ما الذي غاب عن مرافعة الامين العام لـ’حزب الله’؟
صبحي حديدي
حرصت، مثل سواي من ملايين العرب كما يتوقع المرء، أن أتابع المؤتمر الصحافي الذي عقده الأمين العام لـ’حزب الله’، السيد حسن نصر الله، قبل أيام؛ ليس لأنه وعد، مسبقاً، بالكشف عن سلسلة قرائن ومعطيات وبراهين تتهم إسرائيل باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، فحسب؛ بل كذلك لأنّ ما يقوله السيد، وربما منذ العدوان الإسرائيلي الوحشي على لبنان في تموز (يوليو) 2006، بصفة أشدّ وضوحاً، صار يرتدي أهمية إقليمية فائقة، تتجاوز حدود ‘حزب الله’ والشأن اللبناني، أو حتى الشأن السوري. وأشير، دون إبطاء، إلى أنّ قرائن السيد لم تقنعني، ولم تكن دامغة على نحو يريح أسئلة العقل والمنطق، وأسئلة السياسة وسياقات واقعة الاغتيال المحلية والإقليمية، وذلك رغم الجهود المضنية التي لا بدّ أنّ مختلف أجهزة الحزب قد بذلتها لاستجماع تلك القرائن، والمشقة البالغة في تفكيك شيفراتها وتنسيق مدلولاتها؛ الأمر الذي يفسّر تحذير السيد، نفسه، من أنه لم يقدّم براهين قاطعة.
وأجدني أسارع إلى إيضاح ثلاثة اعتبارات بسيطة، لعلّها تجنّبني سوء الفهم (الناجم عن حسن نيّة، أمّا ذاك الذي يصدر عن سوء نيّة مبيّت، فلا علاج له!):
1 ـ إنّ إسرائيل دولة تقوم على ممارسة إرهاب الدولة في أفظع أنماطه وأكثرها بربرية، وقتلت وسوف تقتل العرب لأسباب شتى، متى استدعت مصالحها تنفيذ عمليات القتل أو الاغتيال، الفردي والجماعي، هنا وهناك في أربع رياح الأرض. وفي هذا، يندر أن يختلف أحد مع ما ذكره الأمين العام لـ’حزب الله’.
2 ـ إنّ من مصلحة إسرائيل إبقاء لبنان في حال من انعدام الاستقرار، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وطائفياً ومذهبياً، وقد اشتغلت لتحقيق هذا الغرض مراراً، في الماضي، ولن تتوقف عن الاشتغال عليه في المستقبل. وهنا، أيضاً، لا خلاف حول هذا الأمر البديهي.
3 ـ لستُ في صفوف السذّج الذين يؤمنون بأنّ طراز ‘العدالة الدولية’، الذي خرجت أو ستخرج به مختلف المحاكم الأممية في لاهاي، هو ثمرة قضاء نقيّ طاهر مستقل دائماً عن السياسة والتسييس، رغم إيماني بالأهمية المعنوية لمعظم القرارات التي صدرت عن بعض تلك المحاكم، سواء في شأن يوغوسلافيا السابقة أو مذابح رواندا أو المحكمة الخاصة بلبنان.
4 ـ لا أعتبر أنّ من حقّي، احتراماً لأسئلة العقل والمنطق البسيط إياها، الحكم مسبقاً بأنّ قضاة هذه المحكمة الأخيرة هم أدوات في يد أمريكا أو إسرائيل أو القوى الدولية الكبرى، أو هذه مجتمعة متضامنة؛ وأنّ ما ستتوصل إليه المحكمة سوف يخدم مصالح هذه الأطراف وحدها، ولن تكون له صلة بالحقيقة. لقد تقلّبت هذه المحكمة بين ثلاثة أساليب، من ديتليف ميليس إلى سيرج براميرتس وصولاً إلى دانيال بيلمار، تباينت في تقنيات التحقيق، وتفاوتت في قراءة الشهادات والمعطيات الجنائية والقانونية، ومن العدل البسيط انتظار قرار الظنّ الذي سيصدر عنها، قبل الحكم عليه، وعليها.
أعود، بعد سرد هذه الاعتبارات، إلى المؤتمر الصحافي للسيد، لكي ألاحظ الغياب المدهش لحديث السياسة اللبنانية ـ السورية، ما خلا إشارات عابرة، عن مداخلة استغرقت ساعتين ونصف الساعة، وكان منتظَراً منها أن تضع الاغتيال في مختلف سياقاته، قبل وقوعه بالطبع، ولكن بعده، وحتى الساعة الراهنة أيضاً. ذلك لأنّ العودة، بضعة أسابيع فقط، إلى ما قبل الاغتيال تعيد إلى الأذهان تلك الخطوة العجيبة المتمثلة في تعديل الدستور اللبناني بما يكفل التمديد للرئيس السابق إميل لحود، وكأنه لم يعد في لبنان من حلفاء لسورية سوى ذلك الرجل. وإذا كانت الخطوة تلك قد نجحت في تمديد رئاسة لحود، إلا أنها أنجزت، موضوعياً وفي الآن ذاته، خطوات أخرى لم يكن نظام بشار الأسد راغباً في إنتاجها: لقد وحّدت صفوف المعارضة اللبنانية أكثر من ذي قبل، ونقلت رفيق الحريري من حليف لدمشق إلى حليف ضمني للمعارضة، وقرّبت الموقفين الفرنسي والأمريكي في مجلس الأمن ممّا أثمر القرار 1559 الذي يعدّ أوّل قرار أممي يدوّل الوجود السوري في لبنان ويطالب صراحة بخروج القوّات السورية، وذلك منذ دخولها إلى لبنان منذ قرابة ثلاثة عقود.
كذلك يعيد هذا السياق السياسي إلى الأذهان حقيقة أنّ الحريري أدرك، اعتباراً من تلك اللحظة، أنه ليس في وسعه أن يكون خارج صفوف المعارضة، فانخرط في أجندتها على نحو غير مباشر واختار أن يلعب دوراً محورياً مزدوجاً: توظيف صداقته الشخصية مع الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، واستثمار علاقاته الدولية والعربية الواسعة خصوصاً مع السعودية، لتعزيز موقع المعارضة وتغطية مواقفها دولياً؛ ثمّ استثمار كامل رصيده المالي والشعبي في الانتخابات النيابية، التي كانت على الأبواب، بما يكفل واحداً من نتيجتين: إمّا فوز المعارضة بمقاعد الأغلبية، وبتوزّع ديني ومذهبي تعدّدي ناجح وضاغط على الحكم؛ أو إجبار دمشق، وجبهة حلفائها في الحكم اللبناني، على تزوير الانتخابات، والتورّط أكثر في الصدام مع فرنسا والولايات المتحدة ومعظم المجتمع الدولي. وهكذا تحوّل الحريري إلى الشخصية الأهمّ في المعارضة اللبنانية، حتى دون انضمامه إليها مباشرة وعلانية، وباتت أوراق القوّة العديدة التي كان يملكها بمثابة عوامل ضغط شديد على دمشق، وعلى حلفائها اللبنانيين.
بعد ساعات أعقبت اغتيال الحريري، طلع مهدي دخل الله، وزير الإعلام السوري آنذاك، على العالم بنظرية تقول: ‘أريد ان أوضح أنّ هناك مَنْ يستعد لاتهام سورية ربما بالمسؤولية عن مأساة تسونامي’؛ ثمّ أضاف: ‘هذه الفوضى الأمنية في لبنان سببها انسحاب الجيش السوري من أكثر من منطقة في لبنان، وكذلك الإنسحاب الأمني السوري’؛ وأخيراً: ‘استقرار لبنان الأمني مهدد فعلاً حالياً’، و’مَنْ يريد انسحاب الجيش السوري بشكل كامل من لبنان عليه أن يعزز استقرار لبنان ككل’. وكيف، في الواقع، يمكن أن نفهم عكس هذه الشروحات من تصريحات دخل الله؟ وكيف لا يفهم أيّ متلهّف على تأثيم النظام الحاكم في دمشق، أنّ لسان الوزير لم ينطق بدخيلة خافية من باب زلاّت اللسان وحدها، بل بغية توجيه رسالة أولى مبكرة، حول عواقب الإنسحاب العسكري من لبنان، وعلى رأسها واقعة اغتيال الحريري؟
وبعد سنتين على إنشاء المحكمة وإطلاق التحقيقات، قام الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، بزيارة إلى دمشق، في نيسان (أبريل) سنة 2007، وسمع من الأسد تحذيراً عجيباً، إذا ما أقرّ مجلس الأمن الدولي المحكمة الجنائية تحت البند السابع: يمكن لهذا أن ‘يؤدي الى اندلاع صراع، يمكن أن يتحوّل الى حرب أهلية، ويؤدي إلى انقسامات بين السنة والشيعة، من البحر المتوسط وحتى بحر قزوين’! ما الذي كان الأسد يرمي إليه في هذا الربط بين السنة والشيعة، بصدد اغتيال الحريري؟ ولماذا اتسعت عناصر ‘الصراع’، لتصبح احتمالات ‘حرب أهلية’، نطاقها يعبر البحار والقارّات؟ وما تفسير ذلك التوقيت، الذي جاء قبل سنتين من تسريب صحيفة ‘دير شبيغل’ الألمانية معلومات حول عزم المحكمة الدولية توجيه اتهام إلى بعض عناصر ‘حزب الله’، في الضلوع باغتيال الحريري؟
ثمة، إذاً، سلسلة سياقات كانت كفيلة بتوجيه الاتهام إلى النظام السوري، أو المؤتمرين بأمر أجهزته على الأرض اللبنانية، ومن غير المعقول تجاهلها اليوم حتى تثبت المحكمة الدولية نقيضها، أي حتى تكشف النقاب ـ بأدلة قاطعة، مادية وملموسة ـ عن جناة لم تكن لهم أي صلات بأجهزة النظام السوري في لبنان، بافتراض أنّ المحكمة يمكن أن تتوصل إلى خلاصة كهذه، على هذا النحو الخارق، في أيّ أجل قريب. وفي مؤتمره الصحافي أعاد السيد التذكير بحكاية اعتقال الحاج علي ديب، أحد كبار مسؤولي ‘حزب الله’، وترحيله من عنجر إلى دمشق (بعد ‘6 أيام من التحقيق العنجري، طحنت عظامه’، حسب تعبير السيد نفسه)، الأمر الذي يذكّر بحقائق هيمنة جهاز الإستخبارات العسكرية السورية على كلّ شاردة وواردة في الحياة السياسية والأمنية اللبنانية في تلك الحقبة، وبعدها، بما في ذلك شؤون حليف قوي ونافذ، ومقاوم، مثل ‘حزب الله’.
