صفحات سورية

“اعلان دمشق” : بقية وشم للحملة الغربية على العالم العربي

null

فيصل جلول

قبل شهر من صدور “إعلان دمشق” في 16/ 10 /2005 كان كاتب هذه االسطور قد أستبعد في مقاله الاسبوعي في جريدة “الخليج” الامارتية في 14/ 9/ 2005 بعنوان ” لهذه الاسباب لن تسقط دمشق

وقوع سوريا في القبضة الامريكية ـ الاسرائيلية كما كانت تأمل واشنطن وتل ابيب في ذلك الحين. وقد شاء الحظ ان تكون هذه القراءة للوقائع الدولية والشرق أوسطية صائبة في حين تبين بعد ثلاث سنوات على صدور “اعلان دمشق” ومعه من بعد اعلان بيروت ـ دمشق(.12 5 2006 ) أن الموقعين على الأول والثاني ذهبوا بعيدا في الرهان على ” التغيير من الخارج” وفي الاستسلام لمغرياته وبالتالي لم يكن تقديرهم للظروف السياسية في منطقتنا محظوظا.

قبل التوسع في النظر الى هذه القضية أود الاشارة إلى انني ارجو من صميم القلب ان ينظر القراء وبخاصة المعنيين ب “الاعلان” الى هذه المقارنة بين القراءتين بعيدا عن كل تبجح مع التنبيه الى انني لم اكن في قراءتي تلك منفردا فقد رأى ما رأيت او بعضه كثيرون وأخص بالذكر الاصدقاء كمال الطويل ومنير العكش ومحمد دلبح ومنذر سليمان وداوود خيرالله وزياد الحافظ وهم يعيشون في الولايات المتحدة الامريكية.وللعلم فقد كنت في اللقاءات القومية اصبر على ملاحظات قاسية ونظرات متبرمة وردود فعل شديدة السلبية من رفاق سوريين كانوا يأخذون علي تلك القراءة ويعتبرون ـ ظلماـ انني اعيش في “نعيم” الخارج ولا يهمني “جحيم” الداخل.وللعلم أيضا فقد امتنعت في السابق عن تناول الاعلان الدمشقي وشقيقه البيروتي في وسائل الاعلام لاعتقادي أن المواجهة الاساسية تتم على الجبهة الخارجية مع الاحتلال الامريكي العابر لبلاد الرافدين والاحتلال الاسرائيلي المقيم عندنا .

يبدو اليوم “اعلان دمشق” وكأنه مستقر على قارعة الطريق فيما يقبع للاسف الشديد المعنيون به أو بعضهم على الاقل في غياهب السجون. إنه أشبه ببقايا وشم ل” حملة حضارية” غربية هوجاء وحمقاء ملأت سماء العالم العربي ضجيجا ودما, أوهاما وخدعا, جرائم واطماعا ,اضغاث أحلام ودموعا.

بعد مضي ثلاث سنوات على صدوره يستحق “اعلان دمشق” قراءة متأنية ابدأها باللغة عبر تقنية تحليل المحتوى.

لغة حذرة في كافة الاتجاهات.

يخلو الاعلان من أية إشارة الى “اسرائيل” و”الولايات المتحدة الامريكية” بالاسم حتى في معرض الحديث عن الجولان”..الالتزام بتحرير الاراضي المحتلة واستعادة الجولان الى الوطن “.ولا يتحدث عن الاحتلال الامريكي للعراق وهو قاب قوسين من الحدود السورية.ويخلو من ذكر “حزب البعث” بالاسم ايضا رغم حديثه عن “النظام” تارة و”السلطة” تارة اخرى و”الدولة” و”الحكم” تارة ثالثة ولا ينطوي على أية إشارة مباشرة للرئيس الاسد الاب والابن.وباستثناء لبنان لا يسمي الاعلان بلدا عربيا اخر رغم حديثه عن” التاكيد على انتماء سوريا الى المنظومة العربية” ووجوب ان تؤدي”..دور عربي واقليمي ايجابي فعال” ولا يتعرض لايران.

كان لا بد من الانتظار شهورا طويلة حتى يرد ذكر اسرائيل وامريكا في اعلان “بيروت دمشق” في جملة معزولة عن سياقها الضروري حيث يرى الموقعون ان العلاقات المأمولة بين العاصمتين”.. تعزز مواجهة البلدين المشتركة للعدوانية الاسرائيلية ومحاولات الهيمنة الامريكية” هذا رغم أن التطورات التي وقعت خلال الشهور الفاصلة بين الاعلانين كانت تؤذن بوجهة مختلفة تماما عن تلك التي ارتسمت في خريف العام 2005 وبالتالي كان الاعلان الثاني يوفر فرصة للغة سياسية اكثر جرأة وتحررا تجاه اسرائيل وامريكا ولعل تفويتها يفصح عن حالة نفسية لاتنم عن ثقة ثابتة بالوقائع من جهة وعن خشية من الاصطدام بالثقافة السياسية للرأي العام السوري الذي يتمتع بمناعة كبيرة تجاه الدعاوى الغربية.

وفي السياق تشير لغة الاعلان الى حذر مفرط ازاء الاكراد فهو يتحدث في جانب عن”.. حرية الافراد والجماعات والاقليات القومية” وعن “حل ديموقراطي عادل للقضيةالكردية في سوريا” لكن “.. على قاعدة وحدة سوريا أرضا وشعبا ” و ” المواطنية” كمعيار للانتماء.” بكلام آخر تتسع لغة البيان لحكم ذاتي كردي انفصالي على الطريقة العراقية ولاندماج بشروط عربية من خلال التشديد على المواطنة المتساوية والوطن الموحد.

وفي الحديث عن التغيير الداخلي ينطوي البيان على عبارات ايديولوجية لاتحمل قيمة تحريضية معتبرة ولا تنطوي على وعود جذابة بل يمكن لهذه اللغة ان تكون هي نفسها لغة الدولة والحكم في سوريا. مثال أول ” سيادة القانون” مثال ثان” دولة المؤسسات” مثال ثالث” …بناء نظام عالمي أكثر عدلاً، قائم على مبادىء السلام وتبادل المصالح، وعلى درء العدوان وحق الشعوب في مقاومة الاحتلال، والوقوف ضد جميع أشكال الإرهاب والعنف الموجه ضد المدنيين.”

ما من شك ان لغة البيان محكومة بالخوف من الاعتقال بتهمة التخابر مع الغزاة وتقف على تخوم للغة السياسية الرسمية فلا تتجاوزها الا في اطار اعتقادات الموقعين المعلنة والتي سبق تردادها مرارا عبر وسائل الاعلام. وتنم الصياغة عن مهارة ملفتة في التراكيب التي تقول ولا تقول توحي بالشيء وضده أحيانا وتحذر الانزلاق… الخ.

ما كان بوسع هذه اللغة أن تغري احدا غير اصحابها ذلك أن الولايات المتحدة كانت تبحث عن أصوات مشابهة للاصوات العراقية قبل الاحتلال وعن شخصيات سورية تلعب ادوارا على غرار الادوار التي لعبها الجلبي والحكيم وبحر العلوم والياور و الربيعي والباشاشي والهاشمي والبرزاني والطالباني وغيرهم ممن احتلوا الفضائيات العربية عشية غزو العراق.وإذا كان صحيحا أن الغادري لعب هذا الدور فان اداءه الركيك كان يعزز قناعة الرأي العام بخوض معركة النظام المصيرية مع الغزاة. أما انشقاق السيد عبدالحليم خدام فقد جاء متأخرا إلى حد ان احدا لم يحمل على محمل الجد توقعاته بانهيار الحكم خلال شهر وشهرين وقبل “نهاية العام” حتى صارت تصريحاته من بعد بلا أثر يذكر.

توقيت مدروس.

ينطوي “اعلان دمشق” في مضمونه السياسي على مشروع انقلابي بلا وسائل انقلابية ذاتية وانما متوقعة من الغير. فهو صدر في وقت كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك يعمل على اسقاط النظام السوري مع الرئيس جورج بوش الابن وبالتحديد في لحظة كان الرئيس الفرنسي يردد خلالها لمن حوله أن “النظام” لن يتحمل نتائج انسحاب جيشه من لبنان ناهيك عن الضغط الامريكي والتهويل الاسرائيلي الممتد على دمشق منذ سقوط بغداد وكان شيراك يعد بوش بالجائزة السورية بعد العراقية مجانا دون احتلال ودون استثمار..!!

أكبر الظن أن الموقعين على الاعلان كانوا يعتقدون أن النظام سيسقط كثمرة ناضجة جراء الجهد الفرنسي الامريكي رغم تأكيدهم على ـ رفض التغيير من الخارج ـ وانه سيكون عليهم التقاطه عبر المباديء المرتبة في بيانهم. وهذا ما نقف عليه منذ عبارة البداية”..تتعرض سوريا لاخطار لم تشهدها من قبل بسبب السياسات التي سلكها النظام” ولان الاخطار على سوريا جاء بها “النظام” وليس الغزو الامريكي للعراق فقد بشر الموقعون الرأي العام بأن ” ..عملية التغيير قد بدأت” وبالتالي لا بد من “.. دستور جديد للبلاد” وانتخابات عامة وحرة ووعد بتداول السلطة سلميا… الخ.

