هل ستتغيّر السياسة الأميركية؟
سلامة كيلة
(ملاحظات بعد عام من خطاب أوباما في القاهرة)
هذا ما يطالعنا منذ خطاب أوباما في القاهرة، وهو يطالعنا بين الفينة والأخرى، لكن بشكل مرَضي مستمر. وكأننا لا تفعل سوى أن ننتظر التغيّر في السياسة الأميركية، لهذا نلتقط كل “اختلاف” مع الدولة الصهيونية، أو “نندلق” على تصريح هنا أو هناك، ونميل دائماً للقول بأن السياسة الأميركية قد اختلفت. ورغم تكرار هذه النغمة مئات المرات خلال العقود الخمسة الماضية دون أن يتحقق تغيّر ما، فإن استمرار تكرارها دون الوقوف لحظة للتفكير في مراهناتنا، يعني بأننا لا نراهن على حل “مشكلاتنا” سوى عبر تغيّر السياسة الأميركية. إننا، بالتالي، لا نراهن على امكانية تطوير قوانا، أو مقدرتنا على تغيير الوضع، بل نراهن على التغير في أميركا. حيث أن تكرار فشل المراهنة على التغيّر يجب أن يدفع إلى التأمل على الأقل، وبالتالي أن يجري الخروج من هذا “المستنقع”. أما استمرار الأمل في التغيّر فيعني بالتحديد بأننا في حالة من العجز لا تسمح بأي فعل، أو تدفع إلى أي مسار لتغيير الوضع، أو أمل في تطوير قوانا الذاتية.
هذه خلاصة لعقود خمسة من “الأمل في تغيّر السياسة الأميركية”. ولاشك في أن التشكل الذي صيغت فيه النظم، حيث هيمنت فئة كومبرادورية ملحقة أصلاً بالرأسمال الإمبريالي، يجعل “خيار الأمل” هو الخيار الوحيد، حتى دون الجراءة على التفكير في خيار آخر، والذي يقصد به الاخراج من الاحراج الذي تسببه السياسة الأميركية. لكن المشكلة تكمن في المثقفين و”السياسيين” الذين هم نتاج برجوازية صغيرة تتسم بسطحية عالية، حيث أنهم من يكرر هذه النغمة، ويظل يلح عليها وكأنها ستحدث يوماً ما. والأسوأ هو السذاجة التي يتناولون فيها المسائل، والشكلية المفرطة التي تحكم فهمهم المسائل. والتسرع في التقاط المؤشرات دون تمحيص حتى من الزاوية اللفظية. ولهذا ينساقون إلى تكرار آمال موهومة، ويعممون الأوهام في كل الاتجاهات.
طبعاً يجب، ويمكن فهم الأساس الطبقي لهذا الميل، حيث أن الحلم بالرسملة، أي بانتصار الرأسمالية، يجعل الحلم بالترابط مع النمط الرأسمالي حتمياً. لقد كان الميل العام لكل الحركات التي كانت البرجوازية الصغيرة هي أساسها هو نحو الترابط مع الدول الرأسمالية حتى وهي ترفع الشعارات “الاشتراكية”، وحتى بعد أن فُرض عليها التحالف مع الاتحاد السوفيتي. فكيف سيكون الأمر بعد “تلاشي الاشتراكية” من الشعارات ومن الواقع؟ إن الاندفاع نحو اللبرلة، وحتى “الالتصاق” بالسياسات الأميركية، هو نتاج ذلك.
وإذا كان موقف الرأسمالية الذي يقوم على رفض التطور هو الذي فرض الشعارات الاشتراكية والتحالف مع السوفيت، فإن السياسات الأميركية (كونها زعيمة الرأسمالية) تجعل هؤلاء في وضع مربك، وبالتالي ليس من خيار أمامهم سوى ايقاد الحلم بتغيّر السياسة الأميركية، واستمرار تكرار الجمل ذاتها على مدى العقود الماضية. وسيبدو تهافت المنطق حين العودة إلى كل المراحل الذي تصاعد فيها هذا المنطق ومن ثم التقييم على ضوء النتائج الواقعية، حيث كانت السياسة الأميركية تخذلهم. وحين يجري تناول الصراع العربي الصهيوني سيكون الخذلان كاملاً. فقد كان التوهم الدائم هو تغيّر السياسة الأميركية نحو إنهاء الصراع، وايجاد حل للقضية الفلسطينية على أساس “حل الدولتين”، وتحقيق التعايش. هذا ما جرى التنظير له بعد حرب أكتوبر سنة 1973. وهو ما جرى بعيد الحرب الصهيونية على لبنان سنة 1982. وكذلك بعد الحرب الأولى على العراق سنة 1991، والتواجد العسكري الأميركي في الخليج العربي، وهنا ارتفعت وتيرة المراهنة إلى الحد الذي جعل هؤلاء يعتقدون بأن دور الدولة الصهيونية السابق قد انتهى بعد أن احضرت الولايات جيوشها إلى المنطقة. واتخذ نغمة “أجمل” بعد “التزام” الرئيس بوش بقيام “دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل”. ثم أخيراً حين نجاح باراك أوباما.
لكن ما يميز المراهنة الراهنة هو اتكاؤها على تصريحات و”خلافات” مع الدولة الصهيونية على قضية “جزئية” هي قضية المستوطنات، والتي يجري تناولها في سطحية مفرطة. والمثال الأبرز هو تصريج جوبايدن في جامعة تل أبيب، حيث قال “انكم تعرضون أرواح جنودنا في المنطقة للخطر”. وهو النص الذي كرره تقريباً قائد القيادة المركزية الأميركية في المنطقة باتريوس أمام لجنة في الكونغرس. ماذا يعني ذلك؟ إن عدم التدقيق، وبالتالي “الشلف”، جعل الانتباه ينشد نحو الخطر الذي يسببه الصراع على أرواج الجنود، وهنا أميركا أكثر حرصاً على أرواح جنودها. وليلتقط “العقل السطحي” هذا الجانب الذي يخص أرواح الجنود، ليصل بأن حل الصراع “الفلسطيني الإسرائيلي” سوف يجنب هؤلاء الجنود هذا المصير. ليصل إلى أن أميركا “باتت تعرف بأن دعمها لإسرائيل” هو الذي يجلب عليها “هذه المصيبة”. وليستنتج بأنها قد أصبحت عبئاً عليها. وليظهر بأن جنودها أصبحوا في “الفخ” بالتحديد نتيجة هذا الصراع الذي يجب أن ينتهي.
هل أن الصراع مع الاستعمار قبل قيام الكيان الصهيوني كان أيضاً نتيجة ذلك؟ إن السطحية تتحدد هنا، حيث أن الصراع مع الرأسمالية، منذ الاستعمار إلى اليوم هو نتاج “السياسات الرأسمالية” التي تسعى لفرض السيطرة على المنطقة، وتمارس النهب الفظيع لها. والأخطر هو أنها باتت تحتل العراق، وتنشر قواعدها في الوطن العربي من الخليج إلى المغرب، مروراً بالأردن ومصر واليمن. ألا يفرض ذلك تعرّض جنودها للخطر؟ أليس ذلك مبرراً كافياً لتعرّض جنودها للخطر؟
ثم أيضاً لماذا أرسلت الولايات المتحدة جنودها إلى هنا؟ أليس من أجل السيطرة والنهب؟ ألا يفرض ذلك أن يتعرض الجنود للخطر؟ الاحتلال يفرض المقاومة، وبالتالي يعرض الجنود للخطر، وهذا ما حدث ويحدث في العراق، ولن يغيّر من الأمر شيئاً “حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي”. وكذلك فإن السياسات التي يفرضها الوجود العسكري الأميركي في المنطقة على النظم، والذي يقود إلى نهب الأموال النفطية، ومنع التطور، ومواجهة الميول نحو الوحدة القومية، وبناء الصناعة وتحديث الزراعة، هي التي تجعل “العداء” لأميركا أمراً مستمراً، إضافة إلى دعم الدولة الصهيونية، التي هي مرتكز لسيطرتها وضمان تكريس التكوين المتخلف والمجزأ للوطن العربي. فهذه كلها هي التي تجعل جنودها معرضون للخطر، وتجعل الصراع معها هو الصراع الأساسي. ويُنظر إلى وجود الدولة الصهيونية من زاوية كونه نتاج السياسة الأميركية وليس مستقلاً عنها.
إن النظر للولايات المتحدة وكأنها “طرف محايد”، أو حتى محبَّذ، هو الذي يوجد هذا المطب. وهذه النظرة كما المطب، هما نتاج سذاجة مفرطة كما أشرنا، لكنهما كذلك نتاج الميل لـ “حب أميركا” الذي يفرضه الطابع الطبقي لهؤلاء المثقفين و”السياسيين”. وهو الطابع الذي يفرض تجاهل بأن الوجود العسكري الأميركي في العراق يشكل احتلالاً يفرض المقاومة، ويجعل السيطرة على السوق ونهب النفط، أمراً “طبيعياً” في إطار سيادة الرأسمالية. ولهذا ليس من مشكلة مع الولايات المتحدة سوى “دعمها لإسرائيل”!!، وحل هذا الأمر يقود إلى القبول بسياساتها، أو على الأصح يزيل الحرج الذي يفرض تمنّع هؤلاء (مثل النظم) عن التعايش مع الدولة الصهيونية، عبر القبول بوجودها على حدود سنة 1967، وربما أكثر، وإقامة علاقات طبيعية معها كونها دولة جارة. والبعض سارع منذ الآن لتحقيق ذلك، علناً أو سراً.
معنى كل ذلك هو أن المشكلة الوحيدة التي نعيشها هي عدم الضغط الأميركي من أجل حل “النزاع الفلسطيني الإسرائيلي”، بينما يكون الاحتلال الأميركي أمراً طبيعياً، ويكون النهب والسيطرة على السوق واحتجاز التطور، كلها أمراً طبيعياً في سياق ضرورة سيادة الرأسمالية.
هل تغيّر أميركا سياستها لكي تزيل الحرج عن هذه النخب، وتلك النظم؟ أجيب، يجب أن يتكيف هؤلاء مع السياسة الأميركية لا أن تغيّر أميركا علاقتها بالدولة الصهيونية، لأن “الرفض الإسرائيلي” هو رفض أميركي أصلاً، حيث يجب فرض الهيمنة الصهيونية على المنطقة. ولن يغيّر المنطق الساذج والسطحي من كل ذلك، الذي سوف يظل يكرر أوهامه إلى ما لا نهاية.
الحوار المتمدن