صفحات العالم

النظام الإمبراطوري والتباس القانون والقوة والدولي والعالمي

حسن شامي
تنشأ الإمبراطوريات دائماً، على ما يبدو، مشروعاً أو صيغة ذات طابع عالمي لحلّ الأزمات وفضّ النزاعات المنتشرة، هنا وهناك، والتي لا يبخل الاجتماع والتاريخ البشريان في توليدها. وتنسب الإمبراطورية لنفسها دائماً مهمة تثبيت الاستقرار وحفظ النظام والسلام العالميين، وذلك باعتبارها الحاضنة الشرعية للقيم والمبادئ العالمية التي لا تقف عند حدود السيادات المفترضة لهذا الكيان الاجتماعي أو ذاك. وهذا ما يملي الحاجة إلى تمتعها الضروري بترسانة من القوانين والتشريعات والتدابير التي ترعى بمقتضاها، وإن ظاهرياً وبطريقة ملتبسة في معظم الأحيان وبصرف النظر عن مصدر هذه القوانين والتشريعات، نظام العالم الذي تسوسه.
لا يقتصر الحق الإمبراطوري في حفظ الاستقرار العالمي على التدخل العسكري، فهو يقوم كذلك على التدخل الحقوقي القانوني وعلى التدخل الأخلاقي والمعنوي، بحسب قراءات فلسفية سياسية حديثة لمفهوم الإمبراطورية وقوامها ومنطق اشتغالها. نحن اليوم في زمن إمبراطورية عابرة للحدود الوطنية والقومية بحيث يصبح من الصعب تعيين ما يشغل فيها موقع المركز وموقع الأطراف. فهي، خصوصاً بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته، تشمل العالم كله، من الخارج ومن الداخل معاً. وتتعزز قدرتها على الاشتمال من قوة تحكمها بالتقنيات الهائلة وغير المسبوقة للإنتاج والاتصال والمراقبة. وقد بات معلوماً أن عدداً من المفاهيم السائرة منذ فترة وجيزة، خصوصاً في الغرب الأميركي والأوروبي، كـ «الحرب العادلة» وحق التدخل الإنساني والحروب الاستباقية والنظام العالمي الجديد… تندرج في سياق البناء الإمبراطوري هذا وضرورة ترسيخه. على أن الإمبراطوريات الناشئة هي نفسها عن أزمة تستولد بدورها أزمات ناتجة، من جهة، عن توليدها كيانات ذاتية جماعية أو فردية متباينة ومدعوة للتنافس وربما التنازع على موقع تمثيلها المحلي في الكنف الإمبراطوري، وعن حاجتها الاستراتيجية إلى تحديد الأولويات وتعيين تراتبيتها، من جهة أخرى. وثمة هنا مفارقات. أولى هذه المفارقات أنّ الإمبراطورية النازعة إلى فتح الحدود والأسواق وتسهيل حركة الاتصال والتنقل، لا تستطيع إلغاء اعتبارات الدول القومية المتمثلة في هيئة الأمم المتحدة التي تضطلع بالقوانين الدولية المتعارف عليها.
يمكن بالتالي أن ينشأ اختلاف بين مفهوم دولي للقانون ترعاه الأمم المتحدة وبين قانون إمبراطوري عالمي لا يعبأ كثيراً بسيادة الدولة – الأمة الموروثة عن زمن سابق. وقد رأينا شيئاً من هذا في حرب العراق عندما شنّ أركان الإدارة الأميركية السابقة حملة قاسية على فريق المفتشين الدوليين عن أسلحة الدمار الشامل، واختلقوا شتى الوسائل لتبرير اجتياح العراق من دون قرار دولي. باختصار، الدولي لا يتطابق مع العالمي أو العولمي. وينشأ عن هذا التباين التباس يشوب العلاقة بين القوة والقانون. المفارقة الثانية، من دون التوسع فيها إذ إنها خارج موضوعنا موقتاً، هي أنّ الإمبراطورية التي تزعم تعليق التاريخ باسم كونية زاحفة وخلاصية، إن لم يكن نهايته بحسب قراءة متسرعة في تفاؤلها التبشيري لفوكوياما، تستنهض تاريخيات أخرى محلية يختلط فيها القومي الحديث بالخصوصيات العرقية والدينية والمذهبية ما يؤجج النزاعات ويسبغ عليها صفة الإطلاق.
سنتوقف اليوم عند المفارقة الأولى، أي تلك المتعلقة بحاجة النظام الإمبراطوري العالمي إلى هيئة ناظمة للعلاقات الدولية مثل الأمم المتحدة مع اعتبارها في الوقت نفسه زائدة عن الغرض: لزوم ما لا يلزم. يترتب على ذلك حصول التباس في العلاقة بين القانون والقوة، كما سبق وأشرنا. لا حاجة ربما للقول إن الولايات المتحدة الأميركية تحتل موقعاً بارزاً ومتقدماً، اقتصادياً وعسكرياً وتقنياً ورمزياً، في النظام العالمي هذا، من دون إغفال المواقع التي تحتلها قوى أخرى داخل المـــنظومة العالمية المتزايدة التشابك وترابط الحلقات كما تبيّن من الأزمة المالية أخيراً. فثمة، على الأقلّ، قضيتان مطروحتان في هذه الأيام للنظر على ضوء الالتباس المذكور: المفاوضات المباشرة بين الفلســـطينيين والإسرائيليين، والتحقيق الدولي في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. في ما يخص القضية الأولى، يرجح في الظن أن المفاوضات ستحصل على رغم اعتراض الطرف الفلسطيني على عدم وجود مرجعية وعدم وجود ضمانات لعقدها. والتصريح الذي أدلى به أبو مازن رئيس السلطة الفلسطينية عن الضغوط الدولية غير المسبوقة التي يتعرض لها هو في الحقيقة تحضير للرأي العام الفلسطيني لقبول التفاوض ولو على مضض. ولا نعلم ما إذا كانت أزمة السلطة المالية المنذرة بالعجز عن دفع رواتب الموظفين هي من نتائج الضغوط. وكانت قد صدرت عن الإدارة الأميركية ورئيسها تحذيرات للفلسطينيين جاءت أقرب إلى التهديد والوعيد منها إلى أي شيء آخر. وانتظرت السلطة الفلسطينية صدور بيان اللجنة الرباعية. الذي توقع مصدر فلسطيني، أن يتضمن فقرات من البيان الذي أصدرته الرباعية عقب اجتماعها في موسكو في آذار (مارس) الفائت، وأنه سيتحدث عن المرجعية وهي حل الدولتين على أساس إنهاء الاحتلال الذي بدأ عام 1967، وذلك بإقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً وقابلة للحياة، كما سيكون هناك سقف زمني للمفاوضات وهو أقل من عامين. تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الإسرائيلية أعلنت قبل أيام أنها سترفض أي نص يصدر عن الرباعية ويتضمن مثل هذه الشروط للتفاوض المباشر، وقالت إنها تتوقع بياناً أميركياً أكثر توازناً [كذا] من تلك الصيغة المتداولة. نسأل: لماذا لا يحق للسلطة الفلســـطينية المـــلتزمة عملية الســـلام أن ترفض مفاوضات لا تتوافر لها شروط التفاوض؟ لأنها لا تقوى على ذلك، يجيب الواقعيون السياسيون الذين ساهموا حثيثاً في الوصول إلى هذا الوضع. نعرف المعزوفة: القوي يفرض قانــــونه. على أن سلوك الإدارة الأميركية يتعدى هذه المرة لعبة الالتباس بين القانون والقوة. فهو ينم عن غانغسترية تلخصها جيداً عبارة «سأقدم له عرضاً لا يستطيع أن يرفضه». قد يكون صحيحاً أن السلطة أوصلت نفسها إلى هذا المحل، ولكن ليس هذا موضوعنا الآن.
في ما يخص التحـــقيق الدولي في اغتيال الرئيس الحريري والتسريبات عن القرار الظني للمحـــكمة الدولية الخاصة بلبنان واحتمال اتهامه عناصر من حزب الله، يبدو أن هناك مؤشرات إلى عرض صفقة من الصنف الموصوف أعلاه. ولكن ينبغي الانتباه إلى أن ما قد يعجز أبو مازن عن رفضه لا يعجز حزب الله عنه. مع العلم أن الوجهة التي كان مقرراً للقرار الدولي 1559 أن يرسمها كان مطلوباً منها إيصال الحزب إلى وضعية تجعله غير قادر على رفض ما يعرض عليه. وقد فشلت هذه الخطة حتى الآن.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى