المحكمة الخاصة بلبنان وفرضيات التسييس
سليمان تقي الدين
تتفاعل قضية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في جريمة اغتيال الرئيس الأسبق لحكومة لبنان رفيق الحريري . منذ عدّة أشهر تبلغت أكثر من جهة أن القرار الظني للمحكمة قد أنجز وأنه يتجه إلى اتهام عناصر قيادية من “حزب الله” . لم تكن المعلومات التي نشرتها بعض الصحف الأجنبية من قبيل التكهنات أو الافتراضات، بل كانت تصدر من جهة دولية فاعلة ويبدو أنها هدفت إلى اختبار ردود الفعل المحتملة عند صدور القرار الرسمي . ومن المعروف أن الاتهام السياسي على مدى أربع سنوات كان يتجه إلى سوريا وما كان يسمى النظام الأمني المشترك .
بدأ “حزب الله” مواجهة هذه العاصفة التي تصيبه في الصميم، في هيبته وصدقيته وشرعية سلاحه، وتؤدي إلى محاصرته معنوياً وسياسياً قبل أن تتجه الأمور إلى اتخاذ قرارات دولية جديدة تهدف إلى استدراجه إلى صدام مع الداخل والخارج .
قادة الدولة العبرية استعجلوا الكشف العلني عن القرار المزعوم وعن نتائجه متوقعين دخول لبنان في الفوضى . وبالفعل لمثل هذا القرار مضاعفات خطيرة على علاقات اللبنانيين في ما بينهم بصرف النظر عن احتمالات اندلاع العنف أو القدرة عليه أو توازنات القوى بين الأطراف السياسية .
ليس جديداً القول إن الدولة العبرية تستهدف المقاومة، وكذلك المجتمع الغربي، وقد صدر القرار 1559 حاملاً مطلباً أساسياً هو تجريد المقاومة من سلاحها . إن فشل هذا القرار استدعى محاولة تنفيذه بواسطة حرب يوليو/تموز ،2006 كما أعلن (أولمرت) . انقسم اللبنانيون بين مؤيد للقرار الدولي وبين معارض له . جاءت جريمة اغتيال الرئيس الحريري أيضاً لتقسم اللبنانيين بين نظرتين . الأولى تقول إن الاغتيال تم لمناهضة هذا القرار والثانية تقول إن الاغتيال كانت وظيفته دفع وتفعيل هذا القرار بتنشيط حركة الاعتراض على سوريا وعلى دور المقاومة . لكن الاستخدام السياسي لهذا القرار الدولي ولما تلاه من تداعيات لم يتوقف لحظة واحدة باتجاه النيل من وحدة اللبنانيين ومن التحريض لإضعاف هذه المناعة الوطنية التي تجلب في مناسبات مختلفة بدءاً من توافقات الطائف واحتضان المقاومة في وجه الاعتداءات الصهيونية المتكررة في محطات كبيرة والافتخار بإنجاز التحرير عام 2000 .