وإذ يقول بوش أنه يحمل الديموقراطية والحرية للشرق الاوسط يذكره الاعلان بانه حمالة لها عبر تاكيده على”.. اعتماد الديموقراطية كنظام حديث عالمي القيم والاسس يقوم على مباديء الحرية وسيادة الشعب ودولة المؤسسات وتداول السلطة من خلال انتخابات حرة ودورية تمكن الشعب من محاسبة السلطة وتغييرها.”

و في السياق حذر الموقعون على الاعلان “حزب البعث” من انه لا يحق لاي تيار او حزب الادعاء ” بدور استثنائي” لكنهم لوحوا لعناصره بالانضمام لمشروعهم لطمأنتهم الى مصير مختلف عن مصير رفاقهم في البعث العراقي. وطالبوا ” بعقد اجتماعي” جديد…. ثم انتظروا انهيار الحكم. اما حصيلة الانتظار فقد صارت في علمكم وعلمنا وعلم اصحاب العلاقة.

كان يمكن لحصيلة الانتظار السلبية ان تشكل فرصة لاعادة النظر بالمحاولة برمتها وبالتالي البحث عن وجهة سياسية أخرى للتحرك في ضؤ المعطيات الجديدة غير ان انتخاب قيادة جديدة للاعلان كان يضمر الرهان مجددا على سقوط الحكم ربما بأثر من الاجواء البيروتية وزيارات المبعوثين الامريكيين الى العاصمة اللبنانية لرفع معنويات فريق الموالاة في لبنان ربما ادى ذلك وغيره الى ان يستانف الاعلانيون السوريون نشاطهم فكان ان وضعت الحكومة السورية حدا لهذه المحاولة عبر اعتقال عدد من الوجوه البارزة في طليعتها السيدة فداء حوراني دون اكتراث يذكر من مقاولي الغرب الديمقراطيين وشبكاتهم الباحثة عندنا حصرا عن حقوق الانسان والمواطن كذا.

أن يراهن الموقعون على اعلان دمشق على انهيار الحكم فهذا شأنهم وتلك وظيفتهم وهم يمارسون السياسة بهذه الطريقة وربما بعلم النظام نفسه وبالتالي لايمكن رميهم بتهمة التعامل مع ” الغزاة” ولعل القضاء السوري لم يصل الى هذا الحد في وصف البيان والتعاطي مع الموقعين عليه وجل ما تنامى الى علمنا هو ان الاحكام التي صدرت بحق المعتقلين استندت الى فعل “توهين الروح القومية” ما خلا حالة واحدة متصلة بالسيد كمال اللبواني الذي اتصل بوزراة الدفاع الامريكية وحوكم على هذا الاتصال.لكن هل يحمل اعلان دمشق وعودا مغرية بالتغيير وهل يوفر حلولا حقيقية للقضايا التي تهم سوريا والسوريين؟

احكام ايديولوجية فقيرة.

لقد انتابني شعور متناقض خلال اعداد هذه الملاحظات بعد مضي ثلاث سنوات على صدور اعلان دمشق.فمن جهة احسست بانه من غير الجائز الخوض في مناظرة مع نص يقبع معدوه في السجن.ومن جهة ثانية شعرت بان المناظرة تنطوي على احترام للنص ولمعديه فهو وضع للنقاش وليس كي يوضب في الادارج او يسدل الستار عليه ثم ان النقاش بحد ذاته دليل على اهتمام بما قيل في حين ان اهماله وعدم الاكتراث به يمكن ان يكون أعلى ضررا من نقاشه.

ليست الاحكام الايديولوجية حكرا على ” اعلان دمشق” فهي طبعت وتطبع جوانب اساسية في ثقافتنا السياسية في العالم العربي وتنتشر على نطاق واسع في الادبيات الحزبية المعارضة. ان تركيز الانظارعلى الداخل حين يكون جيش القوة الاعظم في العالم مستنفرا على الحدود السورية وجيش القوة الاقليمية الاقوى في الشرق الاوسط مستنفرا داخل الاراضي السورية المحتلة في الجولان ينطوي على خطيئة وطنية مشابهة لاختها العراقية التي يدفع العراقيون اليوم ثمنا باهظا لها كما دفع الصوماليون ويدفعون اكلافا مماثلة منذ 17 عاما.