ذلك لا يعني نفي إمكانية نجاح إسرائيل في اغتيال الحريري دون علم الإستخبارات السورية، بالرغم من سيطرتها شبه التامة على مقدّرات لبنان الأمنية، غير أنّ المنطق البسيط لا ينبغي أن يسمح بالاتكاء على هذا الاعتبار بغرض اتهام إسرائيل وحدها بالاغتيال، وإسقاط أيّ يد أخرى. ذلك لأنّ سلسلة الاغتيالات لم تقف عند الحريري، وكان من المستحبّ تماماً لو أنّ الأمين العام لـ’حزب الله’ أفادنا، حتى بالتلميح العابر، إلى الجهة أو الجهات التي كانت وراء اغتيال سمير قصير، جورج حاوي، جبران تويني، أنطوان غانم، بيار الجميل، وليد عيدو، وسام عيد، فرنسوا الحاج؟ هل هي إسرائيل، أيضاً، وبالتعميم المطلق؟ وإذا عاد المرء سنوات أبعد إلى الوراء، مَنْ هي الجهة التي اغتالت رياض طه، كمال جنبلاط، بشير الجميل، رينيه معوض، والمفتي حسن خالد؟
وكان ملايين المستمعين إلى نصر الله جديرين بإشارة، ضمن ميدان السياسة، وفي جوهر السياقات ذاتها، حول تبدّل مواقف ‘حزب الله’ من المحكمة الدولية، ابتداء من معارضتها تماماً في سنة 2006، وسحب وزراء الحزب و’أمل’ من حكومة فؤاد السنيورة، بذريعة أنّ إجراء إقرار المحكمة لم يكن سليماً بالمعنى الإداري المحض، واستوجب المزيد من التشاور؛ ثمّ تنظيم الاعتصام في ساحة الشهداء، ضدّ الحكومة والمحكمة، طيلة 18 شهراً، حتى مؤتمر الدوحة؛ وصولاً إلى قبول المشاركة في حكومة سعد الحريري، التي كان القبول بقرارات المحكمة في صلب برنامجها السياسي؛ ومخاطبتها، اليوم، علانية، عبر مؤتمر صحافي للسيد نفسه، لتوعية قضاتها حول قرائن جديدة تدين إسرائيل.
وكان من حقّ الملايين أن يستمعوا إلى رأي السيد في هذا التغيير الذي طرأ مؤخراً على السياسة السعودية تجاه لبنان، وما إذا كان يرى فيه امتداداً لسياسات أمريكية طارئة بدورها، أو تناغماً على نحو ما مع سياسات إسرائيلية، أو أخرى أوروبية، وما إليها، وما سواها… ذلك لأنّ الزيارة الدراماتيكية التي قام بها العاهل السعودي إلى بيروت، بصحبة الأسد، يصعب ان تكون في صالح المقاومة أولاً، أو ضدّ تفاهمات دمشق بين الأسد والحريري، حول صفقة ما تخصّ المحكمة الدولية، واستعادة جزء من النفوذ السياسي السوري في لبنان، حتى إشعار آخر، أو حتى صدور القرار الظنّي للمحكمة الدولية. هل تواصل الرياض خيار تقديم هدايا لبنانية (مسمومة، على الأرجح) إلى نظام الأسد، لاستكمال مصالحته مع البيت الحريري، وزجّه موضوعياً في مواجهة مع إيران، عبر ‘حزب الله’، على الأرض اللبنانية؟ ولماذا خلت فقرات بيان القمة الثلاثية، اللبنانية ـ السعودية ـ السورية، من أية إشارة إلى المحكمة الدولية؟
السياسة غابت عن خطاب السيد حسن نصر الله، على نحو لم يعوّد الناس عليه؛ وفي هذه، بذاتها، إشارة إلى أنّ وراء الأكمة ما وراءها!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –
منيح غيرتو الصورة و عذرا للعبارات البايخة يلي استخدمتها المرة الماضية بس الواحد احيانا بيكره تيابو