لسنا نعرف أسانيد القرار الظني المتوقع صدوره هذا الخريف، هل هي أدلة حسية أم مجرد قرائن تم استنتاجها وتوليفها انطلاقاً من قراءة للدوافع السياسية . لكن ما يشاع عن حيثيات القرار أنه يرتكز إلى حركة اتصالات هاتفية جرت بين تلك العناصر في موضوع الجريمة . لذا تركز النقاش في الفترة الأخيرة على حجم الاختراق الصهيوني لشبكات الاتصال اللبنانية والتلاعب في المعلومات المتعلقة بها الأمر الذي صار ثابتاً من خلال اعتقال مجموعة من العملاء . من البديهي أن يسارع “حزب الله” للرد على مشروع القرار الظني قبل صدوره رسمياً، لأن مفاعيله السياسية تبدأ في الرسوخ في أذهان الناس منذ بدأت التسريبات الإعلامية . ومن البديهي أكثر من يجد الحزب في هذا القرار استهدافاً سياسياً لدوره، وهو لا يستطيع أن يتعامل معه على أساس الجدل القانوني لتنفيذ حيثياته ومدى دقته القانونية ومهنيته، لأن النتيجة السياسية تكون قد أدت دورها . والأهم من ذلك أن الحزب لم يسبق أن وثق بالعدالة الدولية وبالمحكمة التي جاءت في سياق سياسي معروف هو تطبيق القرار ،1559 وقد أظهرت التحقيقات التي سبقتها حجماً هائلاً من التسييس ومن حملات الاتهام السياسي وتسببت في اعتقال العديد من الاشخاص الذين ثبتت براءتهم في ما بعد فضلاً عن وجود شهود زور ما زالوا طلقاء ولم يخضعوا لسلطة العدالة . فلا العدالة اللبنانية ولا العدالة الدولية استطاعتا أن تثبتا مصداقيتهما في هذه القضية حتى الآن . بل إن نقل الاتهام من سوريا إلى الحزب من الأمور التي تؤثر على التوظيف السياسي . لكن هناك مساراً لهذه المحكمة أيضاً كان يوحي بهذا التوظيف بدءاً من كيفية إقرارها ومن نظامها الهجين الذي لا شبيه له في المحاكم السابقة . ومن الطبيعي أن العناصر الأمنية في “المقاومة” لا تستطيع أن تمارس حق الدفاع القانوني أمام محكمة كهذه لأن ذلك يكشفها ويكشف أسرارها ويعطل وظيفتها لفترة طويلة، فهي لا تملك وسيلة للدفاع إلا عبر هذا النقاش السياسي المفتوح وإثارة الشبهات ودحض الاتهامات . لكن الخطر الحقيقي من المحكمة لا يتمثل فقط في أزمة العلاقات اللبنانية وما يسمى الفتنة المذهبية على أهمية ذلك، بل من خلال ما يمكن لمجلس الأمن أن يتخذ من قرارات بناء على تلك الشبهات التي تطلقها المحكمة . على هذا الأساس من حق الحزب أن يطلب مراجعة شاملة للتحقيق وتصحيح مساره وإسقاط الشوائب التي رافعته وخاصة شهود الزور ومن رعاهم واحتضنهم، لأن ذلك يؤثر في الوظيفة السياسية . أما ما قام به الأمين العام للحزب من عرض تفصيلي لوقائع وأحداث مهمة ومن بينها معلومات أمنية تتعلق بشبكات العملاء والتجسس والتخريب والمراقبة فهي مطالعة تفترض أن هناك ما يمكن البناء عليه للوصول إلى حقائق أكبر وأسطع عن الفوضى الأمنية التي عاشتها البلاد في السنوات الخمس الماضية، وعن الدوافع والمصالح السياسية التي حكمت المسرح، وعن الأغراض التي يمكن أن تكون وراء عمليات الاغتيال في امتداد المشروع الذي سيطر على البلد .
في مسلسل “القرائن”، التي قدمها الأمين العام في مؤتمره الصحافي لا يزعم أنه يصوغ قراراً ظنياً آخر يستند فقط إلى الشبهات السياسية المؤكدة، لكنه قدم مجموعة وقائع يمكن أن تفتح آفاقاً للتحقيق، على فرض أن القرار الظني الذي تعده المحكمة لا يستند إلى أدلة بل إلى قرائن وهذا ما يثق به الحزب ويؤكد عليه .
في مطلق الأحوال أمام جريمة سياسية جاءت في هذا السياق من الصراعات الدولية والإقليمية لا يجوز للعدالة أن تغفل أي احتمال وأية فرضية، ولا يجوز لهذه العدالة أن تساهم في خلق تعقيدات إضافية بقرار لا يرتكز إلى أدلة ساطعة بلغة القانون .
وقد شهدنا في التحقيقات الأولية، أن معظم الشهود رووا روايات سياسية عن خلافات سياسية، وليس لدى أي منهم معطى مادي واحد يستند إليه .
الخليج