صفحات مختارة

هزيمة الأصولية في أوروبا.. ونجاحها عربياً

كرم الحلو
إزاء الأصوليات الظلامية المتشددة في عالمنا العربي كثيراً ما نلوذ الى الحضارة الأوروبية باعتبارها النموذج الواجب اقتفاؤه للخروج من محنة فواتنا التاريخي المتمادي. لكننا سوف نقع ضحية التصوّر المثالي إذا نظرنا الى هذه الحضارة وكأنها معجزة محصورة بالشعوب الأوروبية ولم ننظر إليها من خلال تولدها التاريخي المتدرج والصاعد. فالحضارة الأوروبية بسماتها الحداثية المتقدمة لم تأتِ مكتملة ناجزة، وإنما جاءت نتيجة معاناة قاسية ومديدة سقط فيها ملايين الضحايا، وكابد من اجلها فلاسفة ومفكرون وأدباء الشقاء والعذاب، إرهاباً وظلماً ونفياً.
ابتدأ عصر التنوير في أوروبا في القرن السابع عشر وانتهى بالثورة الفرنسية التي كانت ثمرته اليانعة ومحصلته الأخيرة. في ذلك الوقت، كانت أزمة الوعي الأوروبي مع ذاته قد وصلت الى ذروتها القصوى، وكان الوعي المسيحي التقليدي قد أصبح عاجزاً عن مسايرة التطور ضمن صيغته التقليدية المتحجرة، ما دفع الى الانفجار، وكان انفجاراً مدوّياً هائلاً وصلت أصداؤه الى مختلف أرجاء القارة الأوروبية والعالم، وعنه نتجت كل الثورات الحديثة من انكليزية وأميركية وفرنسية. وقد سبق الانفجار الفكري الانفجار السياسي بزمن طويل، وكان فولتير وروسو وديدرو وليسنغ يعرفون انهم سيموتون قبل ان يروا النتيجة، ولكنهم مع ذلك ناضلوا وضحوا من أجل الحرية.
وإذا كانت المسيحية قد تصالحت مع الحضارة الحديثة، فإن ذلك يعود الى الجهود التي بذلها فلاسفة التنوير قبل مئتي سنة. هؤلاء تعذبوا وشقوا وواجهوا غضب الكنيسة والأصوليين، وأجبروا رجال الدين على تنظيف العقيدة من شوائب لاعقلانية كثيرة، لكي يتراجع الإيمان المتعصب الأعمى لمصلحة إيمان جديد واسع منفتح وعقلاني.
هذه المسيرة التنويرية الضخمة لم تحصل حتى الآن في العالم العربي او الإسلامي ولذلك فإن الانفجارات الطائفية والمذهبية أصبحت تهدّد كل مجتمعاتنا من المغرب الأقصى الى الباكستان مروراً بالعراق وسوريا ولبنان ومصر وإيران وأفغانستان. وما المجازر التي ترتكبها «القاعدة» او سواها من الأصوليات المتطرفة إلا دليل على مدى عمق الأزمة التي يعيشها العالم الإسلامي مع نفسه ومع الحداثة الكونية.
في هذا الإطار المعقّد يستعيد هاشم صالح في «معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا» كيفية تشكل الحداثة الأوروبية من خلال صراعها الجدلي والخصب مع الأصولية، لأننا لا يمكن ان نفهم ما يحل بنا من أحداث مأساوية، إلا إذا قارنّاها بحالة خارجية واجهت الظروف نفسها. ضمن هذا المنظور يتناول المؤلف رموز التنوير الأوروبيين الكبار، من ديكارت الى سبينوزا وفولتير وديدرو وليسنغ وكانط وهيغل وسان سيمون الى أوغست كونت وفكتور هيغو مستعرضاً محنهم ومكابداتهم. فالعالم الفيزيائي غاليلو حوكم وأمضى بقية حياته كلها في الإقامة الجبرية، والعالم الايطالي جيوردانو برينو قطع لسانه وقتل في السجن بعد سنوات من التعذيب، وديكارت وغاسندي عاشا معاناة قاسية مع الكنيسة التي رفضت النظريات العلمية الحديثة وأصرت على فرض قراءتها الحرفية للكتاب المقدس، ما حدا بغاسندي الى تأجيل نشر كتبه الى ما بعد موته، وديكارت الى الهجرة الى هولندا التي عاش فيها أكثر مما عاش في بلده الأصلي. وسبينوزا، فيلسوف التنوير واجه رجال الدين في ظروف أشد صعوبة وخطورة.
وفولتير زعيم الأنوار الفرنسية والذي وصفه نيتشه بـ«أحد كبار محرري الروح البشرية» عاش حياته، وهو الكاثوليكي الأصل في البلدان البروتستانتية، مكرساً نفسه لمحاربة التعصب والاستبداد السياسي والإكراه في الدين، مناضلاً في سبيل فصل السياسي عن الديني، ولم يقيّض له ان يعود الى وطنه إلا في الرابعة والثمانين من عمره، أي قبل وفاته بثلاثة أشهر. وبهذا خلّد اسمه في التاريخ كمناضل من أجل حرية الفكر، وأصبح رمزاً للتسامح الديني والإخاء بين البشر حتى ليمكن اعتباره فيلسوف التنوير في أوروبا والعالم.
أما ايمانويل كانط، فقد مشى بالعقلانية الى نهاياتها. التنوير هو النقد بالمعنى العميق للكلمة، وهو استخدام العقل بحرية مطلقة لا تحدها حدود اللاهوتيين.
أما فريدريك هيغل الذي ذهب في «فينو مينولوجيا الروح» الى ان الروح هي دائماً في حالة حركة، وهي التي تحرّك العالم بشكل خفي وتؤدي الى التقدم التاريخي الذي غايته النهائية الحرية، فقد مجد القيم التي دفعتها الثورة الفرنسية، وأعلن انحيازه الى معسكر التجديد، ما وصفه في مواجهة العقل اللاهوتي، لمناداته بمسيحية مستعادة في براءتها الأصلية، مخلصة من تراكمات الزمن وشوائب القرون.
كتاب هاشم صالح يقرأ بشغف لأسلوبه الشيق والرصين وبعده عن التعقيد الذي يشوب بعض المؤلفات ذات الطابع الفلسفي والايديولوجي، وهو يشكّل في رأينا إسهاما مهما في معركة التنوير العربية يضاف الى إسهامات المؤلف السابقة في هذا المجال، لتسليطه الضوء على صراعات التنويريين والأصوليين في الغرب والتي انتهت بانتصار العقلانية والتفكير الحر والتعددية العقائدية على الأحادية والاستبداد الديني والمذهبي، الأمر الذي سيكون له من دون شك مردود إيجابي على حركة التنوير.
إلا اننا نتساءل هل كان للثورة الفكرية ان تنتصر في الغرب لولا التحولات الاقتصادية والعلمية التي شكلت قاعدتها المادية؟ وهل يمكن لمثل هذه الثورة ان تنتصر في عالمنا العربي بواقعه الاقتصادي والعلمي المتخلف؟ هل يستطيع الإنسان العربي ان يفلت من أسر المرجعيات الفقهية المستبدة وهو على ما هو عليه من الفقر والأمية، وفي حين هو يواجه عتو المشاريع الصهيونية والامبريالية من فلسطين الى لبنان والعراق والسودان وكل مكان من العالم العربي؟
ثم لماذا يتم التركيز فقط على معارك التنويريين والأصوليين في الغرب؟ ألم يكن ثمة حركة تنويرية عربية موؤودة لها رموزها وأبطالها وشهداؤها ووجوهها المشرقة يتم تجاهلها او تهميشها بينما تجب استعادتها من جديد كأسطع تعبير عما في تاريخنا من إرهاصات الرفض والثورة وانشداد الى الحرية والتقدم؟ ألم يمت اسعد الشدياق جلداً بالسياط عام 1829 على يد السلطة الطائفية المستبدة دفاعاً عن معتقده؟ ألم يستشهد جبرائيل دلال تحت التعذيب عام 1892 بتواطؤ السلطتين الاستبداديتين العثمانية والطائفية لتبنيه المنظومة الفكرية التنويرية الليبرالية بالكامل؟ ألم يستشهد عبد الرحمن الكواكبي مسموماً عام 1902 دفاعاً عن الحرية الإنسانية في وجه الاسبتداد والتخلف؟ ألم يقارع فرنسيس المراش رجال الدين في حق المفكر والعالم في التصدي الحر للمسائل الفلسفية والعلمية، وقد كان تعرض للهلاك لولا انه لاذ بالحماية الفرنسية؟ ألم يرفض رجال الدين الصلاة على النهضوي الرائد أديب اسحق لتبنيه مبادئ الحرية والقيم الثورية الليبرالية؟ وما كان امضى فارس الشدياق ورزق الله حسون العمر مشردين عن ديارهما لولا أفكارهما التنويرية ودفاعهما عن حرية الرأي ومجابهتهما قوى التسلط والاسبتداد؟
ثم ألا يمكن اعتبار جبران خليل جبران وأمين الريحاني ومارون عبود وغيرهم من رواد نهضتنا الحديثة اصحاب مشاريع تنويرية على شاكلة روسو وفولتير ومونتسكيو؟
من هنا يجب أن تستحضر في رأينا، في موازاة معارك التنويريين والأصوليين في الغرب، معارك التنويريين والأصوليين في تاريخنا العربي الحديث.

([) معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا تأليف هاشم صالح
دار الساقي 2010، 384 صفحة
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى