صفحات مختارة

صلاة التراويح في كنائس الغرب!

د.خالد الحروب
نقلت تقارير صحفية أخباراً وصوراً لمسلمين في كندا وإيطاليا يؤدون صلاة التراويح في كنائس بسبب عدم وجود مساجد أو مراكز إسلامية تتسع لأعدادهم المتزايدة. أهم ما تلك الأخبار هو سماح القساوسة والقائمين على تلك الكنائس للمسلمين بأداء صلاتهم هناك. تصريحات بعض القساوسة أشارت إلى أن تجربة كنائسهم ومسيحييها مع المسلمين في الأحياء المشتركة كانت تجارب إيجابية وهم لم يروا من المسلمين إلا ما يشجعهم على الترحاب بهم للصلاة في تلك الكنائس. وفي الدنمارك، البلد الذي تعرض لحملة شرسة في طول وعرض العالم الإسلامي بسبب نزق أحد رسامي الكاريكاتير فيه، نقلت الأخبار منذ عدة أسابيع حادثة إنسانية جميلة بشأن أحد سائقي الباصات الصوماليين المسلمين. فالسائق المذكور دهش في أحد الأيام عندما دخل الباص ليبدأ يوم عمله حين وجد الباص مملوءاً بالزهور والهدايا وبطاقات التهنئة، ليكتشف أنها موجهة إليه من قبل سكان الحي الذين يخدمهم في عمله اليومي. وأدرك متأخراً أن ذلك كله بسبب عيد ميلاده الذي ربما يمر كل عام من دون أن يلتفت إليه سائقنا العزيز. هناك قصص تعايش مشترك للمسلمين في الغرب، وهناك سلوكيات غربية إنسانية تجاه المسلمين لا تعد ولا تحصى، أساسها تقدير الأداء الفردي بعيداً عن الخلفية الدينية أو الإثنية. لكن المشكلة الأساسية هي أن الإعلام الغربي والعربي في آن معًا لا يطرب إلا على القصص الدموية، والقصص السلبية، وكل ما لا يعزز التعايش ويشير إلى تأبيد مقولات إن الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان. المهم هنا هو ضرورة التوقف ملياً وبتأمل عميق في السلوك الحضاري الراقي المتمثل في استقبال الكنائس لهم لأداء صلاة التراويح فيها، وما يمكن أن يتفرع من ذلك التأمل.
في البدء يمكن القول إن هذه الحادثة تفرض تعزيز فقه الأولويات وعدم السماح للقضايا الهامشية أن تأكل الأخضر واليابس في العلاقة بين الأقليات المسلمة في الغرب والمجتمعات المضيفة. القضايا الهامشية هي تلك القضايا التي لا تعني الغالبية الكاسحة للأقليات، ولا تعتبر أصلاً من أصول الدين، وتثير حساسيات وكراهية واستفزاز عند الغربيين بما لا ضرورة له. هناك مثالان على القضايا الهامشية التي تؤدي إلى الانخراط في معارك إضاعة وقت وجهد لا معنى لها، الأول النقاب في أوروبا، والثاني المسجد أو المركز الإسلامي الذي يُراد له أن يبنى في نيويورك قريباً من الأرض التي كان يقام عليها برجا مركز التجارة العالمي. النقاب الذي يجب أن يرفض المسلمون، وأولهم مصلو التراويح، أن تُختصر صورة الإسلام به إذ لا يخص إلا عدداً محدوداً من النساء اللواتي غالبيتهن يلبسنه في أوروبا من دون أن يعرفن لماذا، وهو لا يجب أن تُخاض لأجله معركة ولا ما يحزنون. وبهذا فهو قضية أكثر من ثانوية لا تستحق أن توتر الأجواء بين المسلمين والغرب، فهناك ما هو أهم منه بكثير. أما المسجد المُثارة حوله اعتراضات عديدة ووفر لليمين المحافظ والصهيوني مادة جاهزة لمهاجمة مسلمي أميركا فهو أيضا معركة خاسرة من ناحية ثقافية وسياسية، حتى لو ربح القائمون عليه المعركة القانونية. من ناحية قضائية بحتة، ومن ناحية نظرية صرفة، فإن من حق مسلمي نيويورك بناء المسجد والمركز الإسلامي الذي يريدونه طالما ذلك في إطار القانون ويلبي الشروط التي تضعها بلدية نيويورك. فهم جزء من المدينة الكوزموبوليتانية وهم مواطنون كغيرهم من المواطنين من الأديان الأخرى. لكن المسألة التي يجب أن تسيطر على عقل من يقفون خلف بناء المسجد يجب أن تتجاوز المحاججة القانونية، وتسجيل النقاط القضائية. ففي نهاية المطاف ليس من النجاح أن يظفر المسلمون في نيويورك بحكم محكمة تسمح لهم ببناء مسجد ضد رغبة نصف السكان أو أكثر. والاستفزاز والحساسيات التي يثيرها بناء المسجد قريبًا من ذلك المكان، بحق أو من دون حق، لا تستحق الإصرار على بناء المسجد فيه على وجه التحديد. ليكن بناء ذلك المسجد في بقعة أكثر ابتعاداً عن ذلك المكان إن كان ذلك يوفر على المسلمين هناك الانخراط في معركة لا معنى لها وتستفز خصوماً جدد للمسلمين.
مثال مسجد نيويورك ينطبق على حالات عديدة في الغرب حيث سرعان ما يلجأ المسلمون إلى القانون للاحتماء أو الاستقواء به لتحقيق هدف أو مصلحة ما. إتباع المسار القضائي لتحقيق المصالح هو ممارسة طبيعية وعادية في المجتمعات الغربية حيث يتصف القضاء بالنزاهة غالبا وعدم سيطرة السلطة التنفيذية عليه. لكن مرة أخرى ليس من الحكمة اللجوء إلى القضاء في كل قضية صغيرة وكبيرة خاصة عندما تكون هامشية إذ أن كسب المعركة القانونية على المدى القصير يؤدي إلى خسارة المعركة الثقافية والسياسية على المدى الطويل، من حيث إثارة الاستفزاز والخصوم. وهذا الاستفزاز وإثارة الخصوم يبني رأياً عاماً سيؤثر في المستقبل على القوانين نفسها التي يلجأ إليها المسلمون. ما الذي يكسبه المسلمون وسمعتهم والنظرة إليهم من “معركة قضائية” تكسبها ممرضة مسلمة كي لا تكشف ساعديها خلال عملها، وتفرض على وزارة الصحة سن قانون جديد ومكلف، في مقابل خسارة ممرضة مسيحية “معركة قضائية” حول السماح لها لبس الصليب في عنقها خلال العمل؟ “المعركة القضائية” تكون هنا محصورة بتسجيل النقاط القانونية وهي محض تقنية وميكانيكية. لكن معركة الصورة والمعركة الثقافية والسياسية أهم بكثير وتكون مهمومة بمسائل مثل الاستفزاز المتراكم، وتوسعة نطاق الخصوم، وتعميق الكراهية. في عدد من الحالات تتزايد معدلات العنصرية وكراهية الأجانب والمسلمين باضطراد مع تزايد كسبهم لمعارك قضائية في قضايا هامشية.
عود إلى بدء وحول ضرورة التأمل في الممارسة الرائعة والحضارية بالسماح للمسلمين في أداء صلاة التراويح في الكنائس، فإننا بحاجة أيضا لإجراء تأمل ونقد ذاتي يفترض الحالة المعاكسة. فمثلا: ما هو الموقف لو أراد مسيحيون في أي بلد إسلامي استخدام المساجد لأداء صلاة الأحد بسبب عدم توفر دور عبادة مسيحية؟ بل لنتواضع أكثر من ذلك ونسأل ما هو الموقف في معظم البلدان العربية والإسلامية من مطالبات الأقليات الدينية، ليس المسيحية فحسب، بل والهندوسية والسيخية وغيرها إقامة دور عبادة خاصة بها؟ ما يتم في الواقع في بعض بلداننا هو إزدواجية حيث نرفع سقف مطالباتنا الدينية في الغرب، ولا نقبل بأن نطبق أقل القليل من تلك المطالبات على الأقليات الدينية التي تعيش بين ظهرانينا.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى