولار. هذا التسمّر في أحكام فقهية معادية للعلم التي هي أحد أعراض عبادة الأموات الفرعونية – كما يعلمنا ذلك تاريخ الأديان المقارن – جعلت فقهاء الإسلام يحتقرون الجسد حيّا ويقدّسونه ميتا. هذه الواقعة وحدها حافز على ضرورة التعجيل بإصلاح الإسلام كلّف ذلك ما كلّف.
قلتَ في مقال يتيم عن إصلاح الإسلام أنّ إصلاحه يمرّ بالانتقال من مدرسة اللامعقول الديني إلى مدرسة المعقول الديني. فماذا تقصد بذلك؟
كلّ إصلاح حقيقي هو إعادة تأسيس، هو ابتكار لنموذج جديد من العقلانية الدينية التي لا تعترف من الدين -خاصة في المعاملات- إلا بما يقبله العقل. كلّ إصلاح ديني يمرّ بقتلٍ رمزيّ للأب. في موضوعنا يمرّ بالقطيعة مع لامعقول التراث، وبحلّ مشكلة تنفيذ الجديد بالأدوات القديمة. كلا العمليتين تتطلّبان إصلاح التعليم والإعلام والخطاب الديني جُملةً. لا، بل إنّ إصلاح الإسلام لن يتحقّق إلاّ بالانتقال من مدرسة اللامعقول الديني المُستمرّة منذ قرون إلى مدرسة المعقول الديني المنشودة الوحيدة المؤهّلة لعقلنة التعليم والخطاب الديني بما فيه الخطاب الديني الإعلامي. الانتقال من مدرسة اللامعقول الديني إلى مدرسة المعقول الديني يعني الانتقال من القراءة الحَرفيّة للقرآن -خاصة المدني السائدة إلى اليوم تقريبا في كل مكان من أرض الإسلام- إلى القراءات الأخرى المنافسة لها والتي همّشتها أو كفّرتها؛ كالقراءة التأويليّة والمقاصديّة والرمزيّة والتاريخيّة التي مارسها القرآن نفسه بالناسخ والمنسوخ أي نسخ الآيات التي لم تعد متكيّفة مع مستجدّات التاريخ. واصل الخلفاء الراشدون وبعض الفقهاء هذه القراءة الناسخة للأحكام التي لم تعد تستجيب للواقع المعيش. هذه القراءة الأولى للنّص المُؤسِّس التي مارسها الراشدون ضرورية لنا جدّا اليوم. وعلى مدرسة المعقول الديني أن تستعيدها. وهذا ما دشّنه اليوم كلٌّ من جمال البنا وحسن الترابي ومحمد الطالبي وغالب بن الشيخ وأنا نفسي. للتاريخ، أوّل من طالب بالعودة إلى القراءة التاريخية لنسخ أحكام الآيات المتقادمة هو المأسوف على فقده محمد عابد الجابري سنة 1988. وعندما استخدمت مصطلحه سنة 2002 بعد توسيعه وتعميقه نوّهت بذلك.
قد يقول قائل هذه القراءات التي تحدّثت عنها تكفّلت بها علوم الدين الإسلامية، فلماذا اللجوء إلى علوم الأديان المعاصرة التي دُرست بها الأديان الأخرى، فلماذا لا نكتفي بإصلاح الإسلام من الداخل كما يقول الأستاذ الجابري رحمه الله؟
كان ينبغي أن تُضيف الأديان الأخرى بما فيها الإسلام وخاصّة الظاهرة القرآنية التي درسها كثير من المستشرقين وحتّى المسلمين أنفسهم مثل محمد أركون في كتابه “قراءة القرآن” ومحمد علي أمير معزي الذي أشرف على إصدار معجم القرآن بالفرنسية الصادر سنة 2007 وكتب له مقدّمة مهمّة عن القرآن، والذي تُرجم إلى عدد من اللغات إلاّ لغة القرآن. وكما قال شوقي (حرام على بلابله الدّوح/حلال للطّير من كل جنس). عندما قلت الانتقال من القراءة الحَرفيّة إلى القراءات الأخرى، أعني على ضوء علوم الأديان المعاصرة، لأنّ علوم الدين الإسلامية تجاوزها التطوّر العلمي ولم تعد قادرة على التجاوب مع المتطلبات الحديثة لدراسة النّصين الإسلاميين المُؤسِّسين، القرآن والحديث، ولا على دراسة مُجمل التراث الإسلامي الذي مازال بمنأى عن التحليل والنقد العلميّيْن اللذين طُبّقا على تراث الأديان الأخرى وخاصة اليهودية والمسيحية كما هو معروف.
“التحديث من الداخل” غير منتج Contre-productif وبصدد إصلاح الإسلام مثلا هو استحالة إيبستيمولوجية. علوم الأديان الحديثة تكوّنت في مناخ الثورات العلمية والفلسفية والصناعية الحديثة. وليس لها أشباه ونظائر في تاريخ العلوم لا عندنا ولا عند غيرنا من أمم الجنوب. وهذه العلوم ليست نبتة أو حيوانا يمكن تدجينه بتكييفه مع البيئة الجديدة. هي مفاهيم ونظريات وقوانين علمية دقيقة غالبا، تدجينها مرادف لإجهاضها. إذن هي غير قابلة للتدجين.
الخلفية الأيديولوجية لشعار التحديث أو التجديد من الداخل غير مقبولة علميا أيضا. فهي في الواقع تعبير عن “الخصوصية” العربية الإسلامية الشهيرة : نحن أمة استثنائية لا يصلح لها ما يصلح لغيرها من الأمم التي لم يكرّمها الله بالإسلام… الله كلّمنا لآخر مرّة في التاريخ فأعطانا الدين الحقّ ولغتنا هي لغة أهل الجنة. وهما لا يقبلان الإصلاح إلا إذا كان من الداخل، وفي قول آخر، هما لا يحتاجان لأيّ إصلاح أصلا.
نحن هنا أمام منطق عبادة الأسلاف النرجسي الإقصائي، السائد لدى الشعوب البدائية أو ذات الذهنية البدائية، والذي آن لنا أن نخرج منه إلى منطق الشعوب الحديثة أو ذات الذهنيات الحديثة التي لا ترى مانعا من استعارة العلوم الحديثة دونما تشويه لمنطقها الخاص وصرامتها العلمية برغبات عصابية. شعار التحديث من الداخل هو أحد أعراض عقاب الذات autopunition المتواصل منذ قرنين بتكرار التجارب الفاشلة. لا توجد أمة في العالم حدّثت نفسها من الداخل. اليابان، منذ حكومة الميجي في القرن التاسع عشر، دشنت دخولها للحداثة باستعارة الحداثة الأوروبية فتبنّت دستور بلجيكا وقوانينها الوضعية، وأدخل إمبراطورها المعبود الشوكة للأكل بدل العيدان اليابانية التقليدية، وأدخل الموسيقى الكلاسيكية بدل الموسيقى المحلية. لماذا فعلت اليابان ما عجزنا عنه؟ لأنها بلا تراث أسلاف يردعها – مثلنا – عن تقليد الآخر “الكافر” كما هي حالنا نحن. لكن فكر بعض نخبنا السحري يفترض أن التحديث من الداخل ممكن بالنسبة لنا بفضل معجزة ما، جاهلا أو متجاهلا أن الحداثة سوسيولوجيا هي كل لا يتجزأ. إما أن تأخذه أو تتركه. وقد تركناه لسوء حظّنا طويلا، فلماذا لا نحاول ولو لمرة واحدة أخذه عسى ولعل يساعدنا على الخروج من كابوس التأخر التاريخي الذي أسقطنا في الهذيان شعوبا ونخبا وجعل جرحنا النرجسي، أي شعورنا بالخصاء والإذلال والدونية بعرض وعمق النيل والسين معا.
هل نجح تدريس علوم الأديان في الديانات الأخرى في تخليصها من الجمود والعنف الدينيين اللذين تعتبرهما مرضين من أمراض الإسلام المعاصر؟
إلى حدّ كبير. كل دين تقريبا مسكون بالتعصب الذي هو الابن الشرعي للنرجسية الدينية التي يبثّها في شعارات هُذاء العظمة، مثل نحن شعب الله المختار، ونحن خير أمة أخرجت للناس، ونحن الفرقة الناجية. في التسعينات تعرّفت على فرقة مسيحية من 120 شخصا ينتشرون في ستة بلدان تسمي نفسها مملكة النور، وتسمّي باقي المعمورة مملكة الظلام التي ستلقى قريبا مصير صودوم، مدينة لوط، لأن نهاية العالم اقتربت. وبالمناسبة هذيان نهاية العالم عرض للفصام السريري. الديانات التي أعيد تعريفها بعلوم الأديان دَجّنت إلى حدّ كبير الميل إلى النرجسية الدينية والتعصب. إعادة تعريف الإسلام بهذه العلوم قد يعطينا نتائج مشابهة. يتنافس اليوم الإسلام السياسي والنُخب شبه الحديثة الحاكمة على حيازة مشروعية الذاكرة الجمعية الإسلامية. المنافسة في الواقع محسومة لصالح أقصى اليمين الإسلامي لأن الخطاب الديني، الذي تحشو به مدرسة اللامعقول الديني الذاكرة الجَمْعية السلفية التي شعارها لا تصدِّقوا “إلاّ قال الله وقال الرسول”، أي حاربوا العقل والعلم بكلّ ما أوتيتم من قوة، يحمل الحَبّ إلى طاحونة الإسلام السياسي الذي هو اليوم أقصى يمين الإسلام.
بدلا من خوض هذه المنافسة البائسة على امتلاك ذاكرة جمعية متقادمة، كان على النخب الحاكمة أن تتبنّى مشروع إعادة تأسيس هذه الذاكرة الجمعية بتدريسها بعلوم الأديان في مدرسة المعقول الديني. استطاعت الجمهورية الفرنسية الثالثة أن تتجاوز الصراع الطائفي بين الكاثوليك والبروتستانت بتدريس تاريخ ما قبل المسيحية القادر على خلق هويّة جماعية يتعرّف فيها جميع الفرنسيين على أنفسهم تكون أقوى من الهوية الدينية لكل من الكاثوليك والبروتستانت. بإمكان الدول العربية والإسلامية أن تستفيد من هذه التجربة، لتكوين هوية جماعية مشتركة أقوى من الهويات الطائفية. وذلك بتدريس جميع لحظات تاريخها بدلا من أن تقتصر على آخر لحظاته التي هي اللحظة الإسلامية جاعلة منها أَلِف التاريخ وياءه. بإمكان مصر مثلا أن تدرّس الفترة الفرعونية والفترة القبطية… إلخ، إلى أن تصل إلى الفترة الإسلامية. في تونس يبدأ التاريخ من اللحظة القرطاجنيّة المُؤسِّسة مرورا بالفترة الرومانية التي أثّرت في الإسلام التونسي ثم المغاربي، فقد أخذ فقهاء المالكية بعض أحكام القانون الروماني الذي أصبح عند السكان عرفا وعادة. وأخيرا اللحظة الإسلامية التي كانت أكثر اللحظات الثلاث تأثيرا واستمرارية. وتونس جديرة بالاستلهام، ويليق بالنخب الإصلاحية في أرض الإسلام أن تستلهم تجربتها الإصلاحية الطويلة والثرية.
ما هي علوم الأديان القادرة على إصلاح الإسلام؟
علوم الأديان المطلوب تدريسها هي تاريخ الأديان المقارن والسوسيولوجيا الدينية والأنثروبولوجيا الدينية وعلم نفس الأديان واللسانيات والفيلولوجيا (علم اللغة) والهرمينوطيقا (علم التأويل)… وأُضيفُ إليها علما آخر لم يكن في الأصل من علوم الأديان ولكنّه غدا اليوم منها أعني به علوم الأعصاب Les neurosciences)). كما أضيف الفلسفة التي ليست علما إلا أنها ينبوع الفكر النقدي الضروري للمقاربة التاريخية – النقدية للظاهرة الدينية ولتحصين عقول الأجيال الجديدة ضدّ فيروس الهذيان الديني.
الإسلام ليس دينا فقط بل هو أيضا مشروع سياسي – عسكري قوامه الجهاد إلى قيام الساعة من أجل هدفين، إدخال البشرية فيه وقتل آخر يهودي كما يقول حديث لا شك أنّه موضوع رواه البخاري وضمنته حماس في المادة 7 من ميثاقها الذي أعلنت أنها ستغيّره قريبا. – وأتمنّى أن تقرن القول بالفعل فميثاقها أُحفوري وفضلا عن ذلك مضرّ بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة – إصلاحه يتطلّب تدريسه ودراسته بعلوم الأديان لنزع القداسة عن السياسي والعسكري فيه تسهيلا لفصلهما عن الدين المقدس الوحيد وإلا كان الإصلاح مجرد لمسات تجميلية.
بماذا تردّ على من يقول أن تدريس الدين بعلوم الأديان ينزع القداسة من الدين نفسه عندما يجعل نصوصه موضوعا للبحث مثل أي نص أدبي أو أسطوري؟ وهذا من شأنه تكوين مسلمين لامبالين بالدين كما في أوروبا وبقية البلدان التي يُدرَس فيها الدين بعلوم الأديان؟
عدم تدريس الإسلام بعلوم الأديان كما تُدرس به الأديان الأخرى في العالم يعني أن نَدَعَ الناس في جهلهم يعمهون حتى يبقوا متديّنين. فالأفضل إذن التجهيلية l’obscurantisme أي أن يكون عندنا شعب من الجهلة المتديّنين بدلا من شعب من المتعلّمين والعلماء والمواطنين اللامبالين بالطقوس الدينية. قال ميخائيل نعيمة سنة 1951 : “الدّين الذي يخشى من الشيوعية، الشيوعية خير منه”. وبدوري أقول الدّين الذي يخشى العلم فالعلم خير منه. بعيدا عن السجال لننظر للواقع. دراسة الدين بعلوم الأديان وتدريسها في المدارس والجامعات بدأت في أوروبا منذ قرون. فماذا كانت النتيجة؟ أغلبية من المؤمنين الوَديعين والمتسامحين مع الآخر والدين الآخر، 25 في المائة من اللامبالين منهم 6 في المائة فقط من الملحدين المُقتَنعين. أما في الجمهورية الإسلامية الإيرانية حيث كلّ شيء دين في المسجد والمدرسة والجامعة والإعلام والشارع والبيت منذ الثورة، فماذا كانت النتيجة؟ 30 عاما من الهذيان الديني أنتجت 30 في المائة من الملحدين. لماذا؟ لأنّ الإكثار من الدين يقتل الدين. أو كما يقول المثل الحكيم، كلّ ما تجاوز الحدّ انقلب إلى الضدّ.
من دون هذه المقاربة العلمية لن ننتقل من المقاربة التقريظية إلى المقاربة النقدية ولا من التكفير إلى التفكير وإعادة التفكير فيما يطرحه علينا الدين والحياة من إشكالات. الخوف من ضياع الإيمان هو في حد ذاته عَرَض لشكّ الخائفين المكبوت في صدق إيمانهم. القرار التربوي الشجاع والذكي لا يبنى على المخاوف اللامعقولة بل على المصلحة العامة المعرّفة تعريفا دقيقا والتي تجعل من الإصلاح الديني فريضة عقلانية.
لكن بماذا تجيب القائلين بعدم إمكانية تطبيق علوم نشأت في بيئة غربيّة يهودية-مسيحية على النصوص الإسلامية، ألا يكون ذلك تعسّفا بحق هذه العلوم وبحق الإسلام نفسه؟
ذلك ممكن تماما. هذه العلوم كجميع العلوم أنتجها العقل البشري الكوني أي الذي يُسلِّم بنتائجه جميع أصحاب العقول السليمة. كما أن علوم الطبيعة صالحة لكلّ مكان، فكذلك علوم الأديان التي يَدْرس بها الآن الهندوس الهندوسيّة والبوذيون البوذية. فكيف لا يُدرس ولا يُدرَّس بها الإسلام وهو منحدر من تلاقح ثقافي عميق مع الديانتين اليهودية والمسيحية. القرآن نفسه يقول لنا ذلك : “إنّ هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى”. معظم قصص الأنبياء في القرآن مأخوذة من العهد القديم. سورة يوسف مثلا تلخيص مركّز لقصة يوسف في العهد القديم، وبالمثل في القرآن الكريم – تحت اسم الزبر والزابور – نجد آيات مقتبسة من نشيد الأنشاد الذي بعض آياته مترجمة حرفيّا من آيات “النشيد الأعظم” للفرعون أخناتون الذي يؤكّد النقد التاريخيّ بدلائل مُقْنعة، خاصة كتاب “أسرار سفر الخروج” (Les secrets de l’Exode) الصادر سنة 2000 بالفرنسية وتُرجم في أكثر من 40 بلدا إلاّ مصر المعنيّة به أوّلا، أنّه إبراهيم التوراتي. يثرب أسّسها الفراعنة في الألف الثانية قبل الميلاد لحراسة طريق استيراد الأحجار الكريمة من ظُفار، فلماذا لا يكون إبراهيم المصري هو الذي وضع أسُس الكعبة أيضا؟ هذا ليس فرضية تاريخية هو مجرّد تساؤل ودعوى إلى البحث… يفترض مؤلِّفا الكتاب أيضا أنّ يوسف هو رئيس الكهنة الأب “آي” الذي سيصبح فيما بعد فرعون وأنّ موسى هو رمسيس الثالث. وعموما للأساطير خلفية تاريخية. ترجمة هذا الكتاب ووضعه على الأنترنت قد يثير نقاشا علميا خصبا نحن في أشدّ الحاجة إليه للخروج من النقاشات الزائفة وسجن المسكوت عنه الديني الذي هو بمساحة خارطة أرض الإسلام. فهل من متطوّع؟
أُلحّ إلحاحا خاصّا على ضرورة تدريس تاريخ الأديان المقارن ابتداء من الإعدادي إلى العالي طبعًا في مناهج يُعدّها الأخصّائيون فيه تكون ملائمة لكلّ مرحلة من مراحل التعليم. تاريخ الأديان المقارن قائم عل مسلّمة جوهريّة قائلة لا يمكن فهم عقائدَ الأديان الحيّة مثل اليهودية والمسيحية والإسلام وشعائرها ورموزها وأساطيرها إلاّ بمقارنتها بعقائد الأديان الميّتة التي تطوّرت منها -وخاصة الديانتين البابليّة والمصرية- وشعائرها ورموزها وأساطيرها. تاريخ الأديان المقارن بتنزيله الظاهرة الدينية في التاريخ يجعلها قابلة للفهم تاريخيّا وعلميّا، أي بلا أسرار ولا ألغاز يقف أمامها العقل البشري عاجزا عن السؤال والفهم. لا شيء كتاريخ الأديان المقارن وعلوم الأديان لتحرير المؤمنين من الرقّ النفسي لتراث الأسلاف الذي جعل من كثير من فقهائنا مومياءات تراثية متحركة.
هل بإمكان العقل أن يفهم كل الألغاز الدينية بعلوم الأديان؟
ربّما لا. ولماذا لا؟ وفي الحالين يجب إعطاؤه الحقّ في السؤال، والسؤال محرّم في الإسلام التقليدي. استطاعت علوم الأديان حتى الآن تفكيك معظم رموز وأساطير العهد القديم. ومازالت الاكتشافات الأركيولوجية تقدّم لها باستمرار المزيد، كما فعلت الأركيولوجيا في إسرائيل وفلسطين وسيناء خلال الأربعين عاما الماضية.
تمكين العقل البشري من فهم الظاهرة الدينية عقلانيّا يجعلها نسبيّة. لأن كل ما هو تاريخي نسبي يتطوّر ويتكيّف مع متطلّبات الحياة في كل حقبة وكل بلد. اكتشاف أمريكا كان المنطلق الحقيقي للإصلاح الديني في أوروبا. ذلك أنّ وجود عقائد وشعائر دينية عند سكّانها الأصليين الذين لم تبلغهم الدعوة لا اليهودية ولا المسيحية شكّل صدمة صِحيّة للوعي المسيحي، فاكتشف ما تسمّيه الفينومينولوجيا وحدة الظاهرة الدينية التي تتجلّى في الاعتقاد في وجود عالم الغيب، عالم متعالٍ ومقدّس ومسكون بالأرواح والآلهة بالرغم من اختلاف المظاهر التاريخية التي تجلّت فيها هذه الوحدة الجوهريّة للظاهرة الدينية…
عندما يتعلم التلميذ أو الطالب أن الرموز الدينية واحدة في الأديان الوثنية والتوحيدية وأنّها انتقلت من الديانتين الوثنيّتين البابلية والمصرية إلى اليهودية، فإنه يتعلم التسامح الديني وضرورة حوار الأديان وينزرع فيه الفضول المعرفي وحبّ البحث. الأساطير البابلية انتقلت عن طريق إقامة اليهود في بابل خلال السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، وترجمتهم للأساطير البابلية في سفر التكوين عن أصل الكون الذي خلقه سبعة آلهة، في سبعة أيّام ومن هنا أسطورة قداسة الرقم 7 في الديانة البابلية مثلا سبعة آلهة وسبع سماوات وسبع أرَضين؛ كما أنّ أسطورة “الزوجين الأوّلين، آدم وحوّاء” ترجمها النبي حزيقال في سفر التكوين من الأساطير السوميريّة التي كانت تُسمّي آدم “أَدَبَا” أي الرجل المخلوق من صلصال، وآدم العبرية تعني “أديم الأرض” كما في العربية أيضا… علما بأنّ حزيقال تُخبرنا التوراة أنّه كان يأكل برازه، وهذا عَرَض من أعراض الفصام. أيضا أسطورة طوفان نوح اقتبسها سفر التكوين من ملحمة جلجامش التي تقول مثلا : “يا أتو بشتيم (الذي تُرجم إلى نوح) ابنِ سفينة واحمِل فيها اثنين من كل ذي حياة” لمواصلة تناسل الأحياء بعد الطوفان؛ وكذلك مدينة لوط هي في الأصل أسطورة بابلية. بالمثل تبنّت اليهودية كثيرا من أساطير الديانة المصرية ومنها انتقلت إلى المسيحية والإسلام.
وهكذا يعلم تاريخ الأديان المقارن أجيالنا الطالعة بأن الظاهرة الدينية تطوّرت بتطور المعارف البشرية من الإحيائية animisme إلى الأسطورة فإلى الدين. كما يعلمهم أن الدين لبّى عموما حاجات بشرية أساسية منها الرغبة في الخلود باختراع حياة أخرى بعد الموت. منذ بدأ الإنسان يدفن موتاه منذ 100- 350 ألف عام تحضيرا لهم للعيش في عالم آخر لبّى رغبته في الخلود. وبدأ يلبّي رغبته في معرفة الظواهر منذ بدأ يعطي تفسيرا خياليا لكل ظاهرة. بإمكان مدرسة المعقول الديني المنشودة أن تنوّر هذه الأجيال بحقيقة أن هذه الرغبة يلبّيها اليوم تدريجيا العلم بجعل العلاقة بين الإنسان وظواهر الطبيعة والمجتمع والنفس البشرية أكثر فأكثر شفّافة. أما الرغبة في الخلود فيمكن تلبيتها عقلانيا بالتقدم الطبي بالقضاء شيئا فشيئا على الألم والمرض وتأخير الشيخوخة. الإنسان مبرمج جينيّا ليعيش 120 عاما. لكنه نادرا ما يصل إلى هذه السنّ بسبب عقابه لذاته بنمط حياته السيّئ. بإمكان الطبّ اليوم أن يجعل مَن ولدوا في هذا القرن يعمّرون مائة عام وبصحّة جيّدة. كما أنّ إشباع غرائز الحياة بالقضاء على الحرمان الذي فرضته تقاليد ميّتة ومميتة يُلطّف الرغبة الهاذية في الخلود. بإمكان التحليل النفسي اليوم أن يساعد الإنسان الذي يتوهّم نفسه خالدا على قبول فكرة موته بضمير مطمئنّ. وهكذا يمكن التخلص التدريجي من قلق الموت محرّك الرغبة في الخلود. ويمكن إذن تقليص مساحة الهذيان الديني. بالوصول إلى مؤمن لا يرى في موته اغتيالا، كما كان يقول Levinas، بل نهاية ضرورية لترك المكان لمن ولدوا بعده لتواصل ملحمة الحياة مسارها. شخصيا فكرة خلودي لا تفرحني بل تثير قشعريرتي. في وضع بائس أو في أرذل العمر عندما تفقد الحياة معناها يكون الموت أو الانتحار خلاصا.
حقائق تاريخ الأديان هذه تساعد التلاميذ والطلبة على فهم تكوّن الظاهرة الدينية تاريخيّا وبذلك تقطع الطريق على اليقين الديني الأعمى الذي هو الأمّ الشرعية للتّزمّت والتطرّف والعنف الديني. وهذا هو الطريق الملكي للتّديّن المعتدل والإيمان المستنير الذي يفتح الطريق لحوار الأديان والثقافات الذي هو اليوم بديل حروب الأديان والثقافات. قلّما لا يعترف من درس تاريخ الأديان المقارن بجميع الأديان على قدم المساواة لأنّ بُنيتها واحدة وأصلها واحد. فقد تطورت عن بعضها بعضا عن طريق التلاقح الثقافي. وباختصار فكل علم من علوم الأديان يُلقي أضواء كاشفة على ظاهرة أو أكثر من الظواهر الدينية. مثلا السوسيولوجيا الدينية تعلّم الأجيال الجديدة أن الدين ظاهرة اجتماعية، وككل ظاهرة اجتماعية هو إذن موضوع للبحث والتحليل العلميين. وأن التطور الاجتماعي هو الذي يفرض على الدين التكيّف معه وليس العكس. أي أن المستجدّات التاريخية تعدّل أو تنسخ أحكام النصوص الدينية. وعندما يرفض الفاعلون الاجتماعيون تكييفه مع المستجدّات التاريخية فإنهم بذلك يُحوّلون الدين إلى جمود ديني أي إلى عقبة تعيق التطور التاريخي للجماعة المؤمنة. وهذا ما حدث للإسلام منذ قرون. كما تُعلّم المؤمن أن يلعب دوْرين، دور المؤمن ودور الباحث. من حقه كمؤمن عندما يصلّي أن يذوب في النص أي يتماهى معه، وعليه كباحث أن لا يتماهى مع النص بل أن يقف منه موقف الحياد حتى يجعل البحث الموضوعي فيه ممكنا. وهو ما نجده مثلا عند الفيلسوف الفرنسي المؤمن Paul Ricœur. سألت بيولوجيست فرنسي مرّة كيف وفَّقتَ بين علمك وإيمانك؟ أجاب : عندما أدخل الكنيسة أترك علمي في غرفة الملابس، وعندما أدخل المختبر أترك إيماني في غرفة الملابس. وهذا هو نموذج المسلم المؤمن الذي يمكن أن تنتجه دراسة الإسلام بعلوم الأديان. في اليهودية والمسيحية يوجد تمييز بين دين الإيمان كمجال خاص لممارسة الشعائر وبين دين التاريخ كمجال عام للسؤال والبحث العلمي. يمكن بالإصلاح الديني أن نصل إلى هذا التمييز في الإسلام أيضا. وهي محطة ضرورية لعقلنة الإسلام وتبعا لذلك لإشاعة العقلانية في المجتمعات الإسلامية الغارقة في الهذيان. حتى بات بإمكاننا التأكيد بأننا أمة تهذي.
ما سبب هذا الهذيان؟
ربما كان السبب الأول هو صدمة الحداثة التي عجزت الشخصية النفسية الجمعية على امتصاصها والصدمة العنيفة، حسب الطب النفسي، تجعل المصدوم ينقلب من العُصاب إلى الذُّهان. المحلل النفساني فتحي بن سلامة يردّ هذا الهذيان الجماعي إلى ما اسماه د.عبد الصبور شاهين “التناقض بين القرآن والعلم”. هذا الهذيان مرشّح للتفاقم. في هذا الشهر استطاع باحث أمريكي صنع الحياة مخبريا. أي صنع بكتيريا حيّة حاملة لآلاف الجينات تتوالد وحدها انطلاقا من مواد كيميائية. صانعها الوحيد هو الكمبيوتر. وهكذا غدا صنع كائنات حية نباتية وحيوانية مطروحا على جدول الأعمال… إذا كان الاستنساخ قد أدخل فقهاءنا وجمهورهم في الهذيان، في البارانويا الجماعية فكيف سيفعل بهم صنع الحياة مخبريا ؟
ما العمل؟
تحليل نفسي جماعي يتكفل به إصلاح دينيّ شجاع يفصل بين القرآن والعلم. وهذا ما حققه الشيخ متولي الشعراوي في كتابه “معجزة القرآن” قائلا :”إنّ الذين يقولون إنّ القرآن لم يأت ككتاب علم صادقون. ذلك أنّه كتاب أتى ليعلّمني الأحكام ولم يأت ليعلّمني الجغرافيا أو الكيمياء أو الطبيعة”. هذه الكلمات جديرة بأن تكتب بماء الذهب ويدرسها أبناؤنا من الابتدائي لشفاء أمثال عبد المجيد الزنداني في “جامعة الإيمان” من الهذيان السريري الذي أوصله إلى ادّعاء اكتشاف دواء للأيدز… إلا أنّ أطباء اليمن رفضوا الاعتراف به.
السوسيولوجيا الدينية تعلّم الشباب كيف يحلّلون التعاليم والنصوص الدينية في علاقتها بسلوك المتديّنين ومدا تأثيرها فيهم إيجابا أو سلبا وما هي الحاجات الفعلية أو التخييلية التي تلبيها لهم، وكيفية توظّيف الفاعلين الاجتماعيين للدين ولأيّة أهداف وفي أيّ مكان وزمان. مثل هذا الفهم يساعد على تطوير السلوك الديني وتوجيهه للمجال الخاص أي العائلة والجمعية والمسجد، ليبقى المجال العام مفتوحا لممارسة القيم المشتركة بين المواطنين جميعا على اختلاف طوائفهم وأديانهم. وهذه القيم المشتركة هي قيم حقوق الإنسان الكونية التي أنتجها العقل البشري للعقل البشري.
وتعلمنا السوسيولوجيا الدينية أنّ النص الديني لا ينطق بنفسه بل ينطق به الفاعلون الاجتماعيون مدفوعين بمصالحهم المادّية والسياسية أو بهذياناتهم. لذلك نجد الآية الواحدة أو الحديث الواحد فسّرته كل فرقة بما يتناسب مع معتقداتها السياسية أو الدينية. كما تعلّمهم أن الدين محافظ يرفض التجديد، لذلك هو في صراع دائم مع التجديد الديني والفكري والعلمي والأدبي والفنّي، حسبنا تَذكُّر حديث “كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار”. كما تعلمهم أنّ العلمانية هي المخرج الوحيد الممكن من هذا المأزق ليكون الدين لله والوطن للجميع كما قال سعد زغلول.
الأنثروبولوجيا الدينية تعلّم تلامذتنا وطلبتنا أنّ النصوص الدينية هي بنت المناخ الثقافي الذي ظهرت فيه. إذن هي نسبية وتتغيّر بتغيرات حساسيات الناس وأسلوب حياتهم وعقلياتهم فتغدو متقادمة أي يتجاوزها الزمن. وهكذا تصبح النصوص خاصة المتعلقة بالمعاملات والقِصاص ذات أهمية تاريخية ورمزية. وهذا ينطبق على الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية الشرعية والعقوبات البدنية التي أصبح تطبيقها فضيحة بل وجريمة في عصر ثقافة حقوق الإنسان التي صانت كرامته وفرضت حُرمة جسده واعترفت له بقائمة من الحقوق غير المسبوقة في تاريخ البشرية كحرية الاعتقاد أي تغيير الدين وحرية الضمير أي عدم الأخذ بأي دين وحرية التفكير والتعبير بعيدا عن كل رقابة دينية. مثلا كيف تُطبّق إيران أو السعودية عقوبة الرجم والحال أن البلدان المتحضّرة نسخت حتى عقوبة السجن في الزنا بما فيها حكومة تركيا الإسلامية التي نسخت عقوبة الإعدام وعقوبة الزنا واعترفت للمسلم بحقه في تغيير دينه أو عدم الأخذ بأي دين؟
أليست فضيحة أن ترفض المحكمة الشرعية العليا في السعودية سنة 2008 فسخ زواج كهل (58 عاما) مع طفلة في الثامنة بحجّة أن النبيّ تزوّج عائشة في التاسعة، وأمّ الفضائح هي بقاء السعودية وباقي الدول العربية باستثناء تونس والمغرب حتى الآن من دون قانون أحوال شخصيّة حديث يمنع زواج – اغتصاب الأطفال وتعدّد الزوجات والطلاق الانفرادي والتفاوت في الشهادة والإرث عملا بفتوى الفقيه المجدد حسن عبد الله الترابي ويمنع الإرث بالتعصيب أسوة بتونس الرائدة في رفع المظالم عن المرأة.
كيف ألغى الحبيب بورقيبة الإرث بالتعصيب؟
كان ذلك إن صدقتني الذاكرة سنة 1967 عندما توفّي أب تاركا كوارث ابنة واحدة. بحثت المحكمة أسابيع عن قريب لإعطائه نصف التركة وأخيرا عثرت عن قريب بعيد له لم يلتق به قطّ ولم يسمع حتى بموته، فأعطته نصف التركة. أعلم وزير العدل بورقيبة بالواقعة فأصدر فورا قانونا يلغي الإرث بالتعصيب فأصبحت البنت ترث كلّ تركة أبيها. إذا كان الإسلام اليوم معزولا وفي صدام مع العالم ومع قطاع متزايد باستمرار من المسلمين أنفسهم فذلك لأنه مازال لم يكيف نفسه Aggiornamento مع حقائق العالم الذي يعيش فيه.
المظالم الشرعية التي سلّطها الفقهاء المعادون للمرأة على المرأة منذ عدة قرون، لم يعد لها اليوم أي مبرر أنثروبولوجي في العالم الذي نعيش فيه، عالم ثقافة حقوق الإنسان التي اكتسبت في الوعي الجمعي للبشرية وفي وعي قطاع متزايد من المسلمين شرعية وقداسة الدين. وأتمنى على الملك المصلح عبد الله بن عبد العزيز أن يُنقذ الإسلام والشعب السعوديّ معا من لعنة تطبيق العقوبات البدنية الشرعية التي تشوّه صورة الإسلام في العالم. وباسم العلم أوجّه له نداءً حارّا لرفع الحظر عن التنقيب الأركيولوجي في الحجاز، وخاصة في مكّة والمدينة المحظورتين على الباحثين الأجانب، لغايات علمية يتطلبها كشف الآثار الباقية من تاريخ ما قبل الإسلام وما بعد الإسلام، ووضع حد لتدمير المتعصبين للآثار الإسلامية منذ 1933 وآخرها مطالبتهم بتحويل بيت خديجة في مكة المكرمة إلى مرحاض عمومي… فهذه الآثار جزء من ذاكرة البشرية وتقدم للعلم والتاريخ خدمات لا تقدر بثمن. إهمالها وإتلافها جريمة في حقّ هذه الذاكرة وفي حقّ العلم وفي حق تاريخ الإسلام الذي مازال التنقيب الآثاري لم يقدم إليه إسهامه الثمين لغربلة الروايات الشفوية التي تخلط الحقيقة بنصف الحقيقة وبعكس الحقيقة وتتحدى الباحثين أن يميزوا بينها.
-2-
كيف لفّق ابن إسحاق حدّ الرجم؟
ناصر بن رجب : يقول الخميني في “تحرير الوسيلة” ج 2، كتاب النكاح، مسألة 12، ص 221 : “لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، دواما كان النكاح أو مُنقطعا، وأما سائر الإستمتاعات كاللمس بشهوة والضمّ والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة، ولو وطأها قبل التسع ولم يفضّها لم يترتب عليه شيء غير الإثم على الأقوى…”. فكيف تقرأ هذه الفتوى؟
للتاريخ، فتوى خميني هذه هي حديث متّفق عليه.
ما معنى متفق عليه ؟
أي اتّفق على روايته الشيخان البخاري ومسلم. وعندئذ يصبح لا جدال فيه. فتوى خميني بهذا الحديث في القرن العشرين هي في حدّ ذاتها شاهد إدانة على تأخّر إصلاح الإسلام بحقوق الإنسان وعلوم الأديان والفكر الفلسفي النقديّ وبكلّ مكاسب الحداثة. تأخّر الإصلاح يُنتج الأهوال وفي مقدّمتها طغيان اللامعقول الدينيّ حتّى على الذوق السليم Le bon sens. الاستمتاع الجنسي “حتى في الرضيعة” تعبير عن رغبة جامحة في اغتصاب الأطفال الشائع اليوم في أرض الإسلام التي مازالت دولها لم تحدّد بعد سنّ الزواج بثمانية عشر عاما كما فعلت تونس والمغرب مثلا. قوانين العالم الذي نعيش فيه تعتبر نكاح الأطفال قبل ستّة عشر عاما اغتصابا، إذن جريمة مستوجبة للعقاب. أمّا في كثير من البلدان الإسلامية فتعتبره الشريعة زواجا “على سنّة الله ورسوله”. وكأحد المؤشّرات على بداية نُضج إصلاح الإسلام في وعي النخب الإسلامية، فرضت السعودية مؤخّرا ضرورة كتابة سنّ الزوجة في عقد النكاح ربّما – في السيناريو المتفائل – كتمهيد لوضع حدّ لاغتصاب الأطفال فيها. والجدير بالملاحظة أنّ باحثا مصريّا أثبت بالعودة إلى وقائع التاريخ أنّ سنّ أمّ المؤمنين عائشة كان ثمانية عشر عاما لمّا بنى بها الرسول وليس تسعة أعوام كما يذكر البخاري، وهذا ينسف “سنّة الله ورسوله” التي برّر بها المحدّثون الرغبة في اغتصاب الأطفال، أي البيدوفيليا الراسخة في النفسية خاصة لمن كانوا في طفولتهم ضحيتها.
لا ينبغي أن ننسى أنّ في إيران اليوم نخبة إصلاحية عقلانية ذات جماهيرية جارفة لا تعتبر خميني مرجعيّة لها، ومطلبها المركزي فصل الدين عن الدولة والقطع النهائي مع تطبيق الشريعة، وخاصة إيقاف جريمة الرجم التي تطبّقها الآن إيران التي عاد حكّامها للقرون الوسطى لكنّ نخبها وشعبها يعيشون في قلب القرن الحادي والعشرين ويدفعون ثمن ذلك من حريتهم وحياتهم. حداثتهم الدينية جديرة بأن تكون قدوة حسنة لكلّ المسلمين في العالم حيث مازال تيّار الجمود الديني، بالرغم من أنّه في موقع دفاعي، هو الأعلى صوتا والأشدّ أذى للإسلام والمسلمين وباقي البشرية.
ناصر بن رجب : ترجمتُ بحثا مهمّا للمستشرق الفرنسي دي بريمار سأنشره قريبا جدّا عنوانه : “نبوّة وزنا” فكّك فيه كيف فبرك المحدّثون والفقهاء حدّ الزنا في الإسلام. اتّضح لي من ذلك أنّ ابن إسحاق، الذي قال عنه مالك بن أنس أنّه دهريّ متّهما إياه بالكذب، لفّق سيناريو امتحان اليهود للنّبي في حدّ الزنا وذلك لهدفين : الأوّل إثبات أنّ نبوّة محمد جاءت في التوراة ولكنّ اليهود كتموها، والثاني نقل حدّ الرجم من الشريعة اليهودية إلى الشريعة الإسلامية زاعما أنّ أحبار اليهود تآمروا في المدرسة التوراتية لاختبار نبوّة محمد فقالوا : “لنبعث بهذا الزاني والزانية إلى محمد ونسأله عن الحكم الشرعي فيهما، فإن قضى بالجلد فهو ملِك فاتّبعوه، وإن قضى بالرجم فهو نبيّ فاحذروه” ويجعله ابن إسحاق طبعا يقضي بالرجم لإثبات نبوّته وإضفاء الشرعية الإسلامية على حدّ الرجم التوراتي…
استنتاجك صحيح تماما. فقصد ابن إسحاق هو إثبات أنّ اليهود تأكّدوا من نبوّة محمد فكتموها وناصبوه العداء، ممّا يبرّر حروبه عليهم. وسواس تآمر اليهود على النبيّ نلتقي به في كلّ منعطف. مثلا زعم ابن اسحاق أنه لما مرّ أبو طالب مرفوقا بالفتى محمّد بقافلته على الراهب بحيرى أنبأه هذا الأخير بأنّ ابن أخيه سيكون نبيّا وحذّره من اغتيال اليهود له. ذات الهاجس نجده في فبركة سبب نزول آية تغيير الاتجاه من القدس إلى الكعبة فقد زعم واضعو أسباب النزول أنّ اليهود قالوا : لماذا يشاركنا محمد في الاتجاه في صلاته إلى القدس بينما التوراة تقول أنّ «نبيّ آخر الزمان» يستقبل في صلاته القبلة… طبعا هذا النص لم يوجد وما كان بإمكانه أن يوجد، لأنّ منطق النرجسية الدينية في اليهودية التي حصرت النبوّة في ذرّية إسحاق، ينافيه. وبالمناسبة يقول المستشرق ميشيل كويبرس Cuypersفي كتابه Le Coran أنّه عُثر على تسعمائة آية من مصحف يُرجِّح الباحث المعروف في القرآنيات أمير معزّي أنه إمّا أنها تعود إلى مصحف ابن مسعود أو إلى مصحف أُبي بن كعب، ويلاحظ المستشرق الذي اطّلع على هذا الجزء من المصحف أنّ الحديث والقرآن مازالا لم ينفصلا عن بعضهما البعض ويضرب مثلا باحتوائه لحديث-آية الرجم. وهذا يشير إلى أنّ الآيات تعود على الأرجح إلى مصحف أُبيّ، فالسجستاني يُخبرنا بأنّ آية الرجم موجودة فيه. ولكن نفورًا من هذا الحدّ الفظيع فإنّ لجنة جمع القرآن التي كان فيها أبيّ أبت إدراج حديث-آية الرجم في مصحف عثمان بما يدلّ على سوء سمعة الحدود الشرعية عند عثمان وباقي أعضاء اللجنة.
هل كانت سمعة الحدود سيئة إلى هذه الدرجة ؟
نعم، شريعة العقوبات البدنية لم تكن لها سمعة حسنة في تاريخ الإسلام. مؤسّس الإسلام كان يوصي أصحابه في المدينة بالتصالح فيما بينهم تفاديا لتطبيق الحدود عليهم قائلا : “تعافَوْا الحدود فيما بينكم، فما بلغني منها نفّذته”. وحتى ما يبلغه منها فإنه بحث له عن مخرج لعدم تنفيذه قائلا : “ادرؤوا الحدود بالشبهات”، أي أنّ على القاضي أن يبحث عن شبهة براءة ليتجنّب بها تطبيق الحدّ. وعُمر أوقف حدّ السرقة عام الرمادة أي المجاعة. وعثمان رفض إقامة الحدّ الشرعي على سالم بن عمر بن الخطاب لقتله قاتل أبيه “لؤلؤة” وابنته رغم مطالبة علي بن أبي طالب بإقامة حدّ القصاص عليه. وكان ردّ عثمان برغماتي : “لن أفعل. بالأمس يُقتل عمر واليوم يُقتل ابنه” ودفع من ماله دية القتيلين. وقبل ذلك رفض أبو بكر الصديق القصاص من خالد بن الوليد لقتله مالك بن نويرة… بالرغم من إلحاح عمر على ضرورة الاقتصاص منه. حتى حماس التي جعلت من تطبيق الحدود الشرعية سبب وجودها بدأت، تحت ضغط مبدأ الواقع، تبتعد عنها فاتّهمتها السلفية الجهادية “بالتخاذل في تطبيق الشريعة الإسلامية لصالح علاقات مع دول غربية كافرة” في مقدّمتها امريكا كما تقول السلفية الجهادية. حتى لو أخذت السلفية الجهادية مكان حماس، فإنّها هي نفسها على الأرجح “ستتخاذل في تطبيق الشريعة الإسلامية”..لأنّ ثقافة حقوق الإنسان نزعت عنها كلّ شرعية.
ناصر بن رجب : يقول ابن إسحاق في مختصر ابن هشام أنّ عمر خطب في الناس مذكّرا إيّاهم بأنّ آية الرجم غير منسوخة وهدّد بإقحامها في المصحف مُستدركا : “لولا أن يقول الناس أنّ عمر زاد آية لزدت آية الرجم”…
نحن دائما في مسرحية تلفيق الأحاديث، وإدخالُ عمر في لعبة إثبات أنّ حدّ الرجم من الإسلام هو في نظري ردّ ضمنيّ على اتّهام الشيعة له بأنّه هو الذي نسخ آية الرجم من ألواح حفصة قائلين : “لقد وضع إبهامه على لسانه ثم فسخ آية الرجم بلعابه”، فكان ردّ ابن إسحاق، وفي الحقيقة الخليفة المنصور عَبْره الذي كلفه بكتابة تاريخ البشرية من آدم إلى المنصور نفسه، هو الإلحاح الهوسي على تمسّك عمر بحدّ الرجم والتأكيد بأنه غير منسوخ كما قال ذلك في الخطبة المنسوبة إليه. وقال الفقهاء الذين لا ينقصهم التناقض أنّ آية الرجم نُسخت لفظًا وبقيت حكمًا. أي أنه لم تعد لها قداسة القرآن ولا يمكن الصلاة بها ويمكن مسّها دون طهارة… إلخ، لكنها مع ذلك تظلّ صالحة لقتل الزاني والزانية رجمًا. هذا كما يقول المعرّي : كلام له خبيء معناه ليست لنا عقول”. وحدهم المعتزلة أدركوا عبثية نسخ التلاوة وبقاء الحكم كما قال الفقهاء السنّة.
ناصر بن رجب : من أين أخَذَت الشريعة اليهودية حدّ الرجم الوحشي؟
لا أعلم. كراهية المرأة كانت – وفي أرض الإسلام مازالت – قاسما مشتركا بين غالبية الرجال. قد تكون ترجمة للحقد الدفين على المرأة الكامن في الشخصية النفسية للذّكور. شريعة حامورابي قضت بقتل الزانية غرقا في دجلة والفرات. وقد أحيت هذه السنّة الحامورابية الجماعة الإسلامية في كردستان العراق في التسعينات عندما قتلت فتاة اتهمتها بالزنا بإغراقها في أحد الأودية. أما الهندوس فيرمون الزانية للكلاب المُجوَّعة لتنهشها…
ولماذا هذه القسوة اللامتناهية ضدّ المرأة الزانية؟
من وجهة نظر نفسانية قد يعود ذلك إلى فانتازم الأمّ المفترسة الذي كوّنه الرضيع عن الأم ّ التي لا تقدّم له ثديها في الوقت المناسب. علما بأنّ جوع وعطش الرضيع لمدّة ربع ساعة يعادل جوع وعطش الراشد لمدة ثلاثة أيام. ويُعيده بعض المحلّلين النفسانيين إلى خشية الخصاء حيث يرقد في لاشعور الذّكر الخوف من ابتلاع فرج المرأة للعضو الذكريّ. أمّا السيكولوجي الألماني كنول Knoll فيتأوّله بالخوف من المقارنة مع رجل آخر الذي يعود في نهاية التحليل إلى خوف الخصاء. وهي في نظري فرضية وجيهة تدعمها شواهد انثروبولوجية عديدة لا مجال لذكرها هنا.
من هنا أهمية تدريس التربية الجنسية لتبديد هذه المخاوف اللامعقولة كما بدّدتها في أوروبا التي مرت هي أيضا في عصور ظلامها بهذا العداء الدفين للمرأة. مثلا أحرقت الكنيسة الكاثوليكية مائة ألف “ساحرة” يهودية.
في هذا المناخ تبدو الحكومات التي تُطبق العقوبات البدنية المتقادمة وكأنّها قد نامت نومة أهل الكهف وتتعامل بعُمْلتهم التي لم تعد قابلة للتداول. بالمناسبة، أسطورة أهل الكهف يُعلّمنا تاريخ الأديان المقارَن أنها مأخوذة من أسطورة “السبعة النيام” في إفسُس Les Sept Dormants d’Ephèse وهم مسيحيون فرّوا من اضطهاد الإمبراطور ديسيوس Decius (حكم من 249 إلى 251) ولم يستيقظوا إلا في عهد الإمبراطور ثيودوس الثاني Théodose II (حكم من 408 إلى عام 450). مصداقا لهذه الحقيقة الأنثروبولوجية أي تقادم الشريعة، الشريعة،كما صرّح مفتي مصر، لم تُطبَّق في مصر منذ ألف عام، بسبب زوال الظروف والذهنيات التي ظهرت فيها. ونفس هذه الحالة الأنثروبولوجبية تنطبق على آيات الإسلام المدني السّجالية ضدّ اليهود والنصارى والمشركين. والمشركون هم الوثنيون أي مثلا الصين والهند واليابان، وقد تساءل رشيد رضا مستغربا التّمسك بجهاد الطلب لإدخال البشرية كافة في الإسلام : هل علينا أن نجرّد جيشا لإدخال اليابان في الإسلام؟ تساؤله يكشف عبثيّة التمسك بنصوص زالت مُبرّراتها الأنثروبولوجية. نفس الحقيقة الأنثروبولوجية تنطبق على إسلام الولاء والبراء الذي جعل منه أقصى اليمين الإسلامي السياسي كلَّ الإسلام والحال أنّ الولاء والبراء لم يكونا إلا قانونا عرفيّا Loi martiale كان صالحا لزمن حروب النبيّ مع المشركين، وما إن وضعت الحرب أوزارها لا يعود ساري المفعول تماما كما تفعل الحكومات المعاصرة. لكن أقصى اليمين الإسلامي المريض بالأوتيزم Autiste أي الانطواء على الذات جعل الولاء والبراء عابرا للتاريخ. الإخوان المسلمون في مصر وسوريا يطالبون بإلغاء قانون الطوارئ الذي عمره 30 عاما. لكنهم يا للمفارقة متمسّكون بقانون طوارئ الولاء والبراء الذي عمره 14 قرنا. إنّه الجمود الديني اللامبالي بحقائق الزمان والمكان الذي افترس كل نواة معقولية في رؤوس ضحاياه.
ومن علامات نضج الانتقال من الفقه القديم إلى فقه إسلاميّ جديد متصالح مع عصره انعقاد مؤتمر إسلامي في مارس الماضي بمدينة ماردين (تركيا) حضره علماء من عدّة بلدان إسلامية اعتبروا فيه تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب وتكفير المسلمين باسم عقيدة الولاء والبراء قد تجاوزه الزمن فلم يعد صالحا لعصرنا وهو ما كنت أتمنّاه بكلّ جوارحي. وأَقترحُ على شيخ الأزهر أن يعقد مؤتمرا موسّعا تحت إشرافه لتأييد هذه الفتوى الشجاعة وتوسيعها وتعميقها، بل وأقترح على كلّ بلد مسلم عقد مثل هذه المؤتمرات للتعجيل بميلاد فقه إسلامي جديد متصالح مع عصره، دشن الصديق جمال البنا بسملاته الأولى.
الجنّة رمز لرحم الأم
بالمثل يقدّم تدريس علم نفس الأديان للتّلميذ والطالب إضاءة أخرى ثمينة تساعده على فهم الظاهرة الدينية عقلانيا. مثلا ماذا يقول علم نفس الأديان عن الظاهرة الدينية أي عن البعد النفسي لها؟ أنها ظاهرة نفسية. فقد اكتشف الإنسان الاعتقاد في كائنات ما فوق طبيعية، آلهة ثم إله، منذ ليل التاريخ عبر إسقاط صورة أبيه، رمز الحماية والحبّ، على أب آخر في السماء يقف إلى جانبه في أيام البأس واليأس ويقدم له العزاء والسلوى في الشدائد والمحن. وليس مصادفة أنّ القبائل البدائية تسمّي الله “الأب الذي في السماء” وكذلك يسمّيه المسيحيون. كما يعطيه المناهج لتأويل الرموز الدينية الأخرى كخلق حواء من ضلع آدم حسب أسطورة سفر التكوين التي تأوّلها فرويد بما هي تخييل استمنائي Fantasme de masturbation وكالجنّة التي أوّلها فرويد بالحنين اللاشعوري لإقامة الجنين في رحم أمّه. ورمزية النار التي يمكن تأويلها في نظري بأنها ذكرى صدمة الولادة وصدمة الفطام. وقد تبنى الشيخ خالد محمد خالد في كتابه “من هنا نبدأ” (1950) تفسير علم نفس الأعماق للشيطان بأنه رمز اللاشعور حيث ترقد الغرائز العدوانية والرغبات الجنسية المكبوتة وفي مقدمتها الرغبة في الاغتصاب الراسخة في نفسية الذكور.
اللّسانيات تعلّمنا أنّ كلّ نصّ تقريبا هو مجاز لا يجوز أن يقرأ قراءة حرفية وأنّه “ما في الكون كلام لا يُتَأَوَّل” كما قال ابن عربي في فتوحاته. والتأويل بمفهومه اللساني والهرمينوطيقي هو قبر القراءة الحرفية للنص التي هي أحد أمراض الإسلام..
الفيلولوجيا موضوعها الفهم الموضوعي للحضارات القديمة من خلال التحقيق والتحليل النقديين لنصوصها الأسطورية والأدبية والدينية. بها استطاع المستشرقون تحليل وتحقيق وترجمة نصوص الإسلام كنولدكه وبلاشير مثلا.
ما المقصود بالهرمينوطيقا؟
هي تأويل النصوص خاصة المقدسة في موضوعنا. فهي تعلّمنا أنّ النصوص والرموز خاصة الأسطورية والدينية فضفاضة وتحتمل معانِي عدّة مصداقا لقول الإمام علي “القرآن حمّال أوجه”، إذن يسمح بأكثر من قراءة واحدة. وتساعد تلامذتنا وطلبتنا وباحثينا على استخراج المعاني الأسطورية والرمزية الكامنة في النص بنقله من الإبهام إلى الوضوح لجعله مفهوما. التأويل، عكس التفسير العلمي، ليس منتجا لمعرفة علمية موضوعية تفرض نفسها على الجميع. بل هو تأمّل فلسفي أو صوفي. النص الديني برموزه يفتح آفاق تأويل لا حدود لها للقارئ الذي يحيّنه حسب عالمه المعيش ليعيد امتلاكه بإعطائه المعنى الذي يلائمه، وهذا ما نراه في التفاسير التي هي تآويل للنصّ القرآني حيث يلتقي عالَم الآية والعالم المعيش لكل مُفسّر وقارئ. مصداقا لقول ابن عربي “ما في الكون كلام لا يُتأوّل ” فعلا لأن التأويل هو مفتاح قراءة ما يقال أو يكتب تحت إملاء اللاشعور حتى النوتات الموسيقية تحتاج إلى تأويل. مثلا باخ، كما يقول مؤرّخو الموسيقى كتب في مخطوطاته الروابط بين النوتات بسرعة كبيرة حتى غدا يستحيل أحيانا معرفة مكانها الحقيقي، فيضطر عازفوه – يسمّون باللغات الأوروبية مؤولوه interpréteurs – إلى الاجتهاد في تنزيل الروابط. حالة باخ هي حالة الفنانين والأدباء والشعراء والمتصوفة والأنبياء الذين تتزاحم في رؤوسهم الأفكار والصور والإلهامات والرموز والمجازات على نحو يجعلهم يتحكمون بالكاد في تنظيمها. من هنا ضرورة الهرمينوطيقا أي التأويل لدخول عالمهم الغني بشتى المدلولات المبهمة والمتشابهة أي المتعارضة غالبا. يقول بعض الباحثين أنّ 94 في المائة من آيات القرآن الكريم متشابهات، إذن في حاجة إلى علوم التأويل الحديثة لتفكيكها وفهمها.
القراءة الهرمينوطيقية تمر بثلاث درجات : تبدأ بالمعنى الحرفي لتبرهن على أنه غير مقنع غالبا منتقلة إلى روح النص أي إلى معانيه المفهومة، وأخيرا إلى الدرجة الثالثة القراءة المجازية للنص حيث يتجاور عالم مؤلف النص مع عالم قارئ النص في حوار قوامه الإيحاء والاحتمال والترجيح. القراءة الهرمينوطيقية مارسها في الإسلام المتصوّفة وتفسير ابن عربي هو أحد نماذجها الأكثر نضجا، وهو للأسف لا يُدرّس على حدّ علمي في أي كليّة دينية إسلامية. أضيف شخصيا إلى علوم الأديان علوم الأعصاب التي تَدرُس تركيب الدماغ ووظائف وآليات اشتغاله. اكتشافاتها في هذا المجال غيّرت راديكاليا المفاهيم الدينية القديمة. مثلا ظلّت البشرية منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام تعتقد أنها تفكر وتؤمن بالقلب إلى أن كشفت البيولوجيا العصبية أنّ الإنسان لا يفكّر بقلبه بل بدماغه وتحديدا بقشرة الدماغ أي الخلايا العصبية – نورونات neurones – المُنتجة للتصورات الذهنية من مشاعر وأحاسيس وانفعالات وأفكار… كلّ خلية من المائة مليار خلية عصبية في دماغنا تقوم بوظيفة محددة. مثلا خلايا القشرة الجبهية، وهي متطوّرة جدا عند الإنسان قياسا على ابن عمّنا الشامبنزي، متخصصة في الفكر العقلاني. خلايا الفصّ الصدغي الأيمن متخصصة في إنتاج الظواهر الدينية كالإيمان والتأمّل الروحي والوجد الصوفي والوحي والنبوّة… هذا الاكتشاف تاريخي ينبغي تعليمه لتلامذة وطلبة التعليم الديني تنويرا لهم لإنقاذهم من التجهيل المنظم الذي تحشو به التربية الدينية العتيقة، في مدرسة اللامعقول الديني، أدمغتهم لإبقائهم رهينة لأساطير ما قبل تاريخ العلم. تعليم ديني يَستنير بالعلم هو الكفيل بتخليصنا من مدرسة اللامعقول الهاذي وشياطينها أي التزمّت والتعصّب والتطرّف والعنف الديني، من فتاوى إهدار الدماء إلى تفجير الأحزمة الناسفة في المُصلّين الشيعة في العراق وفي المراهقين الإسرائليين المُصطفّين لدخول المرقص.
تدريس علوم الأديان ودراسة الإسلام بها سيُعلّم أجيالنا الجديدة – عكس الأجيال التي كانت ضحية القراءة الحرفية – مُقاربة النصوص باعتدال ومعقولية، فلا تعود تردّد كالببغاء مع ابن حزم : “إن نصوص القرآن والحديث تُطاعُ لذاتها لا لِعِللها”. عندئذ ستضع هذه الأجيال مكان كلمة “تُطاع” كلمة “تُفهم لِعللها لا لذاتها”. وهكذا يصبح المطلوب فهم النص وليس الاستسلام للنّص صُمًّا وعِميانًا الذي هدم كل أساس معقول للحياة الاجتماعية والفكرية إلى درجة السقوط في الهلاوس والتخييلات والهذيانات الفردية والجماعية التي نعيشها اليوم. علوم الأديان مُجتمعة تقدم لنا معرفة موضوعية عن الدين تساعدنا على فهمه وتفسيره للتعامل معه بعقلانية، أي بفكر يتساءل ويفحص بعيدا عن الرقابة الدينية المفروضة أو الذاتية للوصول إلى إسلام مسالم وفردي منفتح على باقي الأديان التوحيدية والوثنية، علما بأن المؤمنين بالديانات الوثنية يمثلون 56 في المائة من سكان العالم. وتجاهلهم وبالأحرى التفكير في جهادهم لإدخالهم في الإسلام بحدّ السيف، طبقا لفقه الولاء والبراء الجهادي الذي بات خطرا على السلام الاجتماعي في أرض الإسلام وعلى السلام العالمي وخاصة على الإسلام نفسه الذي أوقفه اليوم في قفص الاتهام، جريمة واستحالة في وقت واحد. ولا شيء كحوار الأديان لتجاوز الولاء والبراء المنغلق على نفسه والذي يعتبر حوار الديانات الأخرى كفرا. ولا معنى لهذا الحوار إذا لم يشارك فيه أكثر من نصف البشرية. وهذا ما بدأ يعيه فرقاء هذا الحوار. فقد أَشركوا في مؤتمر حوار الديانات التوحيدية ممثلي الديانة البوذية التي هي اليوم من أكثر الديانات أتباعا وتسامحا. إذ تسمح للمؤمنين بها باعتناق أي دين آخر شاؤوا مع بقائهم بوذيين.
هذه الروح البوذية المتسامحة والمسكونية (أي العالمية) كانت قوام الإسلام الأوّل ونصت عليه كثير من الآيات الكريمة مثل “واللذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك”. وبهذا المعنى فالمسلم هو في الوقت ذاته يهودي ومسيحي وصابئ، لأنّ هذه الديانات جميعا طريق للخلاص الروحي مصداقا للآية 69 من سورة المائدة “إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابؤون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. فهذا الوعد القرآني يعتبر الأديان المعروفة آنذاك طريقا للخلاص الروحي. لكن هذه الآية، كعشرات الآيات الأخرى التي تتعارض مع التوسّع الإمبراطوري على حساب الديانات الأخرى، التي اعتبرها الإسلام البدائي شرطا ضروريا وكافيا للخلاص الروحي، نسخها فقهاء الظاهر كما يسمّيهم الإسلام الصوفي. فقد نسخوا 75 آية اعترفت بالحرية الدينية وحرية الضمير والتسامح الديني وحوار الأديان بآية واحدة وحيدة قرؤوها كعادتهم قراءة حرفية هي “إنما الدين عند الله الإسلام”. وهي جرأة فقهية ترقى إلى مرتبة الفضيحة. آية سجالية تنسخ عشرات الآيات المتسامحة؟ وعلى مدرسة المعقول الديني اليوم أن تنسخ النسخ وتردّ الاعتبار لآيات الحرية الدينية المتطابقة مع العقلانية الدينية. وهو إنجاز حقّقه الإسلام الصوفيّ بنسخه النسخ. سجّل ذلك ابن عربي شعرا جميلا منه :
لقد كنت قبل اليوم أُنكر صاحبي \ إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلا كلّ ملّة \ فمرعى لغزلان ودير لرهبان
ومعبد أوثان وكعبة طائف \ وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أَنّى توجهت ركائبه \ فالحب ديني وإيماني…
ابن عربي نادر في تاريخ الإسلام بل ربما في تاريخ جميع الأديان. إنه حقا معاصر لنا إذ اعترف بالديانات الوثنية وساواها بالتوحيدية منذ ثمانية قرون. ومازال فقهاء الظاهر كما سمّاهم لا يعترفون حتى باليهودية والمسيحية زاعمين أنّهما مجرد شريعتين نُسختا بالشريعة الإسلامية… لا بأس بتدريس هذه الأبيات في جميع المدارس وجميع البلدان في مادة حوار الأديان المطلوب استحداثها. ولتبدأ بذلك المملكة العربية السعودية التي تقود حملة حوار الأديان العالمية. ولا بأس بكتابتها بجميع اللغات على واجهة أبواب مؤتمرات حوار الأديان ردّا على فقهاء التعصب الذين مازالوا يغرغرون “لا معنى لحوار الأديان مع البابا إلا بدعوته إلى دخول الإسلام”. قارن هذا التعصب الأعمى بواقعة وفد نصارى نجران برئاسة أسقفهم إلى المدينة المنورة للحوار مع نبيّ الإسلام. كان اليوم يوم أحد ولما حان وقت إقامة القداس سأله الأسقف أين سنصلّي يا محمد؟ أجابه : في مسجدي. فصعد الأسقف إلى المنبر الذي يجلس عليه النبي وأقام القداس.
فلماذا لا يتبادل اليوم المؤمنون بجميع الأديان الصلاة يوما كلّ سنة على الأقلّ في معابد بعضهم بعضا إحياءً لهذه السنة النبوية الحميدة. ولعلّ شيخ الأزهر المنحدر من الإسلام الصوفي، وريث الإسلام المكي الروحي المسالم، سيكون أوّل المبادرين لذلك بدعوة المسلمين للصلاة في الكنائس في عيد الميلاد ودعوة البابا شنودة للمسيحيين للصلاة في المساجد في عيد المولد النبوي.
دراسة الإسلام بعلوم الأديان هدفها تعليم أدمغة الناشئة التمرن على الصرامة المنهجية والانضباط المعرفي والفكر النقدي وهي العدة الضرورية لفهم النص وتفكيكه والنقاش فيه بلا محرمات مستبطنة مازالت حتى الآن تشكل عوائق تعتقل عقل المسلم فلا يعود قادرا على فهم موضوعه الذي يقف أمامه كالمذهول. كما أن هدفها أيضا جعل العلاقة بين المسلم والإسلام شفّافة. مدرسة اللامعقول الديني تعلّم أبناءنا تعجيز العقل عن فهم الإسلام بدعوى أنّ علوم العقل البشري غير المعصوم غير مؤهّلة لفهم كلام الله المعصوم كما تُعلّمه توظيف العقل في تبرير الدين. وفي كلتا الحالتين يكفّ العقل عن كونه عقْلاً يتعقّل الظواهر، أي يُحللها مُفكّكا رموزها ومداليلها بعلوم الأديان التي تتعاون جميعا على جعل الدين بلا أسرار ولا ألغاز مستعصية عن الفهم، وتجعله بالتالي أقل تزمّتا وتعصّبا ونرجسية وتطرّفا وعداءً للتجديد والتحديث الضروريين معا لاندماج المسلمين في العالم الذي يعيشون فيه بلا عُقد ولا شعور بالذّنب كما هي حالهم اليوم.
أضفتَ أيضا الفلسفة لعلوم الأديان. فكيف تساهم الفلسفة في فهم الدين؟
الفلسفة ضرورية لفهم الدين والحياة. لإنتاج الحكمة فيهما. العالم الذي نعيش فيه لا يحتاج إلى القوة بل إلى الحكمة. الفلسفة تدرب أدمغة التلامذة والطلبة على استخدام الفكر النقدي الذي يستدعي جميع الادعاءات الدينية والدنيوية للمثول أمام محكمة العقل لتحاول تبرير معقوليتها. كما تدرب الأدمغة على استخدام قوة الحجّة بدلا من حجة القوّة التي توشك أن تجعل العالم غير قابل للحكم، وربما أيضا غير قابل للحياة. تعلّمهم لذّة الاكتشاف والفضول المعرفيّ، أي ثقافة السؤال الذي حرّمه الفقهاء. تعلّمهم عدم الانخداع بندّاهة الإرهاب وأسطورتها عن القصر و 72 حورية اللواتي ينتظرن أمامه قدوم القاتل القتيل بعدما نفّذ جريمته في الأبرياء، تعلّم أبناءنا أن يهتمّوا بمستقبلهم الآن وهنا، تشفيهم من مرض الحنين إلى الماضي الذي هو حنين إلى فترة الطفولة، ومن البحث عن مفاتيح حاضرنا ومستقبلنا في ماضينا الذي فات ومات. الإصلاح الديني الشجاع هو الذي يطوي صفحة ثقافة الاستشهاد ويعوّضها بثقافة احترام الحياة، حياتنا وحياة غيرنا. هذا هو درس الفلسفة أو جزء من درس الفلسفة.
-3-
خطر تذويب الفرد في الأمّة
ولكن كيف يمكنك التوفيق بين التنزيل الصالح لكل زمان ومكان وتاريخيّة النص التي تفرضها علوم الأديان؟
بتنزيل ((situer التنزيل في التاريخ الذي مارسه التنزيل نفسه على نفسه. فلا نكن ملكيين أكثر من الملك. فقد نسخ القرآن مئات الآيات التي تقادمت، أي فقدت صلاحية تطبيقها على الوقائع الجديدة وعوّضها بآيات “خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا” كما تقول الآية. وبعد وفاة نبيّ الإسلام نَسَخ أبو بكر وعمر وعليّ ومَعاذ بعض الآيات، كما نسخ الفقهاء بعض الآيات الأخرى والأحاديث، أَخُصّ بالذكر منهم أبا أحمد الونشريسي والفقيهين الطاهر الحدّاد وحسن عبد الله الترابي مثلا.
ولكن هل الآيات الروحية كالصلاة مثلا ليست خاضعة لضرورات تنزيلها في التاريخ الذي يسمح بتعديلها ونسخها؟
الآيات التي نسخها القرآن كانت، باستثناء وحيد على ما أظنّ والذي هو نسخ الاتّجاه إلى القدس في الصلاة بعد فشل تجربة «الصحيفة» التي حاول بها محمد دمج اليهود في «أمّة المؤمنين» التي دشّنها، وتعويضه بالاتّجاه إلى الكعبة، كانت آيات زمنيّة أي تتعلّق بشؤون دنيويّة مُتغيّرة. لكن لا بدّ من إصلاح بعض العبادات كالحجّ والصيام. شُرب كأس ماء كلّ نصف ساعة هو أمر طبّيّ مُلزم لسلامة الكِليتين والبروستات والجهاز الهضمي. فكيف يمكن الإمساك عن شرب ولو قطرة ماء واحدة طوال النهار خاصة في الصيف؟ يهدف الإصلاح الديني أيضا إلى تطهير الإسلام من العنف الشرعيّ حدودا أو جهادا، ومن إقصاء المرأة وغير المسلم من حقوق المواطنة الكاملة. كما ينبغي أيضا تطهيره من العنف ضدّ الذات، أي عقاب الذات كتعبير عن المازوشية الأخلاقية التي هي الشعور الساحق بالذنب الذي لا مبرّر موضوعيا له. مثل بعض شعائر الحجّ كرمي الجمار التي تُسفر في كلّ موسم عن مذبحة من تدوسهم أقدام الحجيج المتحمسين لرجم الشياطين المُقيّدة أمامهم، وهي تعبير صارخ عن هذا الشعور العصابي بالذنب الذي يتمّ تنفيسه في الشياطين المقيّدة. تنفيس المشاعر المكبوتة صحّيّ. لكنّ الثمن اليوم باهظ. من الضروريّ أيضا إعادة النظر في المحرّمات الغذائية غير المبرّرة طبّيا، وإلغاء العادات الوحشية مثل ختان البنات والذكور الذي يعلّمنا تاريخ الأديان المقارن أنّه طقس فرعونيّ. الصحابة لم يختنوا بعد إسلامهم ومحمّد لم يولد مختونا كما تزعم الأسطورة.
ما هي وسيلة التخلص من هذه العادات الفرعونية؟
أوّلا بمنعها قانونا، وثانيا بتوظيف الإعلام والتعليم في إعادة تثقيف الوعي الجمعي بقيم الحضارة الإنسانية واللاعنف ضدّ الذات وضدّ الآخر.
البعض لا يعترف بالنسخ في القرآن مُؤّولا له بأنه تعميم وتخصيص؟
إنكار النسخ متأخّر جدّا وكان نتيجة للجدل الدينيّ مع اليهود والنصارى الذين استغربوا أن يُغيّر الله العليم رأيه من لحظة إلى أخرى ممّا أحرج الفقهاء والمتكلمين فلجؤوا إلى الهذيان، أي إنكار الواقع le déni de réalité أي إنكار النسخ ضدّا على القرآن نفسه «وما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها». القرآن كان ينسخ نفسه لسببين، إمّا لتغّير الوضع بعد نزول الآية المنسوخة أو بطلب من الصحابة. يقول البخاري : “نزل القرآن بطلب من الصحابة” وأُضيف ونُسخ أيضا بطلب منهم. مثلا، نسخ الآية 65 من سورة الأنفال : “… إن يكن منكم عشرون صابرون يَغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا…”. يقول لنا المفسّرون إنّ المسلمين استعظموا هذه الآية وطالبوا النبيّ بنسخها فنُسِخت فورًا بالآية التالية لها : “الآن خفّف الله عنكم وعلِم أنّ فيكم ضُعفًا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين…” (الأنفال، 66). وهكذا نُسخ ميزان القوّة الذي أقرّته الآية 65، أي مقاتل مسلم في مقابل عشرة مقاتلين مشركين بميزان قوّة جديد أكثر واقعية أتت به الآية التالية لها مقاتل واحد في مواجهة اثنين. هذه هي القراءة التاريخية للنّص التي ينبغي أن تقدّمها المؤسّسة المدرسية لأجيالنا الطالعة لتتشرّب تنزيل التنزيل في التاريخ كما فعل أبو بكر عندما نسخ حقَّ “المؤلّفة قلوبهم”، وكما فعل عمر وعليّ ومعاذ عندما نسخوا آية الفيء. وكما نسخ الفقهاء الآية 282 من سورة البقرة : “إذا تداينتم بديْن إلى أجل مُسمّى فاكتبوه”. كما نسخ الفقيه الونشريسي (القرن 15) حديث تحريم الزكاة على آل البيت. كما نسخ الشيخ الطاهر الحداد تعدّد الزوجات واللامساواة في الإرث بين الذكر والأنثى في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” (1930). وكما نسخ الشيح حسن الترابي سنة 2006 اللامساواة في الشهادة والميراث بين الذكر والأنثى وآية “سدرة المنتهى” التي قال إنّها لا وجود لها، وأعاد في سنة 2009 نسخ الآية التي تحرّم على المسلمة الزواج من غير المسلم معترفا للمسلمة بالحقّ في الزواج من اليهوديّ والمسيحيّ والوثنيّ السوداني.
ترى أن جماعات الفتاوى كما في المغرب أو النهي عن المنكر في السعودية تنطلق من اعتبار كلّ مسلم مسؤولا عن صحّة دين أيّ مسلم آخر، مسؤولية عمّا تسمّيه أنت تذويب الفرد في الجماعة؟
بكلّ تأكيد، بالممارسة الجماعية التي تُذوّب الفرد في كلّ يتعالى عليه كالقبيلة والأمّة حتى لا يوفّر مجالا خاصا به للتأمّل الروحيّ واختيار الشعائر التي تناسبه دون غيرها التي تفرضها عليه الجماعة. مثلا في كرة القدم التي ترمز لروح القطيع وللمنافسة بين فريقين أو أمّتين تنفجر الانفعالات القبلية البدائية الصاخبة بين مؤيّدي الفريقين المتنافسين. لكنّ ردود الفعل البدائية هذه لا تظهر في التنس أو الملاكمة. لأنّ المنافسة ليست بين قبيلتين بل بين فردين، في السعودية مثلا تتجسّس الميليشيا الدينيّة على الناس في كلّ مكان لتنهال عليهم بالضرب إذا وجدوهم متلبّسين بـ”البدع”. ورغم عقم هذا القمع الذي نفّر الشباب السعوديّ من الفرائض الدينية وأحيانا من الدين نفسه، فإنّهم مصرّون عليه بعناد عصابي. تذويب الفرد في الأمّة هو استمرار لتقاليد القبيلة في الجاهلية التي كانت تصادر حرية كلّ فرد من القبيلة لحساب روح القطيع القبلية، لحساب تذويب الفرد في القبيلة ليموت من أجلها في حروبها الحمقاء مثل أخذ الثأر حتى لناقة جرباء.
تُلح منذ سنوات على ضرورة تشجيع استقلال الفرد وعدم تذويب الفرد في الأمة الذي اعتبرته وصفة للإرهاب. فهل تستطيع تلخيص الإجراءات العملية المساعدة على عدم تذويب الفرد في الأمّة؟
أمّ الإجراءات هي إصلاح الإسلام الذي يؤدّي إلى باقي الإجراءات مثل تشجيع ميلاد الفرد والتديّن الفرديّ وحصر الدين في المجال الخاص – عملا بالآية الكريمة “يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم” – وتشجيع الاختلاط في المدرسة والنادي والسينما ووسائل النقل وفي كل مظاهر الحياة الاجتماعية، وتشجيع التعارف قبل الزواج والعلاقات الحرّة ومنع الزواج المفروض وزواج الأطفال، وإدخال التربية الجنسية في جميع المدارس منذ الإعدادي، وفرض تحديد النسل وإعطاء الحقّ في الإجهاض اعترافا للمرأة بحرية تصرّفها في جسدها ونزعًا لفتيل قنبلة الانفجار السكاني والتوقّف عن تذنيب ملايين النساء العازبات. فقط في الشعوب البدائية أو ذات الذهنية البدائية مثل شعوبنا، المرأة العزباء أو العاقر تعتبر نذير شؤم. وتشجيع تقرير الفرد لمصيره في حياته اليومية. باختصار الشروع منذ رياض الأطفال في تشجيع ظهور الفرد المالك لرأسه وفَرْجه يتصرّف فيهما بحرية في إطار القانون الوضعي العقلاني. هذه التدابير الضرورية تساعد على عدم تذويب الفرد في الأمة الذي تمارسه اليوم مدرسة اللامعقول الديني تحقيقا لهدف أقصى اليمين الإسلامي الرامي إلى تذويب الفرد في الأمة لتجنيد الفرد الذي مُسخ إلى مجرّد رقم أي عضو في قطيع الأمة التي يعطي بها معنى لحياته التي لا معنى لها. وهكذا يقبل أن يَنْحَر وينْتحر من أجلها وأن يُطيع طاعة عمياء الناطقين باسمها من رجال ونساء أقصى اليمين الإسلامي، وضرورة تشجيع التعليم والإعلام لكل المناشط التي تشجع غرائز الحياة مثل تنظيم الحفلات والمهرجانات الموسيقية السنوية والإكثار من المسلسلات الخاصة بنجوم الغناء والموسيقى وأعلام الأدب الباسم وإحداث مواقع إنترنت وإذاعات وفضائيات غنائية وموسيقية لترويج المشاريع الفنية والثقافية والسياسية القائمة على تحالف العلم والتقدم والديمقراطية، وفتح باب النقاش الحرّ على مصراعيه بلا محرّمات دينية أو سياسية. ذلك يعني إيجاد تعليم وإعلام بديلين يشجّعان البحث عن المعرفة الموضوعية والدفاع عن الفلسفة الإنسانية الجديدة المتمثلة في الدفاع عن قيم حقوق الإنسان على الإنسان وحقوق الطبيعة على الإنسان بدلا من كاريكاتور الإعلام والتعليم السائدين اليوم الحاملين لروح القطيع التي تمحو الفرد محوا.
المهرجون الدينيون في المغرب يسمّون الموسيقى مزامير الشيطان. فما سبب هذا العداء للموسيقى؟
أولا، أقترح تسميتهم بالناطقين باسم الجمود الديني. بالمناسبة يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي “من لم تطربه الموسيقى فقلبه ميّت”. عداؤهم للموسيقى وحتى للضحك هو تعبير عن الاكتئاب وغريزة الموت والانتحار الملازم له. وهذا معنى “القلب الميّت” عند المتصوّف الغزالي. أثبتت دراسات الدماغ أنّ الموسيقى تنمي الذكاء. في أوروبا الأطفال ينامون ويستيقظون، منذ الولادة، على موسيقى خاصة بكل شريحة عمرية.
هل حقوق الإنسان هي الدين المدني؟
نعم، فقد طَوّرت القيم الدينية بعد دمجها في قيم الفلسفة الإنسانية وبعد تخليصها من العصبية الدينية. وهكذا غَيّر المقدّس موقعه من تقديس الأساطير والرموز الدينية إلى تقديس الشخص البشري. بإلغاء العقوبات البدنية المُذِلّة للجسد البشري بتشويهه بقطع يده أو يده ورجله من خلاف أو دقّ عنقه وإعدامه، هذه العقوبات المبرمجة في الدماغ البشري منذ العصر الحجري الأوّل عندما بدأ الإنسان يصيد بسلاحه الحجري الحيوان والإنسان خاصة الأطفال والنساء. تقديس الله وحده لم يعد كافيا لتوحيد مواطني كلّ دولة-أمّة نظرًا لاختلاف مفهوم الله عندهم أو حتى لغيابه عند بعضهم. أما تقديس الشخص البشري فكافٍ لتوحيدهم وراء راية احترام حقوق الإنسان والطبيعة التي ينبغي أن تكون هي جوهر العِقد الاجتماعي للقرن الحادي والعشرين. الصراعات الدينية والقبلية والاديولوجية الدامية في الدول الدينية مثل إيران… تشهد على استحالة اتخاذ الطائفة قاسما مشتركا بين المواطنين. مثلا في العراق والسودان الكرة توحّد السنّي والشيعي والمسلم والمسيحي والوثني في السودان لكن الانتماءات الطائفية والدينية تمزقهم. الدولة الدينية تستمدّ شرعيتها من الدين، أما الدولة المدنية فتستمدّ شرعيتها من احترام القانون الوضعي العقلاني وفصل السلطات ومن احترام حقوق الإنسان. إصلاح الإسلام كفيل بتغيير القيم وإعادة تأسيسها عقلانيا. من هنا أهميّة تدريس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي لا يتجاوز بموادّه الثلاثين صفحتين أو ثلاث منذ الابتدائي لتحديث العقلية الإسلامية التي يمثل تطويرها رهانا كبيرا للتصالح مع الحداثة أي مع العالم الذي نعيش فيه عسى أن نتحوّل من موضوع للتاريخ إلى مساهم في صنعه. وكذلك تدريس ملحقاته كالاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، والاتفاقية الدولية لمنع التمييز ضدّ المرأة، والاتفاقية الدولية لحماية الأقليات.
ماذا تقصد بإعادة تأسيس القيم الدينية عقلانيّا؟.
شيئا قريبا من تغيير طبيعة القيم transmutation عند نيتشه. مثلا قيمة الأخُوّة لن تعود أُخوة بين المؤمنين فقط بل تتطور لتصبح أخوةً عابرة للثقافات والديانات، أخوّة بين جميع المواطنين والبشر جميعهم بما هم متساوون في الحقوق والكرامة بصرف النظر عن دينهم وجنسهم ولونهم، ثم بين البشر والطبيعة أي الحيوانات التي يُبيد التلوّث آلاف الأنواع منها تمهيدا لإبادة البشر أنفسهم. بالمثل، قيمة التضامن التي هي اليوم قيمة مركزية للعيش معا داخل كل بلد وداخل كل القرية الكونية. بالإصلاح الديني لا يعود التضامن غريزيّا ودينيّا بين أعضاء قبيلة المؤمنين بل يتطوّر ليغدو تضامنا واعيا ببواعثه وأهدافه الإنسانية التي تتعالى على الروابط العتيقة سواء كانت إثنية أو دينية. وهكذا فكثير من القيم الدينية قابلة للتطور إلى قيم عقلانية كونية في خدمة الإنسان بما هو إنسان – محض إنسان – حتى عندما تكون ذات منشأ ديني. كالأخوة التي يجسدها الصليب الأحمر حيث يضحّي شباب أحيانا بحياتهم من أجل إنقاذ حياة الآخرين الذين لا تربطهم بهم روابط قومية أو دينية. فمتى نرى الهلال الأحمر يرقى إلى مثل هذا المستوى من الحسّ الإنساني؟
تبدو متفائلا جدا في عالم تطحنه الأزمة ويموج بالتناقضات من كل نوع. قد يبدو تفاؤلك للبعض ساذجا عندما تتحدث عن الأخوّة البشرية بينما في الواقع العالم يعيش في صدام الثقافات، والعالم الإسلامي تأكله الحروب الدينية والطائفية؟
أنا أشتغل على سيناريوهين اثنين : المتشائم والمتفائل، وأراهن على هذا الأخير كمجرد إمكانية واعدة. متمنّيا أن لا تتحقق نبوءة فلوبير “المستقبل هو أسوأ ما في الحاضر” (L’avenir, c’est ce que le présent a de pire) أما إذا اشتغلت على السيناريو المتشائم أي الكارثي فلا يبقى لي إلا الصمت. فالعالم مهدّد بسلسلة من الكوارث كالعرائس الروسية يُغطي بعضها البعض. مثلا، انهيار مالي عالمي يغطي سيناريو الحمائية الجمركية، وهذه الأخيرة تغطي سيناريو الفاشية والحرب وهو السيناريو ذاته الذي اكتوت به البشرية في الثلاثينات ولكن هذه المرة يغطي سيناريو احتمال الحرب النووية ولو محدودة، ونتيجة لذلك ارتفاع حرارة المناخ إلى 4 درجات في مستقبل منظور، وهذا يغطي سيناريو انفجار آبار الميتان في البحار الكفيلة بإبادة النوع البشري.
استخدامي للسيناريوهين يستمد مشروعيته من فرضية أن الصيرورة التاريخية هي صراع بين الاتّجاه المتفائل والاتّجاه المتشائم وحصيلتهما هي التاريخ المتحقّق فعلا. شعاري هو الحديث الشريف القائل : “إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها”. إصلاح الإسلام هو هذه الفسيلة التي لا بأس من غرسها حتى في لحظة النفخ في الصور…
الانحطاط هو هزيمة العقل
تستخدم كثيرا مقولة الانحطاط، لكن مؤرخ العلوم راشد رشدي ينفي مفهوم الانحطاط نظرا إلى أن العلم الإسلامي تواصل دون انقطاع منذ القرن العاشر إلى اليوم، فما هو تعريفك للانحطاط؟
سقط العالم الإسلامي في الانحطاط منذ القرن الثاني عشر في المشرق ومنذ القرن الخامس عشر في المغرب (سقوط غرناطة) كما يقول المؤرخ التونسي هشام جعيط. أوّلا العلم الإسلامي في القرون الوسطى كان امتدادا للتأمل العلمي اليوناني. العلم التجريبي لم يظهر إلا في القرن السابع عشر. العلم الذي لم يتواصل هو الفلسفة. الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة نص وثقافة نقل لا عقل. عامل تخصيبها الأساسي هو العقل الذي وئد في المهد. من هنا ضرورة تعميم الفلسفة منذ الثانوي بل وحتى الإعدادي. في تونس تُدرس الفلسفة في السنتين الأخيرتين من التعليم الثانوي وفي المغرب في السنوات الثلاث من التعليم الثانوي.
الدخول في الانحطاط في الحضارة الإغريقية كما في الحضارة العربية الإسلامية هو هزيمة العقل الفلسفي أمام الأسطورة في الأولى، وهزيمة العقلانية الدينية والعقل الفلسفي الإسلامي والعقل النقدي في الثانية أمام القراءة الحرفية للنصّين المؤسِّسين القرآن والحديث على يد حزب المحدثين الذي عبّر الترمذي، تلميذ البخاري، عن لامعقوله الديني عندما قال: “من أصاب في القرآن بالرأي فقد أخطأ ومن فسّر القرآن بالرأي فقد كفر”، والرأي عنده هو العقل.
ما هي هذه الاتّجاهات العقلانية الثلاثة؟
هي العقلانية الدينية المعتزلية التي اعتبرت الإنسان مسؤولا وحيدا عن أفعاله، والعقلانية الفلسفية الإسلامية السينية والرشدية التي اقترحت قراءة فلسفية للنص والعقلانية الفلسفية النقدية التي بشرت بنبوة العقل “فكلّ عقل نبيّ” كما يقول المعرّي. وممّن مثّلوا هذا الفكر النقديّ في الإسلام الطبيب أبو بكر الرازي والمعتزلي السابق ابن الروندي وأبو العلاء المعري.
الترمذي هو من محدثي القرن التاسع وحزب الحديث ظهر في القرن الثامن الميلادي فهو لم يظهر في الانحطاط بل في أوج النهضة الثقافية الإسلامية. فكيف تفسر ذلك؟
الصيرورة التاريخية ليست وليدة الأحداث التاريخية المعزولة. بل وليدة نسيج حدثي واجتماعي أي مسار تاريخي كامل يتصارع فيه اتّجاهان متعارضان. اتّجاه سائد واتّجاه مضاد له. عندما كان الاتّجاه إلى المعقول الديني الاعتزالي هو السائد كان الاتّجاه إلى اللامعقول الذي مثله حزب القراءة الحرفية هو الاتّجاه المضاد. لم تنقلب الأدوار إلا ابتداء من القرن 12 في المشرق حيث غدا الاتّجاه إلى اللامعقول الديني هو السائد. أعطي هنا نادرة عن صراع هذين الاتّجاهين في القرن التاسع الذي تعايش فيه المعتزلة والفلاسفة والمفكرون الأحرار والمحدثون. الاتّجاهان اللذان تصارعا فيه على مستوى العقلانية الدينية هو هل الإنسان مخيّر أم مسيّر ؟ اتّجاه المعقول كان ينادي بالتخيير واتّجاه اللامعقول بالتسيير. عندما قدم إبراهيم النّظام، أحد متكلمي الاعتزال، من البصرة إلى بغداد وبدأ يلقي دروسه في جامع المنصور تصدى له أحد أنصار التسيير بالسؤال التقليدي آنذاك “يا عم من يجمع بين الزاني والزانية ؟” أجابه “يا ابن أخي نحن في البصرة نقول إنّه القوّاد…” وأنتم تقولون إنّه الله سبحانه وتعالى.
على أنقاض بشائر العقل ساد اللامعقول التكفيري “من تمنطق فقد تزندق” و”المنطق يقود إلى الفلسفة وما يقود إلى الكفر كفر”… تكفير الفلسفة، حاملة العقل النقدي، مازال متواصلا حتى الآن. دول مجلس التعاون الخليجي لا تدرس الفلسفة في الثانوي باستثناء الكويت التي أدخلتها سنة 2007. المغرب أدخل الفلسفة ابتداء من سنة 2003. وحال الفلسفة في معظم الدول العربية كحال الأيتام على مائدة اللئام.
هنا ينبغي أن نرى أعراض الانحطاط وليس في تواصل العمليات الرياضية التي لم تكن حاملة لأي مسار تقدّميّ ينشر العقلانية في المؤسسات الاجتماعية الأساسية السياسية والاقتصادية والدينية والعلمية والتربوية.
لماذا هُزم العقل في الحالتين اليونانية والإسلامية؟
أساسا لأن العقل في الحالتين لم يستطع أن يتغلغل لا في النُخب الصانعة للقرار على نحو دائم، ولا في الجمهور الواسع كما حقق ذلك العقل الأنواري الذي تغلغل في ألمانيا في النخب الصانعة للقرار. وفي فرنسا في النخب والجمهور المتعلم؛ والسبب عائد إلى ظرف موضوعي هو غياب المطبعة والصحافة في الحالتين اليونانية والعربية الإسلامية؛ في الحالة اليونانية انتصر منشدو الإلياذة والأودسّا في الساحات العامة “أغورا” على العقل الفلسفي، وفي الحالة الإسلامية انتصر الوعّاظ والمحدّثون في المساجد على فقه الرأي الحنفي وعلى العقل الكلامي والفلسفي عند المعتزلة والفلاسفة وطبعا على إرهاصات الفكر النقدي عند المفكرين الأحرار. انتصرت فلسفة الأنوار العقلانية بفضل المطبعة والصحافة، لذلك قال هيجل : “الصحافة هي صلاة الصبح الحديثة”، وكان يستهلّ يومه بقراءتها. فلاسفة الأنوار لم تنتشر كتبهم وإنّما عمّمتها الصحافة على الجمهور الواسع. وهذا ما يجعلني اليوم أكثر تفاؤلا بانتصار العقل الفلسفي والعلمي في أرض الإسلام بفضل ثورة الإتصالات التي بدأت تُُدخله إلى جميع البيوت وجميع الرؤوس. وهنا أُوجّه نداءً إلى كلّ وسائل الإعلام في العالم العربي والإسلامي وخاصة الفضائيات والأنترنت لتعالج بانتظام مسألة الإصلاح الإسلامي، بل وأتمنى على الأغنياء الواعين بضرورة هذا الإصلاح إنشاء فضائية متخصصة في خدمة الإصلاح الديني عبر النقاش المتعارض بين أنصار الإصلاح الديني وخصومه لتدريب وتطوير الدماغ المعرفي لدى جمهور المشاهدين. كما أقترح تكوين دار نشر تتخصص في ترجمة علوم الأديان وترجمة الكتابات الأوروبية التي طبّقت هذه العلوم على النص اليهودي والمسيحي والإسلامي لنشر ثقافة الإصلاح الديني في أرض الإسلام فتحًا لشهية النُخب والجمهور الواعي للإصلاح. بإمكان إعلام المعقول الديني أن يلعب منذ الآن دور مدرسة المعقول الديني ويساهم في ظهورها. منذ سبعينات القرن الماضي مهدت أفلام مثل “الرسالة” ومسلسلات مثل “عمر بن عبد العزيز” في تدشين هجمة الإسلام التقليدي والسياسي المتواصلة. لأن سيناريوهاتها كتبت من منظور إسلام الإيمان، إسلام المعجزة، إسلام الفكر السحريّ الذي يطلب من الواقع إعطاءه نتائج مخالفة لقوانينه؛ إسلام عبادة الأسلاف الذين يُقدّمهم إسلام الإيمان للجمهور كأنصاف آلهة “كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم”، كما يقول حديث لا شكّ موضوع، تلهمهم العناية الربانية كل ما يقولون وما يفعلون. وهذا هو الميتا-تاريخ، الذي يصنعه أسلاف تحولوا بعد تحررهم من سجن الجسد إلى أرواح خالصة كلية العلم والقوة. الميتا-تاريخ إذن لا علاقة له بالتاريخ كما وقع فعلا. أحد أبرز أمثلته، أمر عمر للشمس بأن تؤخر غروبها إلى أن ينتصر جيشه في المعركة.
آمل أن يقدم إعلام المعقول الديني المنشود مسلسلات وأفلاما مكتوبة من وجهة نظر إسلام التاريخ، أي وقائع التاريخ كما وقعت فعلا أو ترجيحا. التاريخ الذي صنعه أسلاف يخطئون ويصيبون، ويختلفون ويتصارعون ويتحاربون على الولاية لا على الدين كثيرا وغالبا، تمزّقهم، كجميع الناس، صراعات غريزية ورغبات متناقضة ومطامح دنيوية لا رائحة للدين فيها. كما فعل ابن عباس، عندما كان واليا لعي على البصرة، فاستولى على أموال بيت مال المسلمين وفرّ بها إلى مكة. وعندما كتب إليه الإمام عليّ مطالبا إياه بردّ الأموال المنهوبة إلى بيت المال قائلا له : “كيف ستلقى الله بأموال المسلمين؟” أجابه ابن عباس “حَبر هذه الأمة” قائلا : “لأن ألقى الله بأموالهم خير لي من أن ألقاه بدمائهم مثلك”. استلهاما لعبادة الأسلاف، المنزّهين عن الخطأ والخطيئة، قرّر الفقهاء السنة بمذاهبهم الأربعة أنّ سرقة أموال بيت مال المسلمين لا حدّ فيها لأنّ فيها شبهة ظلم في جمعها. بينما قرّروا قطع يد السارق، من غير الأسلاف، في ربع دينار وقيل في ربع درهم. مسلسلات وأفلام تلفزيونية عن مثل هذه الوقائع وهي كثيرة، وعن صراع الصحابة على جمع القرآن وحرق المصاحف المنافسة لمصحف عثمان المتداول الآن، تقدم للمشاهد بعض الوقائع التاريخية مثل مشهد ابن مسعود وهو يقول عن مصحف عثمان :”لو كنت أنا الخليفة لأحرقت مصحفه وأبقيت مصحفي” أو مشهد والي المدينة المنورة الأموي وهو يحرق “ألواح” أمّ المؤمنين حفصة في يوم دفنها، بعد أن أبت على عثمان حرقها مع المصاحف الأخرى. والخلاف عن المصاحف لم يكن هيّنا إذ أنّ رسالة عثمان إلى الأمصار كفّرت من يحتفظ بالمصاحف المحروقة. مسلسلات وأفلام أخرى أيضا عن الفتنة الكبرى انطلاقا من كتاب طه حسين وهشام جعيط ومسلسل أو فيلم آخر عن “الفتنة” الدائمة في أرض الإسلام انطلاقا من كتاب الفتنة للمستعرب الفرنسي جيل كيبيل Gilles Kepel أي أن الإسلام الإمبراطوري محكوم بجدلية الجهاد الخارجي أو الفتنة الداخلية ومسلسلات و/أو أفلام عن شهداء الإسلام الصوفي مثل الحلاج والسهروردي.
عرض أمثال هذه المسلسلات والأفلام سيكون تدشينا لانطلاق مسار إصلاح الإسلام بقوة بفضل تحرير الوعي الإسلامي الجمعي من رق عبادة الأسلاف النفسي. فعلى ذلك يتوقف نجاح الإصلاح الديني وتاليا انتصار المعقول على اللامعقول. وغرائز الحياة على غريزة الموت حتى لا نغرغر بعد اليوم مع السيد حسن نصر الله “نحن نحبّ الموت بقدر ما يحبّون هم الحياة”. هم، هم اليهود.
ما هو تعريفك للمعقول الديني؟
هو دين العقل. يجب أن تتقدّم علوم الأديان الدين حاملة المشعل الذي يُنير له الطريق لإنتاج ما أسماه كانط “دين العقل”. وهذه أيضا وظيفة العقل المُؤوِّل عند المعتزلة والفلاسفة لتكييف النصوص الدينية مع قوانين ومقتضى العقل. الدين المنفلت من عقال العقل يتحول إلى خرافة وإرهاب وهو ما نعيشه الآن في أرض الإسلام، بين أشياء أخرى، في الهذيان الفصامي عن اقتراب نهاية العالم بعودة الإمام الغائب في إيران وبالمعركة الفاصلة بين المسيح والمسيح الدجّال في فلسطين عند السنة.
كيف سيجعل الإصلاح الديني بفضل تدريس ودراسة الإسلام بعلوم الأديان والفلسفة وحقوق الإنسان من المسلم فردًا منفتحا على الآخر؟
بفضل تعميم علوم الأديان على المدرسة والجامعة. في أوروبا وفرنسا أظهر استطلاع أخير أن 52 في المائة من الفرنسيين يعتقدون أنّهم : “يجدون حقائق أساسية في كثير من الأديان”، وفقط 6 بالمائة يعتقدون بأنهم : “لا يجدون الحقيقة إلاّ في دين واحد” وهؤلاء هم المتعصّبون.
قارن هذا بما يجري في أرض الإسلام. أراهن على أن 9 من 10 على الأقل من السنّة والشّيعة يعتبرون أن دينهم هو الدين الحق وأنّ الثاني في ضلال مبين. لن نخرج من النرجسية الدينية التي مازالت راسخة في 6 بالمائة من الفرنسيين إلى التسامح الديني الذي انتشر بين 52 بالمائة من الفرنسيين إلا بتعميم تدريس علوم الأديان والفلسفة وحقوق الإنسان على المدرسة والجامعة وعلى تلك الجامعة الأخرى التي لا جدران لها أعني الإعلام.
الإصلاح الديني كفيل بنقلنا من الجمود الديني إلى التطور الديني وبتعليم المسلمين في داخل بلدانهم الانفتاح على جميع الثقافات واحترام الآخر ويعلم المسلمين في مهاجرهم التأقلم مع التهجين الثقافي أي امتزاج وتساكن عدة ثقافات في رأس شخص واحد. كما قد يحررهم من الخطاب التضحوي الصبياني “نحن ضحايا بريئة للقرية الظالم أهلها” ومن ثقافة “التمس لأخيك سبعين عذرا”. وقد يعلمهم عدم التخلي عن ملكة الحكم، وعن التفكير بأنفسهم دونما حاجة للفتاوى… وقد يدخل العرب والمسلمين الذين تتفشى فيهم الأمية والجهل والتعليم الرديء إلى مجتمع المعرفة الذي دخلته البلدان المتقدمة. إسرائيل تأتي فيه الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية بينما يقف العالم العربي والإسلامي منه على سنوات ضوئية.
وهكذا يمكن بالإصلاح الديني نقل المسلم النرجسي الحالي من الهذيان الديني إلى العقلانية الدينية وإلى الواقعية والتواضع. وقد يحرره الإصلاح الديني من الرؤية المانوية، من ثنائية الخير هنا والشر هناك، نحن الضحايا وهم الجلاد إلى آخر مسلسل إسقاط كراهيتنا ووساوسنا على الآخرين. وهو السلوك الذي جعل منا كارهين للبشرية ومكروهين منها. وهذا هو الينبوع الأول للإسلاموفوبيا فعسى أن ينقلنا الإصلاح من هذه الرؤية التبسيطية حتى الكاريكاتور للأنا والآخر إلى مفهوم التشعب complexité عند ادغار موران Edgar Morin القريب من المنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة حيث يتساكن الخير والشر تحت سقف واحد. التشعب شبيه بالإله جانوس Janus ذي الوجهين المتعارضين. بالإصلاح الديني، وربما بالإصلاح الديني وحده، يمكننا بمدرسة العقلانية الدينية أن ننتج المسلم المؤمن والعصري في نفس الوقت والذي هو اليوم عملة نادرة. تشخيص المعري لواقع عصره يكاد ينطبق على واقع عصرنا : “اثنان أهل الأرض : ذو دين بلا عقل، وآخر ديّن لا عقل له”. بإمكاننا بمدرسة العقلانية الدينية أن نتجاوز هذا الواقع، كما تجاوزته بها الديانات الأخرى المعاصرة، لنصل إلى مسلم ذي دين وذي عقل معا… وتخرج كلياتنا الدينية باحثين ذوي فكر نقدي يمكّنهم من التمييز بين الحقيقة والمعتقد. الحقيقة العلمية تخضع للبرهان إذن عامة، أما المعتقد فلا حاجة له إلى البرهان إذن خاص بكل مؤمن. ولا يجعلهم يضحون بالحقيقة الموضوعية من أجل قناعاتهم الذاتية أي معتقداتهم…، ويميزون بين التاريخ والأسطورة وبين الواقع والرغبة وبين المعقول واللامعقول بل ويبحثون في اللامعقول بالمعقول لكشف منطقه الخاص وإضاءة زواياه المعتمة. أمثال هؤلاء الباحثين ضروريون لنعرف من نحن، وكيف تكوّن الإسلام تاريخيا وما هي المصادر التي استقى منها، وما هي عوائقه التي أعاقته عن دخول الحداثة وما زالت؟ وهكذا سيسقون الفكر الديني بنسْغ تحليلي جديد أي بحيوية تحليلية جديدة قلما عرفها في تاريخه الحديث بينما تشبّع بها الفكر الديني في العالم حتى التخمة. هذا رهان كبير إذا خسره العالم العربي والإسلامي خسر نفسه.
الإصلاح الديني علاج ذهني جماعي من القمع المستبطَن، من الأغلال غير المرئية التي تكبل عقل المسلم وتسترقّه نفسيا وتشده بألف حبل وحبل إلى عبادة الأسلاف ليعيش في القرن الحادي والعشرين كما عاشوا في القرن السابع، وأن يجاهد كما جاهدوا ليعيد خلافتهم من “الأندلس إلى حدود الصين” كما قال قائد الجيش الإسلامي في العراق لصحافيين فرنسيين اختطفهما…
ناصر بن رجب : مفتاح إصلاح الإسلام في نظرك هو الانتقال من إعلام وتعليم اللامعقول الديني إلى إعلام وتعليم المعقول الديني بتدريس علوم الأديان والفلسفة وحقوق الإنسان. فكيف يمكن تحقيق هذا الهدف في إصلاح الإسلام الفرنسي والأوروبي؟
الإسلام الفرنسي – الأوروبي محظوظ. فليس مطالبا بالانتقال من اللامعقول السائد إلى المعقول المنشود كما في حالة غالبية البلدان العربية والإسلامية. بل مطلوب منه فقط أن يتصالح مع الدساتير والقوانين الوضعية والنظم التربوية والقيم المشتركة العقلانية العابرة للثقافات المطبقة في الإتحاد الأوروبي. حسبه أن يُعرّف نفسه بالعلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وهكذا يستطيع الإسلام الأوروبي أن يقطع مع الجمود الديني السائد في معظم بلدان المنشأ. سرني عندما قرأت لمحمد الموسوي، رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلاميةConseil Français du Culte Musulman “وهو مغربي”، قوله : “الإسلام الفرنسي ليس الإسلام المغربي ولا الإسلام السعودي”. مما يدل على فهم دقيق للمعادلة الدينية المعاصرة وهي أن كل دين هو ابن ظروف الزمان والمكان اللذين يظهر فيهما. وليس وصفة سحرية عابرة للتاريخ كما يتوهم فقهاء الإسلام التقليدي والسياسي. على الإسلام الأوروبي أن يأخذ الدرس من كيفية اندماج الأقلية اليهودية في الأمة الفرنسية. فقد قبلت التخلي عن الشريعة اليهودية مقابل دمج نابليون لها في الأمة الفرنسية العلمانية الوليدة سنة 1807؛ وأن تأخذ أيضا الدرس من تركيا المسلمة وحكومتها الإسلامية التي أعلنت على لسان رئيسها أردوغان أنها تقبل الانضمام للإتحاد الأوروبي مقابل تخليها عن الشريعة الإسلامية بقبول جميع القيم المشتركة للإتحاد الأوروبي. وقرنت القول بالفعل فعدلت الدستور سنة 2006 بتطهيره من بقايا الشريعة مثل عقوبة الزنا والإعدام ومنع المسلم من تغيير دينه فأصبح لا يختلف في شيء عن أي دستور علماني أوروبي.
فكيف لا يقبل المهاجرون والمسلمون الأوروبيون الاندماج في هذه الثقافة العلمانية التي اندمج فيها اليهود والأتراك؟
كيف يمكن تحقيق ذلك؟
أساسا بتكوين الأئمة تكوينا دينيا حديثا يستلهم برنامج المعهد الأعلى لأصول الدين التابع للجامعة الزيتونية والدساتير والقوانين الأوروبية ووثائق حقوق الإنسان كالاتفاقية الدولية لمنع التمييز ضد المرأة، التي يحسن بهم استلهامها في خطب الجمعة ودروس المساجد، والاتفاقية الدولية لحماية الأقليات التي ينبغي أن تكون الإطار القانوني لمطالب مسلمي أوروبا وأن يحتكموا للقضاء الأوروبي، وعند الاقتضاء، إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية بدلا من الاحتكام إلى الانتفاضات والحرائق العدمية .nihilistes
في الواقع توجد ثغرات فادحة أحيانا في تكوين الأئمة. يوم وفاة ملك بلجيكا في التسعينات قال إمام باريسي في خطبة الجمعة : “اليوم نقص منهم واحد” أي من الكفار. وبالرغم من أن إمام الجمعة في جامع باريس معتدل عادة في خطبته إلا أنه ركز مؤخرا خطبته على تفسير الآية السجالية : “وقالت اليهود عزير ابن الله” … وهذا لا يساعد على حوار الأديان في فرنسا الذي يمارسه بكل شجاعة واقتدار مدير جامع باريس د. دليل أبو بكر. في القرآن الكريم، كما يقول أبو حامد الغزالي، آيات مفضولة وأخرى فاضلة. ويليق بالأئمة استخدام الآيات الفاضلة وهي لا تقل عن 75 آية توصي بالتسامح واحترام جميع الأديان بما فيها الوثنية مثل “لا إكراه في الدين” و”إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون من آمن بالله وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. سلوك مدير جامع باريس دليل أبو بكر ومفتي مرسيليا الشيخ صهيب بن الشيخ قدوة حسنة في هذا المجال لأئمة فرنسا وأوروبا وحتى العالم الإسلامي لنحت إسلام مسالم كيّف تقاليده مع الواقع المعاصر، وفي أوروبا مع واقع المجتمعات الأوروبية.
ينظر الأوروبيون إلى الإسلام كتهديد، فما العمل لتغيير هذه النظرة؟
لن يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم. المسلمون الأوروبيون مطالبون بالتخلّي عن عاداتهم الميتة والمميتة مثل ختان البنات وذبح الأضاحي في المنازل وارتداء الحجاب والنقاب والبرقع وتعدّد الزوجات الذي هو في نظري أحد أهم الأسباب لمتاعب المسلمين الأوروبيين، مثلا في فرنسا 30 ألف عائلة متعدّدة الزوجات أنجبت 600 ألف طفل بمعدل 14.5 لكل عائلة معظمهم فشلوا في المدرسة وهم الذين جعلوا نسبة المسلمين في السجون الفرنسية 27 في المائة من مجموع السكان أي 4 مرات أكثر من وزنهم الديموغرافي في فرنسا.
من مهام الأئمة توعية المؤمنين بخطر تعدد الزوجات والإكثار من الأطفال للحصول على المنح العائلية محولين فلذات أكبادهم إلى سلعة، إلى مجرد وسيلة للربح.
على الحكومات الأوروبية أن لا تغضّ الطرف عن تعدّد الزوجات. لا يستطيع التونسي في تونس، التي منعت تعدّد الزوجات في 1956، أن يمارس التعدّد ويستطيع أن يمارسه في فرنسا وأوروبا التي لم تعرف عادة تعدّد الزوجات في تاريخها. تعدّد الزوجات جاءت به اليهودية وعنها أخذه الإسلام. لكنّ تعدّد الزوجات لا وجود له لا في يهود إسرائيل ولا في الشتات. كما على الحكومات الأوروبية أن تكافح كلّ مظاهر العنصرية ضد المسلمين وأن تتبنّى جميعا الطريقة الأمريكية في التمييز الإيجابي لصالح أبناء المهاجرين. وعلى المؤسسات الثلاث المؤطرة لمسلمي فرنسا، جامع باريس والمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية والفدرالية المغربية لمسلمي فرنسا أن تتعاون فيما بينها لتوعية مسلمي فرنسا بواجباتهم كمواطنين أو ضيوف فرنسيين وأن تدافع عنهم ضد التجاوزات.
مسلمو أوروبا يعيشون في مجتمع حضارة المعرفة أي حضارة الكمبيوتر. الإسلام الذي يمرّ بإعادة التأسيس لا يمكن له أن يكون في حالة اشتباك أو تناقض مع هذه الحضارة بل عليه أن يكون معها في حالة وئام لذلك على نخب الإسلام الأوروبي أن تعيد اختراع إسلامها أوربيا على مقاس القيم المشتركة والمعايير الأوروبية الجماعية…
إصلاح الإسلام الأوروبي يعني أن يصبح في نهاية المسار إسلاما آخر غير الذي كانه. مختلفا في شعائره وممارساته وطبيعة علاقته مع الآخر، الذي لم يعد ساكن دار الحرب بل أصبح المواطن الذي يشاركه حقوق المواطنة في بلد غدا بلده هو أيضا. هذه روح الإسلام الأوروبي الذي أعيد تأسيسه أي إصلاحه.
هل لك أن تلخص للقراء في كلمات معدودة الخطوط الكبرى للإصلاح الديني؟
للقرّاء ولصنّاع القرار أقول في بداية القرن العشرين كان الخيار إصلاح أم ثورة. وفي بداية القرن الحادي والعشرين غدا الخيار إصلاح أم فوضى دامية على الطريقة الصومالية مثلا. اختارت أوروبا الغربية الإصلاح فقطعت الطريق على الثورة. فهل سيختار العالم العربي والإسلامي الإصلاح لقطع الطريق على الفوضى؟
الفوضى اليوم تعني أن يصبح العالم وكل بلد فيه غير قابل للحكم..ingouvernable فاختاروا إذن الإصلاح الديني كمدخل للإصلاح الشامل السياسي والاقتصادي والعلمي واللغوي والتربوي. الإصلاح الديني هو اليوم المدخل لقطع الطريق على هجوم الجنون في التاريخ، على تحويل المؤسسات التعليمية والإعلامية إلى منابر للتكفير والفتاوى المضحكة حينا والمبكية حينا، وعلى تحويل المستشفيات إلى مسالخ لقطع الأيدي، وتحويل الساحات العامة إلى أمكنة يتبارى فيها المصابون بالطاعون العاطفي على رجم المحبين وشنق المفكرين الأحرار وتحويل عواصم أرض الإسلام إلى أكثر من طهران يصطاد فيها “حراس الثورة” الشباب الجامعي كما يصطادون الأرانب. المدخل إلى الإصلاح يكون :
1 – بالانتقال السريع من إعلام اللامعقول الديني إلى إعلام المعقول الديني ومن مدرسة اللامعقول الديني التي تُفبرك جموعا من المتعصّبين كلّ واحد منهم مشروع شهيد أي قاتل ومقتول إلى مدرسة المعقول الديني والدنيوي الكفيلة بوضع حد للقراءة الحرفية للنّص وبتدريس الإسلام بعلوم الأديان الكفيلة بإخراجنا من الرؤية الجامدة للإسلام بتفكيك الرواية الخيالية حتى الكاريكاتور لنصوصه ولرموزه المؤسِّسة بتكوين نُخب قادرة على التفكير في تراثها وخاصة على إعادة التفكير في مشروعها العقلاني المستقبلي.
2- كما يكون باقتباس التعديلات التي أدخلتها حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي على الدستور سنة 2006 وهي إلغاء عقوبة الإعدام والزنا والاعتراف للمسلم بالحق في تغيير دينه طبقا للمادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
3- كما يكون بالمبادرة إلى إصدار قوانين أحوال شخصية تستلهم مجلة الأحوال الشخصية التونسية التي دشّنت ورشة إصلاح الإسلام التونسي المفتوحة منذ 54 عاما، كما فعل المغرب الذي يحكمه ملك مُصلح يحمل لقب أمير المؤمنين، لوضع نهاية لإقصاء فقهاء الجمود الديني للمرأة من الفضاء العامّ أي من الشارع والمدرسة وأماكن العمل جاعلين المسلمة المثالية هي تلك التي لا تخرج إلا مرّتين. مرّة من بيت أبيها إلى بيت زوجها ومرّة من بيت زوجها إلى القبر. والحال أنّ نساء النبيّ خرجن في حياته وبعد مماته، وعائشة خرجت لقتال عليّ في معركة الجمل التي أسفرت عن خمسة عشر ألف قتيل، وكانت تلهب جيشها حماسا حتى قال علي أعقروا الجمل وإلاّ فنيت العرب اليوم. وهكذا لم تطبّق أمهّات المؤمنين لا في حياة النبيّ ولا بعد وفاته آية «وقَرْنَ في بيوتكنّ». فبأيّ منطق يُطلب من نساء اليوم تطبيقها؟
هذه التدابير الضرورية كفيلة بتدشين مسار الإصلاح الديني لإخراج الإسلام من سكة الندامة الذي أدخلته فيه عصور الانحطاط إلى سكة السلامة : سكة الإصلاح وحوار الأديان ومصالحة الإسلام مع الحداثة أي مع العالم الذي نعيش فيه.
ناصر بن رجب: باحث ومترجم تونسي
وريغ لحسن: سكريتير تحرير الأحداث المغربية
-انتهى الحوار-
المقال: لماذا إصلاح الإسلام؟
العفيف الأخضر
“العَقّلَنَة الدينية ساعدت على عقلنة جميع التصرفات الاجتماعية” ماكس فيبر
أمام الإسلام اليوم، أعني صناع القرار المسلمين، خياران: المراوحة في المكان أو الإصلاح. المراوحة في المكان أعطت على مرّ السنين حربا دائمة مع الذات وحربا مع العالم وحربا مع العلم وحربا مع الحداثة. إصلاح الإسلام يطمح إلى مصالحة الإسلام مع نفسه، ومع العالم الذي يعيش فيه، ومع العلم الذي يحقق اكتشافا مهما كل دقيقة بعضها يطرح على الوعي الإسلامي التقليدي أسئلة مُحرجة. ومع الحداثة بما هي مؤسسات سياسية وعلوما وقيما إنسانية كونية، أي يسلِّم بسدادها ذوو العقول السليمة أينما كانوا.
مصالحة الإسلام مع نفسه بوضع حدّ للتكفير، سواء تكفير المثقفين أو الفرق الإسلامية الأخرى كالمتصوفة والدروز والعلويين والأحمديين والبهائيين والشيعة …. وبوضع حدّ للحرب السنية ـ الشيعية الدائمة التي توشك أن تتحوّل اليوم إلى سباق تسلّح نوويّ بين إيران وجوارها السنّيّ، حامل لأخطار الحرب النووية وذلك بقبول الفصل بين الديني والسياسي؛ مصالحة الإسلام مع العالم تتطلّب منه إعادة تعريف عميقة لعلاقته به، تُنهي تقسيمه إلى دار إسلام موعودة بالتوسّع ودار حرب موعودة بـ”الجهاد إلى قيام الساعة”، كما يقول حديث للبخاري يَتَلَقَّنه المراهقون في دروس التربية الإسلامية في عدّة بلدان؛ مصالحة الإسلام مع العلم تقتضي نسيان الإعجاز العلميّ في القرآن، وقبول الفصل النهائيّ بين القرآن والبحث العلميّ والإبداع الأدبيّ والفنّيّ؛ تمسّك كثير من الفقهاء المعاصرين بأسطورة الإعجاز العلمي في القرآن دفعهم، مثلما دفع أسلافهم من الكهنة الكاثوليك في عهد محاكم التفتيش، إلى السقوط في الهذيان بما في ذلك الهذيان الدمويّ. مثلا، غداة استنساخ النعجة دولي، أصيب عدد من رجال الدين بالهذيان في اتجاهين، البعض مثل البروفسور والمؤرّخ التونسيّ، محمد الطالبي، أكّد بأنّ الاستنساخ جاء به القرآن، فلا بأس إذن من استنساخ الحيوان والإنسان! أمّا البعض الآخر مثل رئيس علماء السعودية آنذاك، العُثَيْمين، فقد رأى فيها بالعكس، تحدّيا وجوديّا للإعجاز العلميّ في القرآن، فأفتى بتطبيق حدّ الحِرابة، قطع الأيدي والأرجل من خلاف، على مستنسخي دولي مضيفا، في نوبة هذيانية “وقيل يقتلون”! كما مازال أساتذة طبّ مصريّون يوصون طلبتهم بتعلّم حقائق البيولوجيا في أصل الحياة “للامتحان فقط فهي غلط في غلط وتنفيها حقائق القرآن الكريم عن الخلق”؛ وأخيرا مصالحة الإسلام مع الحداثة مع مؤسّسات الحداثة السياسية: البرلمان، الجمعية العامّة للأمم المتحدة، وعلوم الأديان التي تدرّسها جامعات العالم باستثناء معظم جامعات أرض الإسلام، باستثناء تونس، حيث غدا علم النفس الديني يدرس ابتداءً من هذه السنة في الجامعة الزيتونية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وملحقاته مثل الاتفاقيات الدولية لحماية الأقليات، والاتفاقية الدولية لحماية حقوق الطفل والاتفاقية الدولية لمنع التمييز ضدّ المرأة التي قبلتها جميع الدول بلا تحفّظ باستثناء الدول الإسلامية التي تحفّظت على بعض موادّها مثل المساواة في الإرث… فقط المغرب وتونس رفعتا السنة الماضية تحفّظاتهما عليها. باختصار، يعني إصلاح الإسلام جعل الإسلام دينا حديثا يُقصي العنف من فقهه سواء عنف العقوبات البدنية أو عنف القتال والجهاد. تردد هيجل في تصنيف الإسلام في عداد الأديان القديمة أم الحديثة. سبب تردّده أنّه وجد في الإسلام المكّي الروحي واللاعنفي ما يبرّر تصنيفه كدين حديث، لكنه وجد في الإسلام المدنيّ الشرعيّ والجهاديّ ما يبرّر تصنيفه في الديانات القديمة. لكنّه لقلة درايته بفقه الولاء والبراء العنيف وانسياقا مع فلسفته التي ترى أنّ المتأخّر في الزمن أكثر حداثة مما يسبقه، خرج من تردده قائلا: “فلنصنّفه في الأديان الحديثة كالمسيحية”. بعد هيجل بقرنين، لنجعله نحن فعلا دينا حديثا أي روحيا يعطي شؤون الأرض لأهل الاختصاص ليهتمم هو بمكارم الأخلاق. ألم يقل نبيّه: “إنما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق” وليس لإتمام “مكارم” السياسة والاقتصاد والعلم… لماذا بقي الإسلام بلا إصلاح بعد قرنين من محاولات إصلاحه؟ لأنّ من حاولوا إصلاحه، من الطهطاوي إلى عبده، فشلوا في صياغة مشروع إصلاحي حقيقي يغير بنيته ووجهته لتكييفه مع العالم الحديث. كما عجز أصحاب القرار عن إدراج القليل مما أقترحه عليهم المصلحون في مناهج التعليم لإعادة صياغة شعور ولا شعور الأجيال الطالعة. لخصَّ عبده في آخر حياته مشروع الإصلاح في 3 فتاوى: تحليل الفوائد المصرفية، إباحة أكل ذبائح غير المسلمين للضرورة وإباحة لبس البَرنيطة وتاليا اللباس الأفرنجي الذي يحرمه فقه الولاء والبراء بما هو “تقليد للكفار”. رأى الأزهر آنذاك في هذه الفتاوى “بدعة مذمومة” لذلك تشاور شيوخه نصف يوم لتقرير ما إذا كانت الصلاة على جثمان مفتي مصر جائزة أم لا! كان محمد عبده في تفسير “المنار” أكثر شجاعة فحقّق بعض الخطوات الرائدة: فقد ندّد بتعدّد الزوجات و”مفاسده” كما قال حتى كاد يُحرّمه، وأعطى للمسلم الحقّ في حرية الاعتقاد عند تفسيره لآية: “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” قائلا: “من شاء أن يدخل فيه فليدخل ومن شاء أن يخرج منه فليخرج” وأوّل الشورى بالديمقراطية البرلمانية الحديثة اليوم. هذه الفتاوى كانت في حينها اختراقا لجدار الصوت في قلعة الإسلام التقليدي.
ليس أدلّ على فشل محاولات الإصلاح من أنّ هذه المسائل التي حسمها عبده مازالت تتحدّى المسلمين. وفي مصر تحديدا حيث مازال مفتي مصر يحرم فوائد المصارف بما هي ربا محرّم، ومازال القضاء الشرعيّ المصري يلاحق المثقفين بتهمة الردّة. ألم يحكم القضاء بها على د. نصر حامد أبو زيد؟ وخارج مصر، ألم يشنق بها الترابي المتصوّف محمود محمد طه؟ لماذا؟ لأنّ هذه الإصلاحات المحدودة لم تدرج في مناهج التعليم التي ظلت تقليدية تلقّن فقه القرون الوسطى الذي لم يعد صالحا لعصرنا، ولا ملبيا لحاجاتنا للتقدم إلى الحداثة التي مازالت تدقّ على الباب.
حاولت ثورة يوليو 1952 تدارك التقصير في تدريس مكاسب الإصلاح. كلفت سنة 1959 محمد سعيد العريان بهذه المهمّة التي فشل في إنجازها. كتب هو كتب التربية الإسلامية للصفوف الابتدائية واشرف على تحرير كتب الإعدادي والثانوي. لقّنتْ هذه التربية الإسلامية المراهقين كمال الشريعة وضرورة تطبيق حد السرقة، تحريم الربا، تسويغ قَوَامية الرجل على المرأة وأن القرآن، عكسا للمعتزلة، “غير مخلوق” والحال أن عبده كان معتزليا! كما لقّنتهم في السياسة ضرورة الشورى، والوحدة الإسلامية، والدولة الإسلامية وجهاد الدفع (= الدفاع) وآية السيف: “واقتلوهم حيث ثقفتموهم” (191 ـ2). فأيّ غرابة أن تكون الشعارات التي قاتلت بها الجماعات الإسلامية المصرية مستوحاة من هذه الدروس؟ أوصت الكتب بتعليم الفتيات لكنّها أوصتهن أيضا بأن “يَقرنَ في بيوتهن”! أمّا “أهل الكتاب” أي ملايين المصريين غير المسلمين فلا يستحقّون إلا “التسامح”! غياب التماسك المنطقي في مشروع “النهضة” هو الذي أعاد سعيد العريان إنتاجه الموسَّع. أخذ من رشيد رضا نسخ جهاد الطَّلب، أي غزو العالم لإدخاله في الإسلام. لكنه لم يقتبس من عبده فتاواه الثلاث وأقل من ذلك اختراقاته في تفسير المنار، وخاصة منع تعدد الزوجات الذي هو أحد أسباب قنبلة الانفجار السكاني التي تعيق اليوم التنمية في مصر وتخل بتوازناتنا البيئوية والسكانية.
فشل إعداد مشروع إصلاح ديني متماسك، وفشل تدريس وتطبيق بعض إنجازاته ترك فراغا مخيفا يملؤه اليوم الإسلام التقليدي والسياسي هذيانا دينيا غير مسبوق: من إرضاع الكبير إلى إعلان الجهاد على السياح والحكام في أرض الإسلام وضدّ أمريكا وأوربا والهند والصين وروسيا! آن الأوان لتدارك ذلك اليوم. أدعو القراء، والإعلاميين والمثقفين وخاصة المربّين للدخول في نقاش نزيه وثريّ حول هذا الموضوع. إصلاح الإسلام هو مفتاح إدخال العقلانية الغائبة إلى حياتنا وخاصة صناعة قرارنا التربوي.
ديننا اليوم هو جزء من المشكلة وعلينا، بإصلاحه بمدرسة العقلانية الدينية، أن نحوله إلى جزء من الحلّ. وهو رهان ضروريّ وممكن في آنٍ.
موقع الآوان