أن تجتمع الجيوش على حدود سوريا فهذا يعني أنها تريد لهذا البلد ان يكون على حال مناسب لها وليس لاهله وإذ يرفض الحكم السوري الخضوع فهو يتقدم على نقاده مسافات طويلة ويحرمهم من هامش المناورة الوطني في الصراع معه ويجعلهم شاءوا أم ابوا في موقع اقرب الى الغزاة منه الى الوطن. لكن ماذا عن احكام الاعلان؟

تبدو الاحكام الايديولوجية في “الاعلان ” كمستندات للخيار السياسي الداخلي الكامن في تضاعيفه:دولة المؤسسات. عقد جان جاك روسو الاجتماعي. التداول السلمي للسلطة. التعددية الحزبية. التعددية العرقية. الاقليات القومية.الحوار الوطني داخل “مكونات الشعب السوري”.فصل السلطات واستقلال القضاء.الحداثة. المواطنة. العلمانية. سيادة الشعب. الاقتراع الحر……..الخ. ولعل هذه المنظومة من المصطلحات تفتقد الى اساسها الاقتصادي: السوق الحرة التي لم يرد ذكرها في البيان ربما لرادع ماركسي او قومي باق في خلفية الرؤوس التي اعدته وربما ايضا لسبب تكتيكي متصل بحجم المصالح المحلية التي يمكن أن تتضرر اذا ما القي الاقتصاد السوري في حضن الوحوش الراسمالية الحديثة و”الحضارية” جدا.

تحيل هذه الاحكام الى مرجعية النظام الغربي وتستعير صورته دون وسائله وتاريخه وقيمه انها تقتفي اثره بطريقة لا واعية ودون تشفير اختباري يتيح التحقق من جدوى الاستعارة ومن جهة أخرى دون الاحالة الى مرجعية موثوقة خارج المنظومة الغربية علما بان المرجعية الصينية واليابانية والاسيوية عموما تصب الماء في طاحونة النظام وهذا ما يمكن اثباته بطريقة ميسرة في نقاش هاديء.

والمشكلة الصعبة التي تطرحها هذه الاحكام تكمن في اهمال العامل الخارجي وهو الاساس كما رأينا للتو وليس تفصيلا غير جدير بالذكر كما ورد في الاعلان: ليس “الاستبداد” المحلي مسؤولا عن تحديد سعر الدولار ولا يحدد الرئيس بشار الاسد اسعار المواد الاولية ولا حركة البورصات العالمية التي تتحكم بميزانية الاسرة السورية من قاع المدينة حتى اقصى الريف وتحدد قسرا مستوى المعيشة وموقعها في تراتبية محفوظة ومحروسة يسهر على فروقاتها نظام عالمي قاهر.

ويبقى أن الاحكام الايديولوجية الواردة في “الاعلان” ليست فتحا يحسب لاصحابه فقد اختبرت هذه الاحكام في انحاء مختلفة من العالم بل على مرمى حجر من الحدود السورية في لبنان فكانت نتائج الاختبار ” مبندقة” الملامح تدور حول هيفاء وهبي التي تتمحور حول مفاتنها المنحوتة بمباضع جراحي التجميل كل “الفانتسمات” العربية الصحراوية البائسة وسمير جعجع بطل “صبرا وشاتيلا” القومي اللبناني وفضائيات الشتائم المنحوتة بتكنولجية الديزاين الحديثة ومديونية ال 40 مليار دولار وطبقة واسعة من اللصوص وخبراء النهب وسائرخدام اهل الثروة والبيزنس في انحاء المعمورة..نعم هذا كله مغر وفاتن لكنه ابعد ما يكون عن صورة المواطن الفرد المتجه نحو صندوق الاقتراع لاختيار رئيس البلدية او النائب او الحاكم الذي يريد بأثر من نقاش وطني سابق.

موجز القول ان الاحكام الايديولوجية المبعثرة على غير ترتيب في “اعلان دمشق” لاتحمل في طياتها حلولا وطنية جدية لمشاكل سوريا ولربما كانت مفيدة في معارضة النظام وفي الاعتراض على مساوئه لكنها لا تعد بمستقبل افضل وانما باوهام نرى بام العين مرة أخرى كلفتها الباهظة في العراق.

بعد ثلاث سنوات على صدوره يبدو “إعلان دمشق” كأثر من آثار “الحملة الحضارية” الامريكية على الشرق الأوسط وهذا لا يبرر التعرض للمسؤولين عنه وحجبهم في غياهب السجون فهم لايستحقون السجن والاعتقال مرتين الاولى لان لهم الحق في القول استنادا الى المذهب السياسي الذي يشتهون والثانية لانهم لم يرتبكوا الكبائر و في طليعتها التخابر مع العدو.

لو كنت حاكما في سوريا لما ترددت في السماح لموقعي هذا الاعلان باذاعته على الملأ في ساحة المرجة وسط دمشق مستندا الى مناعة الراي العام وتقديره العالي للمخاطر الواردة حصرا من خارج الحدود.ففي ذلك عقاب اكبر للمعنيين به. واي عقاب.؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى