تركيا: تناقض العلمانيّة والديموقراطيّة
محمد سيد رصاص *
في نصّ يعود إلى شهر آب 1927، يعزو جوزف ستالين تقديم المساعدة السوفياتية إلى مصطفى كمال (أتاتورك) إلى «نضال أنقرة ضد الإمبريالية»، بالرغم من اضطهادات أتاتورك للشيوعيين الأتراك، حيث سوَّغ ستالين هذه المساعدة (والتعاون) بأن صدام أنقرة مع الغرب كان «يبعثر قوى الإمبريالية ويضعفها وينزع تيجانها، ممّا يتيح مجالات النمو لمركز الثورة العالمية، أي نمو الاتحاد السوفياتي» (نقلاً عن مكسيم رودنسون: «الماركسية والعالم الإسلامي»، دار الحقيقة، بيروت 1982،ص 332).
لم يكن التلاقي بين النظامين السوفياتي والأتاتوركي مقتصراً على تلاقيات السياسة الخارجية ــ ولو أنهما افترقا بعد ذلك منذ أوائل الثلاثينيات ــ بل امتد ذلك إلى طبيعة النظامين الشموليين، اللذين حاولا عبر آلة السلطة إعادة صياغة ــ وهندسة ــ الاقتصاد والمجتمع والفرد والثقافة والعادات، وقد كانت مظاهر عبادة أتاتورك، ودور حزب الشعب الجمهوري، تذكّر كثيراً بما كان يجري في الفترة ذاتها في موسكو، كما كانت الراديكالية العلمانية داخلة في صدامات مع الدين والمؤسسة الدينية ومعتقدات المتدينين وشعائرهم ومظاهر حياتهم بأشكال وحدود فاقتا ما كان يجري عند نظام ستالين.
تداعى هذا في النصف الثاني من الأربعينيات، لما لم تستطع تركيا الانخراط في المعسكر الغربي، بظرف بدء الحرب الباردة ضد موسكو، عبر الاستمرار في نظام الحزب الواحد وعبر الاستمرار في النزعة الاقتصادية المركزية، ما أجبر خليفة أتاتورك، أي عصمت إينونو، على القبول بالانتخابات والتعددية الحزبية، ليهزم حزب أتاتورك هزيمة مدوية في انتخابات1950 أمام الحزب الديموقراطي بزعامة عدنان مندريس، الذي انتهج التحالف مع الغرب، واقتصاد السوق، وأعاد إدخال مادة التربية الدينية للمناهج الدراسية، وأعاد فتح مدارس الشريعة، وسمح برفع الأذان باللغة العربية، مستنداً إلى قوى اجتماعية ناخبة تركزت أساساً خارج المدن الثلاث الكبرى، عند المدن الصغرى وفي ريف الأناضول.
لم يستطع الأتاتوركيّون مواجهة ذلك عبر دورتين انتخابيتين لاحقتين، ليلجأوا ــ بدلاً من الانتخابات ــ إلى الانقلاب العسكري في شهر أيار من عام1960، ويقوموا بإعدام مندريس وكبار قادة حزبه في العام التالي، الذي فرضوا فيه دستوراً، وضع هيئة حاكمة عليا مؤلفة أساساً من كبار قادة الجيش هي (مجلس الأمن القومي)، ثم هيئة قضائية رديفة سمّيت «المحكمة الدستورية العليا»، لتصبحا الحاكمتين الخفيّتين للمشهد السياسي التركي، الذي سُمح له بالعودة إلى التعددية الحزبية منذ عام 1965، حيث كانت هاتان الهيئتان طوال الأربعة عقود الماضية المحدّدتين للسقوف والمحظورات والممنوعات عبر انقلابات 1971 و1980 (ضد اليساريين بالانقلابين مع حظر الأحزاب التقليدية لفترة مؤقتة على أثرهما وانقلاب 28شباط 1997 الأبيض ضد رئيس الوزراء نجم الدين أرباكان، وما أعقب الانقلاب الأخير من عودة عن إجراءات مندريس حيال مدارس الشريعة، وحظر لحزب أرباكان، «الرفاه»، حيث انشقَّ عن خليفته، أي حزب الفضيلة، رجب طيب أردوغان مؤسساً حزب العدالة والتنمية في آب2001).
كان فوز حزب أردوغان، في انتخابات 3 تشرين الثاني2002، مختلفاً، حيث ترافق ذلك مع اضمحلال قوة الأحزاب اليمينية المحافظة، مثل حزب الطريق القويم، مؤسسه سليمان ديميريل، وحزب الوطن الأم، مؤسسه توركوت أوزال، ليبقى في وجهه بالبرلمان حزب واحد هو حزب أتاتورك القديم، أي حزب الشعب الجمهوري، حيث استند أردوغان إلى قوة انتخابية كبرى تركّزت في مدن وريف الأناضول وعند مدن ساحل البحر الأسود، وعند الأكراد (30 في المئة من الأصوات) وفي الأحياء الفقيرة من أنقرة وفي القسم الآسيوي من اسطنبول.
استمرت فترة السماح التي أعطاها مجلس الأمن القومي والمحكمة الدستورية العليا لأردوغان، إلى يوم 27 نيسان 2007، لما صدرت مذكرة هيئة رئاسة الأركان بشأن المخاطر القائمة على النظام العلماني، وما أعقبها من قرار المحكمة الدستورية العليا بضرورة توافر نصاب الثلثين بالبرلمان في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية لمنع ترشّح عبد الله غول مع أن ذلك لم يطبّق في انتخاب أوزال عام 1989 وفي انتخاب ديميريل في1993، ما أدى إلى حل البرلمان والدعوة لانتخابات عامة في شهر تموز، عاد من خلالها حزب أردوغان أقوى (47 في المئة من أصوات المقترعين) فيما أصبح في البرلمان أربعة أحزاب بدلاً من اثنين، حيث تجاوز حاجز 10 في المئة من الأصوات أيضاً حزب أتاتورك و«الحركة القومية» و«حزب المجتمع الديموقراطيّ» الموالي لحزب عبد الله أوجلان.
قاد هذا إلى تجاوز عقدة الثلثين في انتخابات رئيس الجمهورية، ليصل إلى قصر أتاتورك رئيس إسلامي زوجته محجبة، مُنعت في زمانها من الدخول للجامعة بسبب رفضها نزع الحجاب عند بابها لتذهب بدلاً من ذلك للدراسة في الولايات المتحدة، ثم ليجرؤ حزب العدالة والتنمية، من خلال تلك النتائج الانتخابية، على اقتحام محرمات الأتاتوركية ليستطيع بالتعاون مع القوميين والأكراد تأمين ثلاثة أرباع أصوات البرلمان في أوائل العام الحالي لتمرير قانون يسمح للمحجبات (ثلثا فتيات ونساء تركيا محجبات) بأن يدخلن بحجابهن إلى حرم ومقاعد الجامعة.
أدّى هذا إلى دخول مجابهة الإسلاميين والعلمانيين مرحلتها القصوى: رُفعت دعوى بإلغاء القرار البرلماني أمام (المحكمة الدستورية العليا)، ثم أُتبعت بدعوى أخرى لحظر الحزب الحاكم، ليأتي قرار هذه المحكمة الصادر مؤخراً بنقض قرار البرلمان مؤشراً إلى قرب صدور قرار ثانٍ بحظر حزب رجب طيب أردوغان.
من الواضح، عبر مسار خمسة وثمانين عاماً من الأتاتوركية، أنها أيديولوجيا علمانية تضع معايير وسقوفاً وحدوداً أمام السياسة والمجتمع والفرد، تحاول قولبة الجوانب الثلاثة الأخيرة من خلال ذلك: لما تجاوز اليساريون ــ الذين كانت كل أحزابهم ممنوعة حتى بداية القرن الحالي ــ الحدود، المحددة أتاتوركياً، للسياسة، قام العسكر بانقلابي1971 و1980، فيما لما قام اليمينيون المتدينون المحافظون على طراز مندريس (الذي خرج من عباءة حزبه بعد عام1960 كل من سليمان ديميريل وتوركوت أوزال ونجم الدين أرباكان)، والإسلاميون، بتجاوز الحدود، المرسومة أتاتوركياً، للسياسة والمجتمع والفرد قام الجيش ــ المدعوم من العلمانيين المدنيين ــ بانقلابي1960 و1997، ويبدو أنهم ينوون الآن إعادة السيناريو، ولو بشكل «ما»، مع أردوغان.
كل ذلك يقود إلى طرح إشكالية لم تناقش بعد، بعمق وجدية، في الفكر السياسي العربي، الحديث والمعاصر: ألا تؤدي تجربة الأتاتوركية، الآتية من التجربة العلمانية الفرنسية، إلى نقض «الترابط» الذي يقيمه الكثير من اليساريين العرب ونظرائهم الليبراليين ــ الآتين بمعظمهم الآن من تجارب ماركسية أو ستالينية سابقة ــ بين العلمانية والديموقراطية مشترطين التلازم بينهما ومعتبرين تحقّق الأولى شرطاً للوصول إلى الثانية؟
* كاتب سوري
الأخبار
عدد الخميس ١٢ حزيران ٢٠٠٨